الصّلاة: لقاءٌ بين عطش الله وعطش الإنسان

الصّلاة: لقاءٌ بين عطش الله وعطش الإنسان

الصّلاة: لقاءٌ بين عطش الله وعطش الإنسان

حديث للخوري بطرس بو ضاهر
تفريغ دائرة الإعلام

1 - مفهوم الصّلاة المسيحيّة في الحياة الشّخصيّة
          في البداية، يجب على الإنسان أن يعترف أنّه لا يعرف الصّلاة، على مثال التّلاميذ الّذين سألوا يسوع أن يعلّمهم الصّلاة: " يا رب علّمنا أن نصلّي " (لو 11: 1). وهذه اللّامعرفة تنبع من التّواضع الّذي يعلّمنا أنّ الصّلاة لا تنتج عن قوّتنا الشّخصيّة أو عن معرفة مكتسبة أو لاهوتيّة، فالمعرفة العقليّة لا تكفي. لذلك، من الضّروريّ أن نفهم ما هي جذور الصّلاة لنتمكّن من اكتشاف الصّلاة المسيحيّة.
          الصّلاة هي هبة من الله وعطيّة من الرّوح القدس السّاكن فينا، وتنبع من الدّاخل. وهذا الرّوح القدس الّذي نفخ الرّبّ من خلاله روحه في الخلق، فقدناه في الخطيئة. ولكنّ الرّبّ يسوع المسيح عاد وأعطانا إيّاه على الصّليب، ونحن أخذناه من الرّسل ومُسِحنا بالمعموديّة بالرّوح القدس حتّى أصبح ساكنًا بداخلنا ويرافقنا دائمًا ليصلّي فينا. فالقدّيس بولس في رسالته الى أهل روما يقول: " الروح يأتي لنجدة ضعفنا، هو يشفع فينا ويصلّي فينا بأنّاةٍ لا توصف " (رو 8: 26). فهو يعلّمنا أن نصلّي وفق مشيئة الله حتّى لا تكون صلاتنا سطحيّة ودنيويّة لا معنى لها. لذلك، إنّ الرّوح القدس هو الّذي يضع فينا العطش لله، هذه الرّغبة في البحث عمّا يكمّلني، لأنّ النّفس لا تكتمل دون الله لأننا مخلوقون على صورته. وهذه الرّغبة تقودنا بدورها الى اللّقاء مع المسيح، الى اختبار كلمة الله في حياتنا. ومن هنا، لا يمكننا أن نجدَ صلاةً مسيحيّة دون اللّقاء مع يسوع المسيح: " نحن نسجد للآب بالروح والحق " (يو 4: 24). هذا البعد الثّالوثيّ يوصلنا الى الآب من خلال الرّوح الّذي يقودنا ويحرّك صلاتنا ومن خلال الابن أيضًا الّذي يعلّمنا الصّلاة ويكشف لنا الوحي الإلهي والوسيط الوحيد والنّهائيّ في لقائنا مع الله. 
          اللّقاء مع الله، كما يقول القدّيسون، هو اختبار تأسيسيّ في حياتنا، اختبار روحيّ عميق مع يسوع المسيح. وهنا، لا بدّ من ذكر لقاء السّامريّة مع يسوع، هذه المرأة العطشة للحبّ والحياة والسّعادة الحقيقيّة والحرّيّة. لذلك، ملأت الخطيئة هذا العطش بأمور الجسد وشهوته، الظّهور والكبرياء كما بمغريات هذه الدّنيا. فيأتي الرّوح في النّهاية ليروي عطشنا بالطّريقة الصّحيحة، من خلال مياه الحياة " يسوع المسيح "، فهو الينبوع الّذي يفيض علينا الحياة. وبقوله للسّامريّة " أعطني لأشرب " (يو 4: 7)، أراد أن يظهر عطش الله الّذي يريد أن يكون الإنسان عطشانًا اليه (غريغوريوس النزينزي). إذًا، فكلّ لقاء، يشبه هذا اللّقاء بين يسوع والسّامريّة الّذي لا يمكن أن يحدث دون استجابة الإنسان على نداء حبّ الله بكامل حرّيّته. وإذا عدنا للسّامريّة، فعند لقاء المسيح بها، كشف لها في البداية عن عطشها الّذي تسيّره الخطيئة وسار معها بضعفها وفرادتها لتكتشف عطشها ويعيدها الى الينبوع الحقيقي. فالمياه الّتي يعطينا إيّاها يسوع هي نفسها تلك الّتي خرجت من جوفه على الصّليب والممزوجة بالدّمّ أي بروح المسيح ليحيا الإنسان بها ويروي عطشه من ينبوع الحياة.
          كما أنّ المسيح بلقائه مع الإنسان يكشف له هويّته في الحوار، وهذا ما جعل السّامريّة تكتشف أنّ يسوع هو المخلّص، النّبي، المعلّم والعريس الحقيقي. وهذا ما يجعل صلاتنا لقاءً مع العريس والحبيب حتّى يصل المسيح ليكشف للسّامريّة الصّلاة الثّالوثيّة. وانطلاقًا ممّا تقدّم، يظهر لنا يسوع أنّ الصّلاة هي غذاء للإنسان بقوله لتلاميذه: " طعامي أن أعمل مشيئة الّذي أرسلني " (يو 4: 34). فجوهر الصّلاة هي أن أعمل مشيئة الله، أن أدخل في علاقة مع الآب من خلال الابن بقيادة الرّوح القدس. هذا الرّوح الّذي يحرّكنا ويقودنا ليذكّرنا بكل ما قاله يسوع. فهو يقودنا لاختبار علاقة متينة مع الابن حتّى نولد ولادة روحيّة، حياة جديدة حيث نلبس المسيح وفكره حتّى نصل الى الآب من خلاله. هذه هي قاعدة الصّلاة المسيحيّة، أن نؤمن بالثّالوث: الآب والابن والرّوح القدس. فإليزابيت للثّالوث الأقدس تشهد وتقول: " الصلاة هي أن أدخل الى سماء القلب "، فالسّماء هو الله الّذي يجب أن أبحث عنه في داخلي.

2 - غاية الصّلاة
          من الضّروري إذًا في هذا القسم أن نفهم صلاة الأبانا، فمن لا يفهمها لا يمكنه أن يكتشف غاية الصّلاة. ومن هنا، نعود لما قاله يسوع لتلاميذه: " فإذا صلّيتم، فقولوا أبانا الّذي في السّموات …" (لو 11: 2) الّتي من خلالها تظهر غنى الأبانا في صلاتنا. ففي كلمة " أبانا " بعدٌ أبويٌّ، رسوليٌّ وكنسيّ. فليست الصّلاة إذًا، علاقة شخصيّة مع الله الآب فقط، بل بقدر ما أدخل في محبّة الله، أحترم الآخر وأعبّر عن حبّي الأخويّ له. لذلك، تقودنا هذه الصّلاة الى المحبّة الّتي هي جوهر الله: " أحبب الله من كلّ قلبك…. وأحبب القريب كحبّك لنفسك " (لو 10: 27). فمن لا يعرف المحبّة لا يمكنه أن يطلب الملكوت ويسير على حسب مشيئة الله. فيسوع يطلب من الإنسان ألا يصلّي كالمرائين الّذين يحاورون الله بشفاههم وقلوبهم مليئة بالحقد ومنغلقة على ذاتها. لذلك، غاية الصّلاة تمجيد الله الآب وخدمته من خلال الآخر. بالإضافة الى ذلك، عندما نفهم الأبانا، تتغيّر نوعيّة طلباتنا في الصّلاة حتّى تتحوّل من طلباتٍ دنيويّة تقودها رغبة الإنسان الى طلباتٍ يقودها الرّوح لكي نفهم فكر المسيح ونصلّي على حسب منطق الله.

3 - ما هي المؤهّلات المطلوبة حتّى تكون الصّلاة مقبولة عند الله
• الجهوزيّة في الصّلاة والاستعداد الكامل حتّى التّعرّي
في سفر الخروج، قال الله لموسى: " اخلع نعليك فإنّ الأرض الّتي أنت فيها هي أرض مقدّسة " (خر 3: 5). فقد أوصاه بأن يخلع أفكاره المشوّهة عن الله لكي تكون صلاته مبنيّة على علاقة بنويّة بعيدة كلّ البعد عن العبوديّة والخوف. بالإضافة الى ضماناته الشّخصيّة والبشريّة الّتي تسيطر على أفكاره أثناء الصّلاة. لذلك، فإنّ الجهوزيّة تتطلّب تحضيرًا للذّات، تجهيزًا للمكان، الهدوء والصّمت كي لا نتشتّت في أفكارنا الّتي وُجِبَ علينا مراقبتها. فالمدرسة الإغناطيّة تفصل بين ما هو تشتّت بسيط وتشتّت جوهريّ. فالأولى يمكن إزالتها بسهولة أمّا الثّانية وُجِبَ مراقبتها إن كانت تُبعدنا عن الله. ومن هنا ضروريّة المرافقة الرّوحيّة كي تساعدنا وتدرّبنا على الصّلاة أكثر

• الإيمان في الصّلاة
في إنجيل مرقس 11: 20-25 يدلّنا يسوع الى الإيمان بالله الّذي نصلّي له. فصلاتنا ليست كلمات فارغة وعابرة لا يسمعها أحد، بل تبقى دائمًا نابعة من القلب. فهل نصدّق ما نقوله ونصلّيه؟ هل نصدّق أنّ ما قلناه قد سمعه الله؟ أيمكن لإلهي أن يكون حيًّا؟ فإذا لم نصل الى هذا اللّقاء مع المسيح الّذي اكتشفنا فيه أنّه حيّ، لمس قلبنا باختبار حقيقيّ، لا تستطيع الصّلاة أن تُبنى على الإيمان. فاللّقاء الحيّ هو أساس كل صلاة ورسالة (لقاء بولس بيسوع، لقاء بطرس…). لذلك، ثمرة لقاءنا مع يسوع الكلمة تؤدّي الى دعوة وشهادة لتمجيد الله الآب، هذا اللّقاء الّذي يشركنا في مشروع الله الخلاصي وحبّه اللّامتناهي. وكما يقول الطّوباويّ يعقوب الكبّوشي أنّ " الإيمان يعمل في المحبّة "، فالإنسان لا يمكنه أن يؤمن بالله إن كانت أعماله لا تدلّ على المحبّة، لأنّ ثمرة الإيمان هي الأعمال. ومن هنا، عندما نتّحد مع المسيح، لا أعود أنا الحيّ بل يصبح المسيح حيًّا فيَّ (را غل 2: 20)، فتتّحد بدورها أعمالنا مع أعمال يسوع. فالبابا فرنسيس يعبّر عن الصّلاة بكونها نفس جميع المسيحيّين، نفس الحياة الجديدة مع المسيح، فتصبح صلاتي حياة وحياتي صلاة.

• التّواضع في الصّلاة
التّواضع فكرةٌ جوهريّة في الصّلاة. ففي صلاة الفرّيسيّ والعشّار، يُرينا المسيح كيف يصلّي كلٌّ منهما حيث كانت صلاة العشّار مقبولة لدى الله. فيمكن إذًا للصلاة ألّا تكون مقبولة لدى الله ما دام الكبرياء يسيطر عليها وقلبي يحمل الدّينونة تجاه الآخرين. لذلك، يبقى التّواضع ضروريًا لأنّه المفتاح الأساسيّ لجميع الفضائل الأخرى.

 • الاتّكال على عناية الله
" أطلبوا ملكوت الله وبرّه أوّلًا، وكل تلك الأشياء تُزاد لكم " (…)

• الشّكر والتّسبيح
إن لم تتخلّل صلاة الإنسان شكرًا وتسبيحًا، فلا يمكنه أن يكتشف عظمة حبّ الله له وعمله الدّائم في حياته. فأعظم صلاة شكر هي الأفخارستيّا الّتي توحّدنا بالمسيح حتّى نشبه الله أكثر ونصل الى القداسة.

4 - الاعتراضات الّتي تبعدنا عن الصّلاة
• عدم الجهوزيّة في الصّلاة
• عدم المحبّة
• عدم الاتّكال على عناية الله

لا يجب علينا أن نحمل الهموم الثّقيلة ويسيطر علينا الخوف في حياتنا دون الاتّكال على عناية الله، " فالله لم يعطنا روح الخوف بل روح الحكمة " (2 تي 1: 7). فعلى الإنسان أن يحمل روح الفطنة أيضًا كي يعيش في حضرة الله والّتي بدورها تعطيه الثّبات المتين في حياته.• الخروج من اللّحظة الحاضرة

في صلاتنا، يكلّمنا الله في واقعنا الّذي نعيشه، " الآن ستكون معي في الفردوس " (لو 23: 43). فإن لم نعِش صلاتنا في اللّحظة الحاضرة متأكّدين أنّ الله سيكلّمنا في الوقت عينه، نبقى في الماضي وهمومه، ويمّحى الفرح في صلاتنا فلا نسمح إذًا لله بأن يدخل الى ماضينا ليشفينا من مآسينا وجروحاتنا. فالقديسة تريزيا الأفيليّة اختبرت هذا الاختبار واكتشفت أنّ يسوع وحده يمكن أن يشفينا من جروحات الحبّ لأنّه الحبّ الكامل، فهو يجرحنا من حبّه (اختبار يعقوب مع الله).

5 - أهمّيّة اختبار الصّحراء في حياتنا الرّوحيّة
         إختبار الصّحراء هو اختبار الجفاف الّذي نعيشه في حياتنا، المحن الّتي نمرّ بها يوميًّا. ففيه نعيش في وحدة وعزلة، ومن خلالها، يحاول الشّيطان أن يبعدنا عن الله حتّى يأتي الله بذاته ليحوّل المحنة الى نعمة والوحدة الى فرصة للّقاء به. فهذا الاختبار يتحوّل الى مكانٍ أصغي فيه الى الله بدل الغوص في أمور دنيويّة. كما وأنّه يجعلنا نلتقي بالمسيح لكي نتّحد به اتّحادًا وثيقًا. فالشّعب العبرانيّ الّذي عبر الصّحراء مع موسى قد عبر من الظّلمة الى النّور، من الموت الى القيامة، من العبوديّة الى الحرّيّة. فالصّحراء إذًا، يستعملها الله لعبور الإنسان نحو الحياة، وفي قلب هذا العبور يكلّمنا بطرقٍ عديدة حتّى نصغي اليه، ويكشف ذاته لنا. إضافةً الى ذلك، تجعلنا الصّحراء نتجرّد من ضماناتنا وتحطّم الآلهة الّتي نعبدها كي نعبد الله فقط، وهذا ما اختبره هوشع مع إمرأته الّتي تمثّل شعب الله الّذي يخون الرّبّ بقوله: " وآخذها الى الصّحراء وهناك أخاطب قلبها " (هو 2: 14). في الصّحراء أيضًا يُمتَحَن الإنسان لأنّه في دار الشّيطان وخاصّةً في اللّيل، وما عليه سوى السّهر دائمًا. فالبابا فرنسيس يعبّر عن الصّلاة بأنّها تساعدنا على الانتصار على الوحدة واليأس فتصبح الصّحراء في حياتنا مكانًا للنّموّ في الرّجاء.

6 - كيفيّة الصّلاة
في الصّلاة طرقٌ وأشكالٌ عديدة وأهمّها القراءة الرّبّانيّة. فمحور صلاتنا هو الكتاب المقدّس، الكلمة المتجسّدة من خلال الكنيسة. فصلة الوصل بيننا وبين الكتاب المقدّس هو الرّوح القدس. ففي صلاتنا يجب:
 أ - استدعاء الرّوح القدس الّذي يعلّمنا ويفهّمنا كلمة الله ويدعونا الى تقبّلها.
ب – قراءة النّصّ ببطء مع الرّغبة في قراءة هذه الكلمة.
ج – التأمّل في الكلمة كي نكتشف ما يقوله الله لنا من خلال النّصّ في حياتنا، وبدوري ماذا أريد أن أقول لله.
د – الصّلاة اللّفظيّة الّتي من خلالها نعبّر أو نطلب أو نشكر….
ه – المشاهدة الّتي لا تتناول الفكر بل مشاهدة الرّبّ بصمت وهدوء والنّظر اليه بحب، حتّى نعمل مشيئة الرب في حياتنا
و – العمل حيث نطابق حياتنا مع الكلمة الّتي نتأمّلها.

لمشاهدة الحلقة الثانية عشرة من الموسم الأوّل من برنامج "أرِنا خلاصك" مع الخوري عبدو بو ضاهر يمكنكم الضغط على الرابط التالي:
أرنا خلاصك - الموسم الأوّل - الحلقة الثالثة عشرة