الخوري أنطوان القزي
مقالات/ 2021-02-12
1. وفي اليَوْمِ الثَّالِث، كَانَ عُرْسٌ في قَانَا الـجَلِيل، وكَانَتْ أُمُّ يَسُوعَ هُنَاك.
2. ودُعِيَ أَيْضًا يَسُوعُ وتَلامِيذُهُ إِلى العُرْس
إنّه اليوم الثالث وهو استمرارٌ لليومين الأوّلَين من المنظار التاريخيّ: الأوّل، وفيه شهد المعمدان للّذي سيأتي من بعده ليرفع خطيئة العالم (يو 1: 26-28). اليوم الثّاني حصلت لقاءات ثلاث: بين يسوع ويوحنّا (يو 1: 29)، بين يسوع وتلميذَي يوحنّا (يو 1: 38)، بين يسوع ونتنائيل (يو 1: 43). بعد هذه الأحداث يأتي اليوم الثالث وفيه عرسُ في قانا الجليل. أمّا نحن، فلفظة "اليوم الثالث" توجّه أنظارنا إلى يوم قيامة الربّ. فآية قانا ستأخذ معناها الحقيقيّ على ضوء القيامة، لأنّها استباقٌ رمزيّ لظهور مجد يسوع العظيم بموته وقيامته. "كان عرسٌ" في اليونانيّة (غاموس) وهي لفظة ترتبط بحسب مفهوم الكتاب المقدّس بعهد الله مع شعبه (أش 54: 5-6، 62: 2-5، هو 1:2). وتدلّ أيضًا بحسب العهد الجديد على اتّحاد يسوع بكنيسته (2كور 11: 2، أف 5: 25-27). هكذا جمع يوحنّا صورة العهد والوليمة في حادثة واحدة هي عرس قانا، وهي بالتالي استباقٌ لعرس المسيح وعهده مع كنيسته على الصليب.
"وكانت أمّ يسوع هناك" مريم موجودة بحسب الإنجيل الرابع في عرس قانا مرّةً وفي عرس الصليب مرّة أخرى (يو 19: 25-27). بمعنى آخر، هي موجودة في بداية حياة ابنها العلنيّة ونهايتها. هي الإحاطة التي تحيط بمشروع الله الخلاصيّ الذي بدأ في قانا واكتمل على الصليب، وتحثّ الآخرين على اتّباعه والطاعة لمشروعه وإرادته.
3. ونَفَدَ الـخَمْر، فَقَالَتْ لِيَسُوعَ أُمُّهُ: "لَيْسَ لَدَيْهِم خَمْر"
نفاد الخمر كان حافزًا أساسيًّا للحوار بين مريم ويسوع. غالى الكثيرون في تفسير نتائج هذا الحوار، حتّى بلغوا حدًّا من المغالطات الفادحة: قال بعضهم أنّ يسوع رفض طلب أمّه ثمّ عاد وتراجع. وآخرون رأوا بتصرّف مريم لامبالاةٍ تجاه جواب ابنها، لا بل قدرةً على تغيير إرادته. واعتبر غيرهم أنّ يسوع لم يوافق كلاميًّا بل بحركة جسميّة... كلّ هذا يبقى ثانويًّا وسطحيًّا أمام عمق المعنى الأساسيّ الذي كشفه يوحنّا نفسه بوضوح في (آ 11) ألا وهو إظهار مجد يسوع.
4. فَقَالَ لَهَا يَسُوع: "مَا لِي ولَكِ، يَا امْرَأَة؟ لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْد!"
"ما لي ولكِ، يا امرأة؟" لفظة سيعيدها يسوع وهو على الصليب "يا امرأة هذا ابنكِ" (يو 19: 26)، لم نتعوّدْ نحن المشرقيّون على تسمية كهذه من ابنٍ لأمّه. أَتَنَاسى يسوعُ رِبَاطَ الدّمِ؟ ربّما. ولكنّه ارتفع إلى أسمى من ذلك، فهو الآن أمامَ تلاميذِه، ملتزمًا مشروعَه الخلاصيَّ وهو الهدفُ الأخيرُ من تجسّدِه. هو (يسوع) آدمُ الجديدُ مقابلَ المرأةِ الجديدةِ (حوّاء) وهي مريم. "لم تأتِ ساعتي بعد" هي عبارة تتكرّرُ مرّاتٍ عديدة في الإنجيل الرّابع، وإنْ بدَتْ غيرَ واضحةٍ. غير أنّنا سنكتشفُ حقيقَتَها وعمقَ معناها حينَ تأتي السّاعةُ ويُرفعُ ابنُ الإنسانِ على الصّليبِ "جاءتِ السّاعةُ الَّتي فيها يتمجَّدُ ابنُ الإنسانِ" (يو 12: 23).
5. فقَالَتْ أُمُّهُ لِلْخَدَم: "مَهْمَا يَقُلْ لَكُم فَافْعَلُوه!".
"فقالت أمّه للخدم: مهما يقُل لكم فافعلوه". لم تجد مريم في جواب ابنها رفضًا لطلبِها بل حثًّا على انتظار ساعة المجدِ والخلاصِ. فتوجَّهَتْ إلى الخدمِ ودعتْهُم لأنْ يفعلوا ما يأمرُهم به. هي دعوةٌ استعارَتْها مريمُ من كتابِ التّكوين: "فلمّا جاعَ جميعُ أهلِ مِصْرَ، صرخَ الشّعب إلى فرعونَ وطلبَ خبزًا، فقال فرعون لكلّ المصريّين: إذهبوا إلى يوسف وافعلوا ما يقولُه لكم" (تك 41: 55). حدثُ قانا إذاً يكشف لنا تحقيقًا لحدثٍ مضى، ذلك يومَ لم يكنِ للمصريّين خبزٌ. حينها رأى فرعون في يوسف حكمةَ اللهِ، فاختفى هو منْ أمامِه بعدما دلَّ شعبَه على الذي يُشبِعُ جوعَهم. هكذا مريمُ اختفتْ أمامَ ابنِها، ودلَّتِ الخدمَ على ذلك القادرِ أن يُنقذَ فرحَ الإنسانِ وسعادتِه.
6. وكَانَ هُنَاكَ سِتَّةُ أَجْرَانٍ مِنْ حَجَر، مُعَدَّةٌ لِتَطْهيِر اليَهُود، يَسَعُ كُلٌّ مِنْهَا مِنْ ثَمَانِينَ إِلى مِئَةٍ وعِشْرينَ لِيترًا،
7. فقَالَ يَسُوعُ لِلْخَدَم: "إِملأُوا الأَجْرَانَ مَاءً". فَمَلأُوهَا إِلى فَوْق.
"ستّة أجرانٍ… معدّةٌ لتطهير اليهود". تقصّد الإنجيليّ أن يتحدّث عن هذه الأجران بدقّة، وأوضح هدف استعمالها في طقوس التّطهير عند اليهود (مر 7: 3-4). وكأنّه أراد أن يقول أنّ عمل هذه الأجران قد بَطُلَ. أمّا وقد جاء المسيح، فقد تحوّلت مياه التطهير إلى خمر، فرمز بذلك إلى بدايةِ عهدٍ جديد.
إذا كان المكيالُ يسعُ خمسين ليترًا، هذا يعني أنّ سِعةَ الجرنِ الواحدِ مئةٌ وخمسون ليترًا. بالتَّالي تَصِلُ سعةُ الأجرانِ السِّتّة إلى تسعِ مئةِ ليترٍ. نحن إذًا أمام كميّةٍ هائلةٍ من المياهِ التي ستتحوّلُ إلى خمرٍ.
8. قَالَ لَهُم: "إِسْتَقُوا الآنَ، وقَدِّمُوا لِرَئِيسِ الوَلِيمَة". فَقَدَّمُوا.
ستّةُ أجرانٍ ملأوها إلى فوق. إنها فيض الخيرات المسيحانيّة التي ترمز إليها آية قانا الجليل.
9. وذَاقَ الرَّئِيسُ الـمَاءَ، الَّذي صَارَ خَمْرًا - وكانَ لا يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ، والـخَدَمُ الَّذينَ اسْتَقَوا يَعْلَمُون - فَدَعَا إِلَيْهِ العَرِيسَ
10. وقَالَ لَهُ: "كُلُّ إِنْسَانٍ يُقَدِّمُ الـخَمْرَ الـجَيِّدَ أَوَّلاً، حَتَّى إِذَا سَكِرَ الـمَدعُوُّون، قَدَّمَ الأَقَلَّ جُودَة، أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَبْقَيْتَ الـخَمْرَ الـجَيِّدَ إِلى الآن!"
يشدّد يوحنّا أنّ رئيسَ الوليمةِ كانَ يجهلُ ما دارَ من حديثٍ وما حصلَ فيما خصَّ تحويلِ الماءِ إلى خمرٍ. وكأنّه أرادَ من ذلك أنْ يجعلَ منه شخصًا ينظرُ بموضوعيّةٍ إلى الآيةِ الّتي تمّتْ ولم يكنْ أساسًا على عِلمٍ بها. هذا ما يُثْبِتُ أنّ هذه الخمرَ هي عطيّة من عَلُ وليسَتْ من عالمِ البشرِ. فيرى المؤمنُ بتحويلِ الماءِ إلى خمرٍ عبورًا من عهد الشّريعة إلى عهدِ النّعمةِ التي سينالُها بملئِها بعد أنْ تأتيَ السّاعةُ فيتمجَّدَ ابنُ الإنسانِ مرفوعًا على صليبِه.
"كلُّ إنسانٍ يقدّم الخمرَ الجيّدةَ أوّلاً…" هو كلامٌ عن جودة ونوعيّة الخمر المُعطاة من عَلُ بعد أن تحدّث عن وَفرتها.
11. تِلْكَ كَانَتْ أُولَى آيَاتِ يَسُوع، صَنَعَهَا في قَانَا الـجَلِيل، فَأَظْهَرَ مَجْدَهُ، وآمَنَ بِهِ تَلامِيذُهُ
على عكس الإزائيّين، يفضّل يوحنّا استعمال لفظة "آية". فالعجائبُ عند متّى، ومرقس، ولوقا كانت شهادةً على مجيءِ الملكوتِ، في حينِ أنّ الآية َعندَ الإنجيليّ الرّابعِ تشهدُ على حقيقةِ المسيحِ نفسِه على أنّهُ ابنُ اللهِ وهو المخلّصُ. فنراهُ يُكثّر الخبزَ ويقولُ "أنا خبز الحياة"، ثمّ يشفي الأعمى ويقولُ "أنا النّور"، وبعدها يُحيي لعازر ويُعلنُ "أنا القيامة والحياة".