أحد الثّالوث الأقدس
(متى 28: 16-20)
16. وأَمَّا التَّلاميذُ الأَحَدَ عَشَر، فذَهبوا إِلى الجَليل، إِلى الجَبَلِ الَّذي أَمَرَهم يسوعُ أَن يَذهَبوا إِليه.
17. فلَمَّا رَأَوهُ سَجَدوا له، ولكِنَّ بَعضَهُمُ ارْتابوا.
18. فَدَنا يسوعُ وكَلَّمَهم قال: "إِنِّي أُوليتُ كُلَّ سُلطانٍ في السَّماءِ والأَرض.
19. فاذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم، وعَمِّدوهم بِاسْمِ الآبِ والابْنِ والرُّوحَ القُدُس،
20. وعَلِّموهم أَن يَحفَظوا كُلَّ ما أَوصَيتُكُم به، وهاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إِلى نِهايةِ العالَم".
مقدّمة
تحتفلُ اللِّيتورجيةُ المارونيَّةُ في هذا الأسبوعِ، في أحدِ أهمِّ، لا بل أهمِّ، الأسرارِ المسيحيّةِ بعدَ الموتِ والقيامةِ، ألا وهو أحدُ الثَّالوثِ الأقدسِ. إنّه مصدرُ الأسرارِ الأخرى، وهذه الأخيرةُ تُفهمُ على ضوئه. بمعنًى آخرَ، تُفهمُ الأسرارُ على ضوءِ شراكةِ الحبِّ الّتي تَجمعُ الآبَ والابنَ والرُّوحَ القُدُسَ. كيف لا، وقصّةُ الخلاصِ برمّتها هي قصّةُ حبٍّ تتجسَّدُ بالأقانيم الثَّلاثةِ، وقد أتى يسوعُ ليصالحنا ويُدخلُنا بشراكةِ الحبِّ هذه بعدما فصلتنا الخطيئةُ. بناءً عليه، لن يُفْهَمَ من هذا السرِّ شيئٌ. فمن يحاولُ أن يفهمَه فقط على مستوى العقلِ والمنطقِ، يتعثَّرُ بكثيرٍ من الصّعوباتِ. وهذا ما تؤكّده الكنيسةُ الكاثوليكيّةُ في تعليمِها "فالإنسانُ الّذي يحاولُ معرفةَ اللهِ على ضوءِ العقلِ وحدَه سوف يصطدمُ بصعوباتٍ جمّة. إذ لا يمكنُه أن يدخلَ في حميميّةِ السِّرِّ الإلهيّ" (راجع مختصر تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة، 4).
شرح الآيات
16. وأَمَّا التَّلاميذُ الأَحَدَ عَشَر، فذَهبوا إِلى الجَليل، إِلى الجَبَلِ الَّذي أَمَرَهم يسوعُ أَن يَذهَبوا إِليه.يبدأُ متّى بتحديدِ عددِ التّلاميذِ، ويبيّنُ لنا أنّه ينقصُهم واحدٌ وهو يهوذا الّذي لم يعدْ موجودًا بعد خيانتِه المعلّمَ. تركَ الرَّبُّ العددَ ناقصًا لأنّه وفيٌّ لكنيستِه، لم يستبدِلْهُ ولم يخترْ مَنْ هو أكثرُ وفاءً وشجاعةً. بكلمةٍ واحدةٍ، هو لم يبدأْ من جديدٍ، بل أكملَ مغامرةَ الحبِّ مع التّلاميذِ أنفسِهم، هم الّذين أنكروه وهربوا. لقد عادَ ليكملَ معهم، لأنّه الوفيُّ الدَّائمُ، ولأنّه يَثِقُ فينا، رُغمَ الخياناتِ المتكرّرةِ ورُغمَ الخوفِ الّذي يلفُّ قلوبَنا. عادَ ليكملَ معهم لأنّه قادرٌ على تحويلِهم إلى صورتِه إِنْ هم استسلموا بين يديه واثقين به.
ذهبَ الرُّسلُ إلى الجليلِ. وهو مكان ُاللّقاءِ الأوّلِ لهم مع يسوعَ. هناك سمعوا صوتَه يدعوهم لأن يتركوا كلَّ شيءٍ ويتبعوه. سيلتقيَهم هناك مجدّدًا بالرُّغمِ من الخياناتِ والشَّكِّ الّذي انتابَهم. هو يدعوهم إلى الجَليلِ ليبدأَ معهم من جديدٍ فيدعوهم إلى شراكةِ حبٍّ دونَ شروطٍ. والعودةُ إلى الجليلِ في بعدِها اللّاهوتيّ، هي انطلاقُ الكنيسةِ في بشارتِها لا من أورشليمَ بل من جليلِ الأممِ، مكانِ الوثنيّين.
إِلى الجَبَلِ الَّذي أَمَرَهم يسوعُ أَن يَذهَبوا إِليه. عن أيِّ جبلٍ يتحدّثُ؟ لا نَعْلَمُ. إلاّ أنّ الجبلَ هو مكانٌ مميّزٌ عندَ متّى يستعين به عند كلِّ حدثٍ لاهوتيٍّ (راجع على سبيل المثال مت 4: 8-10، 14: 23، 15: 29-30، 17: 1-8). بناءً على ذلك، لا يمكنُنا أنْ نفهمَ سرَّ الثَّالوثِ إلاّ إذا صعدْنا إلى الجبلِ، أي أنْ نرتفعَ بالإيمانِ، الّذي به وحدَه يمكنُنا أنْ نفهمَ عمقَ شراكةِ الحبِّ هذه، إلى جانبِ الفَهمِ العقليّ.
17. فلَمَّا رَأَوهُ سَجَدوا له، ولكِنَّ بَعضَهُمُ ارْتابوا.
18. فَدَنا يسوعُ وكَلَّمَهم قال: "إِنِّي أُوليتُ كُلَّ سُلطانٍ في السَّماءِ والأَرض.
لم يحدّدِ الإنجيليُّ هويّةَ هذا "البعضِ" ويسوعُ في المقابلِ لم يعطِهِمْ أيّة علامةٍ ليؤمنوا. في الواقعِ، في داخلِ كلٍّ منّا شخصٌ مؤمنٌ وآخرُ مرتابٌ، واحدٌ ساجدٌ وآخرُ مشكّكٌ بهويّةِ القائمِ. ذلك لأنّنا لنْ نصلَ إلى اليقينِ النِّهائيِّ في وجودِنا هذا لأنَّ حقائقَ الثَّالوثَ تتخطَّى قدرتَنا على الفهمِ. فدعوةُ للمعلِّمِ للتّلاميذِ هي دعوةٌ للإيمانِ، للثِّقةِ في كلماتِ يسوعَ، وفي ترجِّي يومِ اللّقاءِ النَّهائيَّ معه في علاقةِ الحُبِّ الثّالوثيّةِ، حين نعايِنُ اللهَ وجهًا لوجهٍ ونفهمُ ولو القليلَ من حقيقةِ لاهوته، لاهوتٌ لا قدرةَ للعقلِ البشريِّ على سبرِ أعماقِهِ.
19. فاذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم، وعَمِّدوهم بِاسْمِ الآبِ والابْنِ والرُّوحَ القُدُس،
20. وعَلِّموهم أَن يَحفَظوا كُلَّ ما أَوصَيتُكُم به، وهاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إِلى نِهايةِ العالَم".
هي دعوةُ المعلّمِ لكلِّ مَنْ عاينَ القيامةَ وآمنَ بها، لأنْ يحملَ البشارةَ إلى النّاسِ أجمعين بمَنْ فيهم الأممِ الوثنيّةِ. الدّعوةُ المسيحيّةُ للتّبشيرِ هي دعوةٌ لتخطيّ الأنانيّةِ والإنغلاقِ على الذّاتِ وللإنطلاقِ نحوَ الآخرِ وإلاّ تُضحي الحياةُ المسيحيّةُ شبيهةً بنادٍ خاصٍّ يجمعُ قلَّةً نخبويّةً أو إثنيّةً مميّزةً. التَّبشيرُ يعني الإنطلاقَ إلى المختلِفِ المتمايزِ، والدُّخولَ في علاقةٍ معه، وبهذا المعنى تصبِحُ البشارةُ صورةً للعلاقةِ الثالوثيّةِ، إرتباطٌ بالحبِّ رغمَ اختلافِ الأقانيمِ. لا يمكنُ للمؤمنِ بالقيامةِ والثَّالوثِ أن يبقى منغلقًا على ذاتِه، بل هو مدعوٌّ لأن ينطلقَ للآخرِ المختلِفِ تمامًا كما الثالوثِ المنطلقِ دومًا: الآبُ ينطلقُ أبديًا نحو الإبنِ بالحبِّ، والإبنُ مستجيبٌ ومنطلقٌ أبديًّا نحو الآبِ بالحبِّ، ورباطُ الحبِّ السّرمديّ هذا الّذي يجمعُ الأقنومين هو الرُّوحُ القدسُ، المساوي لهما بالجوهرِ والمتمايزِ عنهما بالأقنومِ. وعَمِّدوهم بِاسْمِ الآبِ والابْنِ والرُّوحَ القُدُس. من يدخلْ بشراكةِ الحبِّ الثّالوثيّةِ هذه، ينطلقُ إلى الآخرِ ويدعوه لأنْ يدخلَ بدورِه في هذه الشّراكةِ. وعَلِّموهم أَن يَحفَظوا كُلَّ ما أَوصَيتُكُم به، وهاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إِلى نِهايةِ العالَم. إنّه دورُ الكنيسةِ وهدفُها أن تَحْمِلَ التّعليمَ إلى العالمِ أجمعين دونما تحريفٍ أو تحويرٍ. المسيحُ علّمَ الرُّسلَ، وواجبُ الرسولِ إيصالٌ تعليمِ المسيحِ إلى الأممِ ومساعدتِهم على المحافظةِ عليه. هذا الأمرُ نؤمنُ أنّه يحصلُ يوميًّا عبرَ الكنيسةِ، الّتي تعلِّمُ وتصحِّحُ وتراقِبُ وترافِقُ. هذه الكنيسةُ التي وُلدَتْ من جنبِ الابنِ المطعونِ على الصّليبِ قد شاءَها الآبُ وأحبَّها كوسيلةٍ لإتمامِ إرادتِه الخلاصيّةِ، وهي تسيرُ إليه، حاملةً أبناءَها نحوَه ليشاركوا، إنْ حافظوا على التّعليمِ الصحيحِ، في شراكةِ الحبِّ الثّالوثيّةِ. دليلُها ومرشدُها هو الرّوحُ القدسُ الّذي يلهِمُها وينيرُها لتعطيَ التَّعليمَ الحقَّ دونَ خطإٍ أو ضلالِ.