أحد شفاء الأبرص
(مرقس 1: 35-45)
35 وقَامَ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْر، فخَرَجَ وذَهَبَ إِلى مَكَانٍ قَفْر، وأَخَذَ يُصَلِّي هُنَاك.
36 ولَحِقَ بِهِ سِمْعَانُ وَالَّذين مَعَهُ،
37 ووَجَدُوهُ فَقَالُوا لَهُ: "أَلْجَمِيعُ يَطْلُبُونَكَ".
38 فقَالَ لَهُم: "لِنَذْهَبْ إِلى مَكَانٍ آخَر، إِلى القُرَى الـمُجَاوِرَة، لأُبَشِّرَ هُنَاكَ أَيْضًا، فَإِنِّي لِهـذَا خَرَجْتُ".
39 وسَارَ في كُلِّ الـجَلِيل، وهُوَ يَكْرِزُ في مَجَامِعِهِم وَيَطْرُدُ الشَّيَاطِين.
40 وأَتَاهُ أَبْرَصُ يَتَوَسَّلُ إِلَيْه، فجَثَا وقَالَ لَهُ: "إِنْ شِئْتَ فَأَنْتَ قَادِرٌ أَنْ تُطَهِّرَنِي!".
41 فتَحَنَّنَ يَسُوعُ ومَدَّ يَدَهُ ولَمَسَهُ وقَالَ لَهُ: "قَدْ شِئْتُ، فَاطْهُرْ!".
42 وفي الـحَالِ زَالَ عَنْهُ البَرَص، فَطَهُرَ.
43 فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ وصَرَفَهُ حَالاً،
44 وقالَ لَهُ: "أُنْظُرْ، لا تُخْبِرْ أَحَدًا بِشَيء، بَلِ اذْهَبْ وَأَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِن، وَقَدِّمْ عَنْ طُهْرِكَ مَا أَمَرَ بِهِ مُوسَى، شَهَادَةً لَهُم".
45 أَمَّا هُوَ فَخَرَجَ وبَدَأَ يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ ويُذِيعُ الـخَبَر، حَتَّى إِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَعُدْ قَادِرًا أَنْ يَدْخُلَ إِلى مَدِينَةٍ عَلانِيَة، بَلْ كانَ يُقِيمُ في الـخَارِج، في أَمَاكِنَ مُقْفِرَة، وكانَ النَّاسُ يَأْتُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَكَان.مقدّمة
لن نفهمَ ما تعني كلمةُ
"برص"، إلاّ إذا قرأنا نصوصَ العهدِ القديمِ، والَّتي تتحدّثُ عن هذا المرضِ المُرعِبِ. بخاصّةٍ وأنَّ سِفرَ الّلاوييّن خصّصَ فصلَين كاملَين (لا 13-14) للحديثِ عن هذا المرض. ولفظةُ
"برص"، لا تدلُّ فقط على المرضِ كما هو معروفٌ اليومَ، بل على مختلفِ الأمراضِ الجلديّةِ التي تصيبُ البشرَ. واعتُبِرَ هذا المرضُ معديًا، لذلك تجنّبَ الشَّعْبُ في العهدِ القديمِ كلَّ شيءٍ يساعدُ على انتقالِه. لهذا وَجَبَ عزلُ المرضى، ولم يكتفوا بعزلٍ بسيطٍ، بل ربطوا هذا المرضَ بنجاسةٍ طقسيّةٍ. فنقرأُ مثلاً في سفرِ الّلاويين 13: 45-46
"والأبرصُ الذي بهِ البلوى يلبَسُ ثيابَه مشقوقةً، ويكشُفُ رأسَه، ويغطّي شاربَه وينادي: نَجِسٌ، نَجِسٌ. وما دامَتْ به هذه البلوى يبقى نَجِسًا، ويَسكُنُ منفرِدًا في خارجِ المدينةِ." وفي سفرِ العددِ 5: 2-3 "
وكلّمَ الربُّ موسى فقالَ: توصي بني إسرائيل أن ينفوا من المدينةِ كلَّ أبرصٍ… ذكرًا وأنثى ينفونهم إلى خارجِ المدينةِ لئلّا يُنَجِّسُوا المدينةَ حيث أنا مقيمٌ فيما بينهم".هل يتحاشاه يسوعُ خوفًا مِنْ نجاستِه؟ لا وألف لا. هو التقى قبلَه برجلٍ فيه روحٌ نَجِسٌ فشفاهُ (مر 1: 21-28). وزارَ حماةَ بطرسَ فأزالَ عنها الحُمّى (مر 1: 29-31). وهو الآنَ يسمعُ توسّلَ الأبرصِ فيُطهّره، فراحَ الأخيرُ يذيعُ الخبرَ حيْثُ تعذَّرَ على يسوعَ أنْ يدخلَ المدينةَ علانيةً.
شرح الآيات
35. وقَامَ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْر، فخَرَجَ وذَهَبَ إِلى مَكَانٍ قَفْر، وأَخَذَ يُصَلِّي هُنَاك.
36. ولَحِقَ بِهِ سِمْعَانُ وَالَّذين مَعَهُ،
37. ووَجَدُوهُ فَقَالُوا لَهُ: "أَلْجَمِيعُ يَطْلُبُونَكَ".
38. فقَالَ لَهُم: "لِنَذْهَبْ إِلى مَكَانٍ آخَر، إِلى القُرَى الـمُجَاوِرَة، لأُبَشِّرَ هُنَاكَ أَيْضًا، فَإِنِّي لِهـذَا خَرَجْتُ".
39. وسَارَ في كُلِّ الـجَلِيل، وهُوَ يَكْرِزُ في مَجَامِعِهِم وَيَطْرُدُ الشَّيَاطِين.تشكّل هذه الآيات (آ35-38)، صلة وصلٍ بين ما قبل وما يلي. إلى الآن، ظهر يسوع وكأنّه يحصر رسالته في كفرناحوم. هناك طرد روحًا نجسًا وهناك أيضًا شفى حماة سمعان. أمّا الآن، فرسالته ستمتدّ إلى كلّ الجليل الذي يرتبط بالعالم الوثنيّ، والذي منه انطلق الرسل ليصلوا إلى العالم كلّه حاملين إليه البُشرى السارّة (آ39). ولأنّ يسوع لا يكتفي ببعض المعجزات، ولا يقبل أن يكون فقط لما هو للناس، نراه وقبل طلوع الفجر، يعتزل ويصلّي. هو يبحث عن حياة حميمة مع أبيه (آ35). في المقابل، نرى بطرس وكأنّه مأخوذًا بما اجترحه المعلّم من معجزات، أراد أن يكون فيما هو للناس، فسعى أن يُعيد يسوع إليهم
"الجميع يطلبونك" (آ37). هو يبحث عن معجزات جديدة يُبهر فيها المعلّم أهل كفرناحوم، أمّا يسوع، فيعتبر أنّ ما قام به من أعمال ليست إلاّ
تهيئةً لتقبّل هويّته الحقّة على أنّه المسيح المخلّص، الذي به وفيه تحقّق وعد الله الذي تحدّثت عنه الكتب.
40. وأَتَاهُ أَبْرَصُ يَتَوَسَّلُ إِلَيْه، فجَثَا وقَالَ لَهُ: "إِنْ شِئْتَ فَأَنْتَ قَادِرٌ أَنْ تُطَهِّرَنِي!"
يضع العالم اليهوديّ البرص، في إطار لاهوت المجازاة في هذه الحياة الأرضيّة. بمعنىً آخر، كلّ أبرصٍ نال عقابًا عن خطيئة في نظرهم. والبرص، هو شرّ الأمراض وأخطرها. لذا نراهم يقولون "طَهُرَ" بدل أن يقولوا "شُفيَ" (من هنا نفهم لماذا توسّل هذا الأبرص يسوع كي يطهّره). ولأنّه مرضٌ عضال لا شفاء منه، فالله وحده قادر أن يشفي منه، وقد أعطى سلطان الشفاء هذا إلى أنبيائه: فنرى موسى يشفي أخته مريم (عد 12: 9-14)، وأليشاع النبيّ يشفي نعمان من برصه (2مل 5: 9-14). وفي نفس السياق، انتظر البُرصُ من المسيح، الذي بواسطته "العميان يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهرون…" (مت 11: 5، أش 35: 5-6). آية شفاء الأبرص، تدخل إذًا في منطق السرّ المسيحانيّ، وهو أحد مواضيع مرقس المفضّلة. لهذا نراه يبدأ الخبر بشكلٍ مفاجئ، دون مقدّمة، ولا إشارة إلى زمانٍ أو مكانٍ محدّدَين، بل دخل في الموضوع وأعطى للخبر وُجهته، يسوع هو المسيح…
41. فتَحَنَّنَ يَسُوعُ ومَدَّ يَدَهُ ولَمَسَهُ وقَالَ لَهُ: "قَدْ شِئْتُ، فَاطْهُرْ!".
42. وفي الـحَالِ زَالَ عَنْهُ البَرَص، فَطَهُرَ.
أمام توسّل الأبرص المرذول من مجتمعه وجماعته الدينيّة، تحرّك يسوع ليُطهّره. ونراه قام بحركة جسديّة "مدَّ يده ولمسه وقال له". هي حركة غريبة وغير متوقّعة، ولكنّها تحمل دلالةٍ ومعانٍ كثيرة: لقد تجرّأ يسوع أن يلمس من كان ممنوعٌ لمسه، وكلمته لها سلطانُ وفعاليّة كلمةِ الله (آ42).
43. فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ وصَرَفَهُ حَالاً،
44. وقالَ لَهُ: "أُنْظُرْ، لا تُخْبِرْ أَحَدًا بِشَيء، بَلِ اذْهَبْ وَأَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِن، وَقَدِّمْ عَنْ طُهْرِكَ مَا أَمَرَ بِهِ مُوسَى، شَهَادَةً لَهُم".
تصرّفَ يسوعُ بردّةِ فعلٍ أقلَّ ما يُقالُ فيها أنّها قاسيةٌ. والفعلُ اليوناني المستعمل "طَرَدَهُ"، إنّه الفِعْلُ نفسُه الَّذي يستَعْمِلُه مرقس في معرضِ حديثِه عن "طرْدِ" الشّياطينِ (3: 15-22، 6: 13...). ردّةُ فعلِه هذه، ترافقَتْ مع طلبِه من الأبرصِ ألاّ يُخبِر أحدًا بما حدث. أرادَ ألّا يُعلنَ السِّرّ المسيحانيَّ، حتّى لا يفهمون مسيحانيّته بشكلٍ خاطئٍ ومغلوطٍ، ذلك لأنّ حقيقةَ هذا السِّرِّ لن تُفهمَ إلّا على ضوءِ آلامِه وقيامتِه. فالمسيحُ هو مسيحٌ متألّمٌ، مائتٌ، ومنتصِرٌ بالقيامةِ، لا مسيحًا ملوكيًّا بمعناه السِّياسيّ ومنطقِهِ البشريّ. ثمّ طلبَ منه أن يُريَ نفسَه للكاهنِ، وهو بذلك يُعيدُ دمجَهُ في جماعتِه الدِّينيّةِ. هو الكاهنُ مَنْ يُعْلِنُ طهارةَ الأبرصِ بشكلٍ رسميٍّ بحسبِ سفرِ اللّاويين ( 14: 2-20).
45. أَمَّا هُوَ فَخَرَجَ وبَدَأَ يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ ويُذِيعُ الـخَبَر، حَتَّى إِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَعُدْ قَادِرًا أَنْ يَدْخُلَ إِلى مَدِينَةٍ عَلانِيَة، بَلْ كانَ يُقِيمُ في الـخَارِج، في أَمَاكِنَ مُقْفِرَة، وكانَ النَّاسُ يَأْتُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَكَان.
إليكُم المفاجأةُ. تمرَّدَ الأبرصُ على إرادةِ المعلِّمِ، فراحَ يذيعُ الخبرَ في كلِّ مكانٍ. والنَّصُّ اليونانيُّ يقولُ (أذاعَ الكلِمةَ أيْ بشّرَ). فرَكَضَ إليه النَّاسُ طامعين بخيراتِه الماديّةِ وحالمين بالحُرِّيَّةِ السّياسيّةِ. ولأنّه لم يأتِ من أجلِ ذلك، هرَبَ إلى القَفْرِ، إلى حيْثُ لا حياةَ (القَفْرُ مكانُ المَوتِ)، تبادَلَ الأمكنةَ مع الأبرصِ فأعادَ الأخيرَ إلى المدينةِ آخذًا هو مكانَهُ. فلاحقَتْهُ الجموعُ إلى حيْثُ هو. فكأنّي بالقَفْرِ صارَ يضجُّ بالحياةِ بعدَمَا كانَ مكانًا للموتِ. فحيْثُ يكونُ يسوعُ، هناك تكونُ الحياةُ الحقّةُ.
خلاصة روحيّة
نعيشُ زمنَ الصّومِ، هذه السَّنةَ والقلقُ يقُضُّ مضجعَ كلِّ واحدٍ منّا: قلقٌ على المصيرِ، على الكيانِ، على الوجودِ، على المستقبلِ، على الصِّحّةِ… إنّه القَفْرُ بعينِهِ. كيف لا ونحن نفتقِدُ كلَّ يومٍ لأَدْنى مقوِّماتِ الحياةِ، ونسيرُ بخطًى ثابتةٍ صوبَ الموتِ الجسديِّ والرُّوحيِّ. ولأنَّنا نَعيشُ في منطقِ المجازاةِ حتّى لا أقولَ المتاجرةَ، نسمعُ مَنْ يقولُ أنّ ما نعيشُه ليس إلّا عقابًا إلهيًّا على خطيئتِنا. وآخرون يرَوْن فيه نِتَاجًا لمعصيتِنا… أنعيشُ دونَ رجاءٍ؟ أَنَستَسْلِمُ للشُّعورِ بذنبِنا ونرضى به بَرَصًا يستنزِفُ فينا الحياةَ؟ حاشا. بل نحنُ نتوسَّلُ ذاك المرسَلَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، حتّى يتحنّنَ علينا ويطهِّرَنا بكلمَتِه وبلمسةٍ من حبُّهِ. فلنَتْرُكْه يقتَحِمُ قَفْرَنا حتّى يُعيدَ إليهِ الحياةِ، فحيْثُ يكونُ
"هو" تكونُ الحياةُ. كيف لا وهو مَنْ قالَ على نفسِه
"أنا هو الحياةُ"؟! علَّنا بعدَ ذلك، نَخْرُجُ بعْدَ مسيرةِ صومِنا أنبياءَ، نذيعُ ما صنعَ اللهُ معنا مَن حُبٍّ.