الخوري أنطوان القزي
مقالات/ 2021-03-05
هذا المثلُ هو أكثرُ الأمثالِ المعروفةِ والأحبُّ إلى قلبِ المسيحيّين. لم يكشفْ يسوعُ في أيّ مكانٍ آخرَ كما كشفَ هنا بطريقةٍ دراماتيكيّةٍ ومؤثّرةٍ غنى رحمةِ ومحبّةِ اللهِ الآبِ تجاهَ أبنائه الضّالّين. لم يَصِلِ الأنبياءُ يومًا إلى هذا العمقِ المرتبطِ بأبسطِ الوسائلِ. تحدّثَ هوشعُ، على سبيلِ المثالِ، عن حبّ اللهِ لزوجتِه (أي شعبِه) الخائنةِ. وتحدّثَ إرميا عن شعورِ اللهِ الشّغوفِ تجاهَ شعبِه المتمرّدِ الذي ذهبَ إلى المنفى. كلُّ هذا الشّعور بالحبّ والرّحمةِ والغفرانِ، جمعَه يسوعُ في هذا المثلِ الذي ستضعُه الكنيسةُ على مسامِعنا في منتصفِ زمنِ الصّومِ الكبيرِ، لتحثَّنا على التّوبةِ والعودةِ إلى أحضانِ أبينا، متسلّحةً بمحبّتِه الّتي تفوقُ خطيئتَنا وخيانتَنا.
يُقسمُ مثلُ الابنِ الضّالِّ إلى قسمين بواسطةِ ردّةٍ مشابهةٍ في آخرِ كلِّ قسمٍ "فنأكلَ وننعمَ، لأنّ إبني هذا كان ميتًا فعاشَ وضالاًّ فوُجد" (آ24 و 32). هذه الردّةُ التي تتكرّرُ تؤمِّنُ تماسكًا يبيّنُ العبرةَ التي سنجدُها منذ البدايةِ إلى النهايةِ. أحبَّ يسوعُ أنْ يقدّمَ تعليمَه عن رحمةِ الآبِ ومحبّتِه، فلجأَ إلى المقابلةِ بين ولدين صغيرٍ وكبيرٍ.
11. وَقَالَ يَسُوع: "كانَ لِرَجُلٍ ابْنَان.
12. فَقالَ أَصْغَرُهُمَا لأَبِيه: يَا أَبي، أَعْطِنِي حِصَّتِي مِنَ الـمِيرَاث. فَقَسَمَ لَهُمَا ثَرْوَتَهُ.
يُظهرُ لنا هذا المثلُ صورةَ الأبِ بحسبِ المفهومِ اليهودي: هو رأسُ العائلةِ من جهةٍ والمُمْسِكُ المتحكِّمُ بكلّ التّفاصيلِ الّتي تخصُّ عائلتَه من جهةٍ أخرى. إنّه السَّدُ، والمالكُ على كلّ ممتلكاتِ عائلتِه. لا بل يخبرُنا التّقليدُ أنّ ما يجنيه الابنُ يضَعُه بين يَدَي والدِه إن كان لا يزالُ يقيمُ بعد في منزلِ أبيه. هو المسلَّطُ على أهلِ بيتِه وعلى عبيده، ويملكُ على كلِّ الخيورِ الماديّةِ التي تخصُّ عائلتِه.
يخبرنُا المثلُ أنَّ الابنَ الأصغرَ طلبَ حصّتَه من الميراثِ. هو كلامٌ صريٌح دون مواربةٍ والتفافسٍ ولكنّه طلبٌ يعلنُ فيه الولدُ موتَ أبيه وهو لم يزلْ حيًّا. هو أرادَ حقّه وحصّتَه قبلَ، حتّى، أن يفارقَ أبوه هذه الحياةَ. هو أمرٌ ممكنٌ في العالمِ القديمِ وإن كانَ نادرًا وغيرَ مقبولٍ ببعدِه الأدبيِّ والأخلاقيِّ. سفرُ يشوعُ بن سيراخ يحذّرُ منه "لا تُوَلَ على نَفسِكَ في حَياتِكَ اْبنَكَ أَوِ اْمرَأتكَ أَو أَخاكَ أو صَديقَكَ ولا تُعْطِ آخَرَ أَمْوالَكَ لِئَلاَّ تَندَمَ فتَتَضرَّعَ إِلَيه بِها. ما حَييت وما دامَ فيكَ نَفَس لا تُسَلِّمْ نَفْسَكَ إِلى أَحَدٍ مِنَ البَشَر. فلأَن يَطلُبَ أَبْناؤُكَ مِنكَ خَيرٌ مِن أَن تَنظُرَ أَنتَ إِلى أَيدي أَبْنائِكَ. في جَميعِ أُمورِكَ كُنْ سَيِّدًا ولا تُلحِقْ عَيبًا بسُمعَتِكَ. عِندَ اْنقِضاءَ أيَّام حَياتِكَ وفي ساعةِ مَماتِكَ قَسِّمْ ميراثَكَ" (سير 33: 20-24)، وسفر طوبيّا يلحظه: "ثُمَّ خُذْ مِن هُنا نِصْفَ ما عِنْدي وعُدْ سالِماً إِلى أَبيكَ. وأَمَّا النِّصفُ الثَّاني فيَصيرُ لَكَ بَعدَ مَوتي ومَوتِ امرأَتي" (طو 8: 21). ليسَ من الحكمةِ بمكانٍ أنْ يوزّعَ الوالدُ ميراثه على أولادِه وهو حيٌّ بعدُ، فهو بفعلتِه هذه يضعُ نفسَه تحتَ رحمةِ سلطَتِهم.
13. وَبَعْدَ أَيَّامٍ قَلِيلَة، جَمَعَ الابْنُ الأَصْغَرُ كُلَّ حِصَّتِهِ، وسَافَرَ إِلى بَلَدٍ بَعِيد. وَهُنَاكَ بَدَّدَ مَالَهُ في حَيَاةِ الطَّيْش
لحظةَ ابتعادِه عن نظرِ أبيه، سارعَ الابنُ الأصغرُ إلى إظهارِ الأهدافِ الّتي دفعتْه إلى طلبِ الميراثِ مدَّعيًا الحقَّ بالحريّةِ. ميولُه الطّبيعيّةُ قادتْه إلى ما هو دنيويٌّ وماديٌّ "بدّدَ مالَه في حياةِ الطَّيشِ". يتبيّنُ لنا من خلالِ النّصِّ، أنَّ الابنَ الأصغرَ خطّطَ لأهدافَه مسبقًا، وبناءً عليه قرّرَ بكاملِ وعيِهِ وإرادتِه الانفصالَ عن بيتِ أبيه. أمّا المُفاجئُ والمُدهِشُ هو حبُّ هذا الوالدُ الّذي لا حدودَ له. هو قَبِلَ أن يكون ميتًا وهو على قيدِ الحياةِ، فأعطى والولدَ حصّتَه ولم يمنعْه من الذّهابِ، علَّه بذلك يتركُ له مساحةً تساعدُه على النّموّ والنّضوجِ من جهةٍ، ويتركُ له أنّْ يقرّرَ العودةَ بملءِ حريّتَه دونَ أن يضغطَ عليه من جهةٍ أخرى.
الجماعةُ الّتي كتبَ إليها لوقا، هي حتمًا تعاطفَتْ مع قرارِ هذا الولدِ الصّغيرِ أكثرَ من جماعتِنا نحن، بخاصّةٍ وأنّه في زمنَ كتابةِ لوقا لإنجيلِه كانَتْ هجرةُ كثيفةٌ جدًّا للفقراءِ من الأماكنِ الّتي تقومُ على الزِّراعةِ وتربيةِ الماشيةِ إلى أماكنَ غنيّةٍ تقومُ على العملِ التّجاريِّ، وإنْ كان هؤلاءِ المهاجرون لا يتمتّعون بحقوقِ المواطن الرُّوماني. هم ليسوا عبيدًا ولكنّهم أجراء، وهذا ليس امتيازًا، فالعبيدُ يأكلون ويشربون في بيوتِ أسيادِهم، أمّا الأجراءُ فيبيعون أنفسَهم عبيدًا عندما تَضربُ المجاعاتُ تلك الأماكنَ.
14. وَلَمَّا أَنْفَقَ كُلَّ شَيء، حَدَثَتْ في ذـلِكَ البَلَدِ مَجَاعَةٌ شَدِيدَة، فَبَدَأَ يُحِسُّ بِالعَوَز.
15. فَذَهَبَ وَلَجَأَ إِلى وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ ذـلِكَ البَلَد، فَأَرْسَلَهُ إِلى حُقُولِهِ لِيَرْعَى الـخَنَازِير.
16. وَكانَ يَشْتَهي أَنْ يَمْلأَ جَوْفَهُ مِنَ الـخَرُّوبِ الَّذي كَانَتِ الـخَنَازِيرُ تَأْكُلُهُ، وَلا يُعْطِيهِ مِنْهُ أَحَد.
17. فَرَجَعَ إِلى نَفْسِهِ وَقَال: كَمْ مِنَ الأُجَرَاءِ عِنْدَ أَبي، يَفْضُلُ الـخُبْزُ عَنْهُم، وَأَنا هـهُنَا أَهْلِكُ جُوعًا!
18. أَقُومُ وَأَمْضي إِلى أَبي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي، خَطِئْتُ إِلى السَّمَاءِ وَأَمَامَكَ.
19. وَلا أَسْتَحِقُّ بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْنًا. فَاجْعَلْنِي كَأَحَدِ أُجَرَائِكَ!
هرب الابن الأصغر من عالم الزراعة وتربية المواشي حيث يقطن أبيه، إلى أماكن غنيّة. لكن المجاعة ضربت ذلك البلد. والمجاعات تضرب الأماكن التجارية أكثر منها تلك التي تقوم على الزراعة. ولعلّ لوقا يعرف جيّدًا تلك المعطيات حين كان يكتب هذا المثل. فإسرائيل وبلاد فينيقيا، تلك البلاد الفقيرة التي هجرها ذاك الصغير، بقيت محميّة من تلك المجاعة لأنّ قائمة على الزراعة وقد أطلق عليها المؤرّخون إسم "أهراءات روما". لذا فالولد امتهن مهنة لا تليق بكرامته ولا بكرامة شعبه بعدما بدّد ماله الذي ورثه من أبيه، لا بل هو خالف شريعة موسى التي تنهي عن رعاية الخنزير وأكله، وبالتالي صار نجسًا. أراد حريّته فإذا به يخسرها. خسر علاقة البنوّة أبيه، وعلاقة الأخوّة مع أخيه الأكبر. خسر كلّ شيء ولم يعد من همٍّ لديه غير البقاء على قيد الحياة. كلّ هذا، حثّه للعودة إلى نفسه وقد قرّر العودة من حيث أتى "أَقُومُ وَأَمْضي إِلى أَبي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي، خَطِئْتُ إِلى السَّمَاءِ وَأَمَامَكَ. وَلا أَسْتَحِقُّ بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْنًا. فَاجْعَلْنِي كَأَحَدِ أُجَرَائِكَ!".
20. فَقَامَ وَجَاءَ إِلى أَبِيه. وفِيمَا كَانَ لا يَزَالُ بَعِيدًا، رَآهُ أَبُوه، فَتَحَنَّنَ عَلَيْه، وَأَسْرَعَ فَأَلْقَى بِنَفْسِهِ عَلى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ طَوِيلاً.
21. فَقالَ لَهُ ابْنُهُ: يَا أَبي، خَطِئْتُ إِلى السَّمَاءِ وَأَمَامَكَ. وَلا أَسْتَحِقُّ بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْنًا...
22. فَقالَ الأَبُ لِعَبيدِهِ: أَسْرِعُوا وَأَخْرِجُوا الـحُلَّةَ الفَاخِرَةَ وَأَلْبِسُوه، واجْعَلُوا في يَدِهِ خَاتَمًا، وفي رِجْلَيْهِ حِذَاء،
23. وَأْتُوا بِالعِجْلِ الـمُسَمَّنِ واذْبَحُوه، وَلْنَأْكُلْ وَنَتَنَعَّمْ!
24. لأَنَّ ابْنِيَ هـذَا كَانَ مَيْتًا فَعَاش، وَضَائِعًا فَوُجِد. وَبَدَأُوا يَتَنَعَّمُون.
يروي التّلمودُ اليهودي قصّةً تعليميّةً يحثُّ من خلالِها على ضرورةِ التوبةِ والعودةِ إلى اللهِ فيقولُ: "عُد يا إسرائيلُ إلى السيِّد إلهك ، يقول هوشع (14: 2). إنّه حال ابن ملك بعيد عن أبيه مسافة مئة يوم سفر. أصدقاؤه ينادونه قائلين: "عد إلى أبيك" وهو كان يجيب: "لا أقدر". أرسل عندها والده رسلاً يقولون له: "أنت سر ما يمكنك أن تسيره من مسافة الطّريق، وأنا آتي نَحوك وأجتاز المسافة المتبقيّة"، وهكذا قال لإسرائيل اللهُ القدّوسُ له المجد "عودوا إليَّ وأنا أعودُ اليكم" (ملا3:7).
في المَثلِ الرابّيني يُرسلُ الوالدُ رسلاً يحثّون ابنَه على التّوبةِ، في حينِ أنّ لوقا جعلَ من الابنِ صاحبَ المبادرةِ. هو أراَد أن يُظهرَ كيف صارَ هذا الولدُ ناضجًا فصارَ عارفًا أين تكمُنُ الحريّةُ الحقيقيّةُ: التحرّرُ من العلاقةِ مع اللهِ عبوديّةٌ، في حينِ أنَّ استعادةَ الرباطِ البنويّ مع الآبِ هو "الحريّةُ" بامتيازٍ.
ارتمى بين يدي أبيه، وأعلنَ توبتَه وندامتَه عمّا اقترفَه. لفظَ ما كان قد قرّرَ قولَه، إلاّ أنّ أبيه منعَه أن يُكملَ تحديدًا تلك العبارةَ "عاملني كأحد أجرائك"... ذلك لأنّه ليسَ على الخاطئِ غير النّدامةِ والتّوبةِ لا أنْ يتّخذَ القراراتِ مكانَ اللهِ. على الخاطئ أنْ يتوبَ مستسلمًا لرحمةِ اللهِ وغفرانِه غيرِ المشروطِ. أمّا تلك الرَّحمةُ، فكانَتْ مستعدّةً للغفرانِ منذُ اللّحظةِ الأولى لمغادرتِه بيتَ أبيه، لا بل أعادتْ له كرامةَ الابنِ وكأنّ شيئًا لم يكنْ. أمّا علامةُ البنوّةِ المُستعادةِ فهي ثلاثٌ: *الثَّوبُ الفاخرُ، *والخاتَمُ، *والحذاءُ. هي علاماتٌ مرتبطةٌ بالسُّلطةِ والمكانةِ الاجتماعيّةِ بحسبِ العهدِ القديمِ: في سفر التّكوين 41: 42 يخلعُ فرعون خاتَمَه ويضعَه في إصبعِ يوسفَ، يُلبِسَه ثوبَ كتّانٍ ويطوِّقُ عنقَه بالذّهبِ. وفي سفر المكابيّين الأوّل يعيّنُ أنطيوخوسُ الملكُ فيليبّسَ حاكمًا معطيًا إيّاه تاجَه وحلّتهَ الملوكيّةَ وخاتمَه ( 1 مك 6: 15). ثمّ ذبحَ العجلَ المسمّنَ ليُعلنَ ذاك الفرحَ الخلاصيَّ بعودةِ الابْنِ إلى أحضانِ العائلةِ، بخاصّةٍ وأنّه في إسرائيلَ القديمةِ كما في المجتمعاتِ الأخرى المحيطةِ، لم يكنِ اللّحمُ الطعامَ اليوميّ للشعب الفقير ولا حتّى للطبقات المتوسّطةِ، لذلك كان الثَّورُ يُسمّنُ ليذبحَ، ويُصارَ بعدَها الى حِفْظِ لحمِه بالمِلحِ ليؤكلَ على مدارِ الشّتاءِ.
25. وكانَ ابْنُهُ الأَكْبَرُ في الـحَقْل. فَلَمَّا جَاءَ واقْتَرَبَ مِنَ البَيْت، سَمِعَ غِنَاءً وَرَقْصًا.
26. فَدَعا وَاحِدًا مِنَ الغِلْمَانِ وَسَأَلَهُ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هـذَا؟
27. فَقالَ لَهُ: جَاءَ أَخُوك، فَذَبَحَ أَبُوكَ العِجْلَ الـمُسَمَّن، لأَنَّهُ لَقِيَهُ سَالِمًا.
28. فَغَضِبَ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَدْخُل. فَخَرَجَ أَبُوهُ يَتَوَسَّلُ إِلَيْه.
29. فَأَجَابَ وقَالَ لأَبِيه: هَا أَنا أَخْدُمُكَ كُلَّ هـذِهِ السِّنِين، وَلَمْ أُخَالِفْ لَكَ يَوْمًا أَمْرًا، وَلَمْ تُعْطِنِي مَرَّةً جَدْيًا، لأَتَنَعَّمَ مَعَ أَصْدِقَائِي.
30. ولـكِنْ لَمَّا جَاءَ ابْنُكَ هـذَا الَّذي أَكَلَ ثَرْوَتَكَ مَعَ الزَّوَانِي، ذَبَحْتَ لَهُ العِجْلَ الـمُسَمَّن!
31. فَقالَ لَهُ أَبُوه: يَا وَلَدِي، أَنْتَ مَعِي في كُلِّ حِين، وَكُلُّ مَا هُوَ لِي هُوَ لَكَ.
32. ولـكِنْ كانَ يَنْبَغِي أَنْ نَتَنَعَّمَ وَنَفْرَح، لأَنَّ أَخَاكَ هـذَا كانَ مَيْتًا فَعَاش، وَضَائِعًا فَوُجِد".
يمثّلُ الابنُ الأكبرُ الجماعةَ اليهوديّةَ. يحقُّ له بثلثي الميراثِ كما تفرضُ الشّريعةُ. هو التزمَ أوامرَ أبيه وخدمَهُ وحافظَ على أملاكِه. لم يحسِدْ أخاه ولا غارَ منه، فالانجيليُّ لوقا لا يعالجُ في المثلِ هذه الإشكاليّةَ. مشكلةُ الابنِ الأكبِر هي في العدالةِ المفقودةِ. بمعنًى آخر، هو أنّ الإنجيليّ يعالجُ إشكاليةَ المفارقةِ بين العدالةِ البشريّةِ والعدالةِ الإلهيّةِ. الأولى هي عدالةٌ تقومُ على الانتقامِ: بدّدَ أموالَه على الزّواني، فليتحمّلْ نتيجةَ أعمالِه. في حين أنّ الثاّنيةَ هي عدالةٌ تأديبيّةٌ ولكنّها تقومُ على الرّحمةِ الّتي أعطَتْ الابنَ التّائَب فرصةً للعيشِ والانطلاقِ. هذا ما لم يستطعِ الابنُ الأكبرُ فهمَه، فاعتبرَ في رحمةِ أبيه انتقاصًا للعدالةِ. حاولَ أبوه أنْ يساعدَه لينتقلَ معه من مفهومِ العدالةِ الانتقاميّةِ إلى العدالةِ الإلهيّةِ، فتهنأ العائلةُ بالسّلامِ، لا فقط بدعوتِه لأنْ يقبلَ أخاه، بل ليكونَ شريكًا بفرحِ خلاصِه "كان ينبغي أن نتنعّم ونفرح، لأنّ أخاك هذا كان ميتًا فعاش، وضائعًا فوُجد".