كَسر الكلمة -16- أحد الأبرار والصديقين

كَسر الكلمة -16- أحد الأبرار والصديقين

أحد الأبرار والصديقين
الدينونة العظمى
(متى 25/  31 – 46)
31 ومَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ في مَجْدِهِ، وجَمِيعُ الـمَلائِكَةِ مَعَهُ، يَجْلِسُ على عَرْشِ مَجْدِهِ.
32 وتُجْمَعُ لَدَيْهِ جَمِيعُ الأُمَم، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُم مِنْ بَعْض، كَمَا يُمَيِّزُ الرَّاعِي الـخِرَافَ مِنَ الـجِدَاء.
33 ويُقِيمُ الـخِرَافَ عَنْ يَمِينِهِ وَالـجِدَاءَ عَنْ شِمَالِهِ.
34 حِينَئِذٍ يَقُولُ الـمَلِكُ لِلَّذينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوا، يَا مُبَارَكي أَبي، رِثُوا الـمَلَكُوتَ الـمُعَدَّ لَكُم مُنْذُ إِنْشَاءِ العَالَم؛
35 لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي، وعَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي، وكُنْتُ غَريبًا فَآوَيْتُمُوني،
36 وعُرْيَانًا فَكَسَوْتُمُوني، ومَريضًا فَزُرْتُمُونِي، ومَحْبُوسًا فَأَتَيْتُم إِليّ.
37 حِينَئِذٍ يُجِيبُهُ الأَبْرَارُ قَائِلين: يَا رَبّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا فَأَطْعَمْنَاك، أَو عَطْشَانَ فَسَقَيْنَاك؟
38 ومَتَى رَأَيْنَاكَ غَريبًا فَآوَيْنَاك، أَو عُرْيَانًا فَكَسَوْنَاك؟
39 ومَتَى رَأَيْنَاكَ مَريضًا أَو مَحْبُوسًا فَأَتَيْنَا إِلَيْك؟
40 فَيُجِيبُ الـمَلِكُ ويَقُولُ لَهُم: أَلـحَقَّ أَقُولُ لَكُم: كُلُّ مَا عَمِلْتُمُوهُ لأَحَدِ إِخْوَتِي هـؤُلاءِ الصِّغَار، فَلِي عَمِلْتُمُوه!
41 ثُمَّ يَقُولُ لِلَّذينَ عَنْ شِمَالِهِ: إِذْهَبُوا عَنِّي، يَا مَلاعِين، إلى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الـمُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وجُنُودِهِ؛
42 لأَنِّي جُعْتُ فَمَا أَطْعَمْتُمُونِي، وعَطِشْتُ فَمَا سَقَيْتُمُوني،
43 وكُنْتُ غَريبًا فَمَا آوَيْتُمُونِي، وعُرْيَانًا فَمَا كَسَوْتُمُونِي، ومَرِيضًا ومَحْبُوسًا فَمَا زُرْتُمُونِي!
44 حِينَئِذٍ يُجِيبُهُ هـؤُلاءِ أَيْضًا قَائِلين: يَا رَبّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جاَئِعًا أَوْ عَطْشَانَ أَوْ غَرِيبًا أَو مَريضًا أَو مَحْبُوسًا ومَا خَدَمْنَاك؟
45 حِينَئِذٍ يُجِيبُهُم قِائِلاً: أَلـحَقَّ أَقُولُ لَكُم: كُلُّ مَا لَمْ تَعْمَلُوهُ لأَحَدِ هـؤُلاءِ الصِّغَار، فلِي لَمْ تَعْمَلُوه.
46 ويَذْهَبُ هـؤُلاءِ إلى العَذَابِ الأَبَدِيّ، والأَبْرَارُ إلى الـحَيَاةِ الأَبَدِيَّة".

مقدّمة
في الأحد الثاني من التذكارات، نذكر الأبرار والصديقين، هم القديسون الذين سبقونا إلى الملكوت، بعد أن جسّدوه في حياتهم الأرضيّة. لقد وجدوا المسيح في إخوتهم الصغار وخدموه خدمة الرحمة، منحنين عليه كالسّامري الصّالح. نقرأ في هذا الأحد إنجيل الدينونة من متى، الذي يصوّر المسيح الدّيان الذي سيأتي يومًا ليدين لا ليُهْلك، يأتي ليعطي معنى لما عملناه من أعمالِ رحمةٍ وحبٍّ. المجيءُ الثاني والنهايةُ لا يعنيان الدَّمار والإبادة بل هما فعل تمييز وتثبيت لما سنعيشه اليوم، لأنّ الدينونة تزرع الحياة الأبديّة في هذا الزمن.

شرح الآيات
31 ومَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ في مَجْدِهِ، وجَمِيعُ الـمَلائِكَةِ مَعَهُ، يَجْلِسُ على عَرْشِ مَجْدِهِ.
32 وتُجْمَعُ لَدَيْهِ جَمِيعُ الأُمَم، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُم مِنْ بَعْض، كَمَا يُمَيِّزُ الرَّاعِي الـخِرَافَ مِنَ الـجِدَاء.
33 ويُقِيمُ الـخِرَافَ عَنْ يَمِينِهِ وَالـجِدَاءَ عَنْ شِمَالِهِ.

   بعد أن سألَ التلاميذُ يسوعَ: "قُلْ لَنَا مَتَى يَكُونُ هـذَا، ومَا هِيَ عَلامَةُ مَجِيئِكَ ونِهَايَةِ العَالَم؟"، أجابهم كيف يجب أن يستعدّوا لهذا المجيء وما هي علاماته، ثمّ سيخبرهم بدءًا من هذه الآية كيف يستعدّون لهذا المجيء وكيف ستكون الدينونة.
بحسب نبوءة دانيال وتناغمًا مع الأدب الرؤيويّ اليهوديّ "ابن الانسان" هو ذاك الآتي على سحاب السماء في اليوم الأخير ليدين الخاطئين ويُخلِّص الأبرار وهو رئيس الشّعب وممثّله ومثالُه (دانيال 7 / 13 – 14). هو المسيحُ الملكُ الَّذي سيأتي في مجده (راجع متى 16/27 و19/28). الجلوسُ على العرشِ صورةٌ للملك الذي يجلس ليحكم بالعدل ويدين كلّ إنسان على ما قام به من أعمال الرّحمة أو لم يقم، تجاه الأخوةِ الصّغار. يسوع هو الدّيان، من جهة يظهر بصورة الملك، ومن جهة أخرى يظهر بصورة الراعي وهي صورة مألوفة في العهد القديم (حز 34/17)، صورة الراعي الذي يجمع شعبه.
وتُجْمَعُ لَدَيْهِ جَمِيعُ الأُمَمِ: كلمةُ أممٍ تشملُ كلَّ الشُّعوب الذين هم خارجَ شعبِ اللهِ المختارِ، لأنّ الملكَ الالهيَّ مملكتُه شاملةُ وتضمّ كلّ انسان مهما كان انتمائه.  كلّ الامم ستُجمع امام المسيح الديّان، لأنّها كلّها مدعوّة إلى الخلاص، وقد أوضح هذا الأمر القدّيس بولس في رسالته إلى أهل روما: "فَلَمَّا كَانَتِ الأُمَمُ، الَّذينَ لا شَريعَةَ لَهُم، يَعْمَلُونَ بِحَسَبِ الطَّبِيعَةِ بِمَا في الشَّرِيعَة، فَهـؤلاءِ، وإِنْ كَانُوا لا شَريعَةَ لَهُم، هُم شَرِيعَةٌ لأَنْفُسِهِم. وهُم يُظْهِرُونَ أَنَّ عَمَلَ الشَّرِيعَةِ مَكْتُوبٌ في قُلُوبِهِم، فَضَمِيرُهُم شَاهِدٌ، وأَفْكَارُهُم تَشْكُوهُم تَارَةً، وتَارَةً تُدَافِعُ عَنْهُم" (روم 2، 14-15). فالخلاص بالمسيح للجميع، وبه أيضًا يُدانُ الجميع.
صورةُ الخراف والجداء هي صورةٌ رمزيّةٌ في الكتابِ المقدّسِ، لفهمها يجبُ العودةُ إلى مفهوم رعاية القطيع في فلسطين القديمة. يضمُّ القطيع عادةً الخرافَ والجداءَ الّتي تبقى مجتمعةً طيلةَ النَّهارِ ولا تُفْصَلً إلاّ عند المساء، ولأنّ الجداء تحتاجُ إلى الدفء أكثر من الخراف، كانت توضع في مكانٍ مُقفل ومظلم، بعكسِ الخرافِ التي كانت تترك في العراءِ، لذلك كانتْ تحتاجُ إلى السَّهر والحمايةِ المشدّدةِ من قِبَلِ الرُّعاةِ. أضفْ إلى أنّ الخرافَ كانت أكثر قيمة من الجداءِ لأنّ ثمنَها كانَ أكثرَ ارتفاعًا بسببِ تعدّدِ استعمالِ لحمِها وصوفها.
أمّا اليمينُ والشّمالُ فهما اتّجاهان رمزيان في الكتاب المقدّس، فاليمين يرمز إلى يدِ الله القديرة التي تخلّص (مز 108)، يرمزُ أيضًا إلى البركةِ (تك 48: 14)، وإلى المكانِ المعدِّ لجلوسِ الأشخاصِ الأكثرِ أهميّةً بعد الملكِ، بعكسِ اليسارِ الذي يرمز إلى المكانِ المعدِّ لمنْ لا مكانةَ له.

34 حِينَئِذٍ يَقُولُ الـمَلِكُ لِلَّذينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوا، يَا مُبَارَكي أَبي، رِثُوا الـمَلَكُوتَ الـمُعَدَّ لَكُم مُنْذُ إِنْشَاءِ العَالَم؛
يستعمل متى هنا عبارة "الملك" وهو الموضوع الأساسيّ في انجيله، فبالنِّسبةِ له فإنّ يسوعَ هو الملكُ المخلّصُ الموعودُ، لذلك يروي حياتَه من الطّفولةِ إلى القيامةِ في سبعِ لوحاتٍ متتاليّةٍ ومتكاملةٍ مركّزًا فيها على صورة يسوعَ الملكِ. بالنسبة لمتى، هذا الملك الذي رفضه هيرودوس في بدايةِ الأنجيلِ، هنا وفي ختامِ البشارةِ، في المجيءِ الأخيرِ، لا مجال لرفضه، لأنّه يَعتلِنُ لكلّ الأمم كملك حقيقيّ وديّان للبشريّة جمعاء. فمجيءُ المسيح الثّاني يَظهَرُ قوّةً ومجدًا بعكسِ ضعفِ الملكِ المقمّطِ في المذودِ والمصلوبِ على خشبةِ العارِ.
في القسم الثاني من الآية يُصْدِرُ الملكُ الحكم، وهو دعوةٌ للدُّخول إلى مِلءِ الحياةِ وميراثِ الملكوتِ، ففي دعوةِ الملكِ "تعالوا" نداءٌ إلى الحياة الذي أعدّها اللهُ مُنْذُ انشاءِ العالمِ. لأنَّ غايةَ الخلقِ كانَتْ مشاركةُ الانسانِ في الحياةِ الالهيَّة. فرغبةُ اللهِ السّابقةِ لخطيئةِ الإنسانِ، كانَتْ أن يشاركَ هذا الأخيرُ في الحياةِ الالهيّةِ، وما تجسُّدُ المَسيحِ وموتِه وقيامتِه ومجيئِه الثَّاني إلّا تحقيقًا لهذه الرغبة.

35 لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي، وعَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي، وكُنْتُ غَريبًا فَآوَيْتُمُوني،
36 وعُرْيَانًا فَكَسَوْتُمُوني، ومَريضًا فَزُرْتُمُونِي، ومَحْبُوسًا فَأَتَيْتُم إِليّ.
    لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي: الجوع الذي يتكلّم عنه متى، مستعمِلًا الفعلَ اليونانيοὐραὸς) )  هو الجوع الناتج عن الفقر والحاجة وليس الجوع الناتج عن قلة الطعام أو تأخّره، هو جوع يسبّب الموت، لذلك إطعام الجائع يعني إعطاءَه الحياة.  إذًا ليس المقصودُ هنا فقط الخبز المادي لانقاذه الجائعَ من الموت، بل خبز الحياة أي كلمة الله وجسده زاد الحياة الأبديّة.
    وعَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي: العطش هو الاحساس بالحاجة إلى شرب الماء. والعطش إلى الله هو اشتياق النّفس إليه (مز 42). العطشُ كما الجوعُ يؤدّي إلى الموتِ، والبُعدُ عن اللهِ وغيابِه هو جفافٌ وموتٌ. اعتاد اليهود تقدمةَ الماءِ على الطرقات للحجّاج الصّاعدين إلى اورشليم، فإعطاء الماء للعطشان هو اعطاؤه القدرةَ ليكمِلَ مسيرةَ حجّه نحو الهيكل حيث سيلتقي بالله، أي مساعدتِه للوصول إلى هذا اللقاء الذي فيه حياة وخلاص له. إذًا إعطاءُ الماء للعطشان، بالإضافة إلى معناه المادي، يرمز إلى مساعدة الآخر روحيًّا ليكتشفَ حضورَ الله ويلتقي به فتكون له الحياة الأبديّة، أي الماء الذي إذا ارتوى منها لن يعطش أبدًا (راجع يو 4: 13 – 14).  
    وكُنْتُ غَريبًا فَآوَيْتُمُوني: الغريب في الكتاب المقدّس وتحديدًا في العهد القديم هو الشخص الذي لا ينتمي إلى شعب إسرائيل. يسمّى أيضًا النزيل وهو شخص يعيش في بلد أو أرض لا ينتمي إليها أصلًا. لم يكن "للغرباء" في إسرائيل كامل الحقوق التي كانت للإسرائيليين الدينية والمدنية، ولكن كان من الواجبِ على شعبِ اللهِ المختارِ أن يدافع عن الغرباء ويساعدهم لأنه، كشعب تغرّبَ، اختبر معنى الغربة يوم كان في مصر (تث 10: 18، 14: 29، 24: 14 و19)، فصورة الضّيفِ الباحثِ عن المأوى والملجأ والحمايةِ تُذكّرُه أنّه كانَ غريبًا بين الأممِ. لذا أكّدَتِ الشّريعةُ على حمايةِ الغريبِ من الظُّلم وإعطائه حقوقه (خر 21: 20، 23: 9 وتث 24: 14). أمّا العهدُ الجديدُ فقد أعطى مفهومًا جديدًا للغريبِ والغربةِ، إذ أوضحَ القديسُ بولسُ في رسالتِه الأُولى أنَّ المؤمنَ متغرّبٌ في الأرض، لذلك عليه أن يسير زمانَ غربتِه بخوفٍ (1 بط 1: 1 و17، 2: 11)، والرِّسالةَ إلى العبرانيين تؤكّد أنّ المؤمن ليس له هنا مدينةٌ باقيةٌ لكنّه يطلبُ العتيدةَ (عب 13: 14). لقد اختبرَتِ الجماعةُ الأولى ضيافة الغرباء حيث اعتبرها المسيحيون الأوائل فضيلةً وفتحوا بيوتهم وأحسنوا ضيافة كلّ غريب طرق بابهم. لذلك يمكن الاستنتاج أنّ الغريب الذي تكلّم عليه المسيحُ في هذه الآيةِ هو المتروك من دون مأوى ومعرّضًا للموت وقد اختبر هو نفسه الغربة مع مريم ويوسف. الغربة أيضًا في الفهوم الروحي هي البعد عن الله والعيش في ضياع، هي الموت الحقيقيّ. من هنا نفهم أنّ ضيافةَ الغريبِ هي أيضًا إعطاؤه الحياةَ بمعناها الماديِّ والروحيِّ. 
    وعُرْيَانًا فَكَسَوْتُمُوني: العري في سفر أيوب يرمز إلى ضعف الانسان أمام الموت، "عرياناً خرجت من جوف امي وعريانا اعود" (ايوب 1، 21). يرمز العريّ أيضًا إلى حالة من الفقر المادي والروحيّ، فالرداء يدل على المستوى الاجتماعي، ومنح الرداء لأحد هو تعبير عن الصداقة والدخول في عهد معه (راجع :1 صم 18، 2-3، 1 ملوك 19، 19)، وبالتالي الدخول في علاقة محبّة عميقة. لذلك قال يسوع لتلاميذه "مَنْ أَرَادَ أَنْ يُحَاكِمَكَ لِيَأْخُذَ قَمِيصَكَ، فَاتْرُكْ لَهُ رِدَاءَكَ أَيْضًا." (متى 5: 40). استعمل متى الفعل اليوناني (περιεβάλετέ) (periballein)، ويعني "وضع" أو "رمى" حوله أو "جلبب" وهو فعل يعني أحاطه بالمجد والعظمة (راجع: رؤ 19، 8؛ لو 23، 11)، هو أيضًا الفعل الذي نراه في (أشعيا (58، 7) ومن خلاله يعبّر عن فعل الرحمة الذي يعطي لصاحبه الحياة الابدية. إلباسُ العاري هو اعادة الاعتبار إليه ومنحه الحياة من جديد (لو 15: 22).
    ومَريضًا فَزُرْتُمُونِي: أو كإشارة لغضبِ الله الذي يضرب الخطأة، وطلب الشفاء في صلوات المزامير مصحوب دومًا بالاعتراف المرضُ في الكتاب المقدّس وتحديدًا في العهد القديم يظهر كنتيجة للخطيئة بالخطيئة تجاه الله: " لَيْسَتْ فِي جَسَدِي صِحَّةٌ مِنْ جِهَةِ غَضَبِكَ. لَيْسَتْ فِي عِظَامِي سَلاَمَةٌ مِنْ جِهَةِ خَطِيَّتِي. لأَنَّ آثامِي قَدْ طَمَتْ فَوْقَ رَأْسِي…لأَنِّي لَكَ يَا رَبُّ صَبَرْتُ” (مزمور 38). لذلك أصبح الشّفاءُ إشارةً إلى حضورِ الله ورحمته تجاه المتألّم والمريض. أمّا في العهد الجديد، مع المسيح الشافي والطبيب، نرى تحولاً في مفهوم المرض والشفاء، فالربّ يستجيبُ مباشرة لمَن هم في المرض، يشفق عليهم ويشفيهم، ثمّ يناشدهم بعدمِ العودةِ إلى الخطيئة. لا بدّ أنّ نذكر هنا، أنّ فترة المرض بالنسبة للمتألّم، تصبح فترة عزلة وتأمّل وصمت، وتحضير ربّما للموت الجسدي، لذلك عندما يتكلّم الربّ على زيارةِ المريضِ يعني أيضًا إعطاءه الحياة واخراجه من عزلته، وإعادته إلى وسط الجماعة المدعوة إلى مشاركته آلامه.
    ومَحْبُوسًا فَأَتَيْتُم إِليّ: عندما كتب متّى إنجيله، كان السِّجن بالِّنسبة للمسيحيين المضطهدين، مرحلةً أولى من دربِ الآلامِ الّتي كانوا يتعرَّضون لها وغالبًا ما تنتهي بالاستشهاد. لذلك كانتْ زيارةُ السَّجينِ أو المحبوسِ، وبخاصّةٍ إذا كان مسيحيًّا، محفوفة بالمخاطر. لكنّ هذه الزيارة كانت مهمّة له، لتشجيعه ليثبت في إيمانه، ويبقى أمينًا للربّ، فلا تضعف عزيمته، وبالتالي يصل إلى الاستشهاد وينالُ إكليلَ المجدِ، ويعاينَ الربَّ. نفهمُ من هذا، أنّ زيارةَ السَّجين التي يتكلّم عليها الربّ، هي أيضًا إعطاؤه الحياةَ وتثبيتَه في مسيرتِه الإيمانيّةِ. 

37 حِينَئِذٍ يُجِيبُهُ الأَبْرَارُ قَائِلين: يَا رَبّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا فَأَطْعَمْنَاك، أَو عَطْشَانَ فَسَقَيْنَاك؟
38 ومَتَى رَأَيْنَاكَ غَريبًا فَآوَيْنَاك، أَو عُرْيَانًا فَكَسَوْنَاك؟
39 ومَتَى رَأَيْنَاكَ مَريضًا أَو مَحْبُوسًا فَأَتَيْنَا إِلَيْك؟
في جواب الأبرار هذا، تكرار حرفي لكلام المسيح، بعكس جواب الأشرار المختصر، وهذا يدلّ على أنّهم، كانوا يعلمون ماذا يفعلون. فالأبرارُ لم يخدموا لغايةٍ خاصةٍ، بل ما يدفعهم إلى خدمةِ إخوتِهم، هي المحبّةُ وليس الخوفُ من العقابِ أو للحصولِ على مكافئةٍ من الملكِ. خدمتُهم هي فعلُ رحمةٍ وحبٍّ تجاهَ إخوتِهم الصِّغارِ. أمَّا جوابُ الأشرارِ السَّريعُ والمقتضبُ يدلُّ على تهرّبِهم من مواجهةِ الحقيقةِ. في جوابِهم السّريعِ تعدادٌ للائحةِ الحاجات كلها ولكن غيابًا كلّيًّا للائحة الواجباتِ الَّتي كان عليهم القيامُ بها. كأنّهم كانوا يعلمون حاجات إخوتهم، إنّما تغاضوا عن القيام بفعلِ حبٍّ تجاهَهم. لقد عبّروا فقط عن استعدادِهم للخدمةِ حيْثُ يستعملُ متَّى كلمةَ (diakonein) التي تقتصر على الخدمة الليتورجيّة. لقد اقتصرت علاقتهم بالسيّد على البعد الليتورجي ولم يترجموها في أعمال رحمة تعبّر عن حبّهم العميق له. 

40 يُجِيبُ الـمَلِكُ ويَقُولُ لَهُم: أَلـحَقَّ أَقُولُ لَكُم: كُلُّ مَا عَمِلْتُمُوهُ لأَحَدِ إِخْوَتِي هـؤُلاءِ الصِّغَار، فَلِي عَمِلْتُمُوه!
يتماهى الرَّبّ مع الأخوة الصغار، وهم الأكثر ضعفًا وفقرًا وحاجةً. إنّه منطق المسيح المخالف لمنطق البشر. المعروف أنّه ييتماهى الانسانُ مع القويِّ والجبَّارِ ويسعى ليكونَ مثْلَه أو مكانَه، لكن في منطقِ المسيحِ، منطقِ الحبِّ والرَّحمةِ يتماهى الربّ مع الضعفاء والخطأة والمهمّشين، هذا التَّماهي هو فعل حبّ لا محدود، تجلّى بكلِّيّته على الصَّليب.

41 ثُمَّ يَقُولُ لِلَّذينَ عَنْ شِمَالِهِ: إِذْهَبُوا عَنِّي، يَا مَلاعِين، إلى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الـمُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وجُنُودِهِ؛
إنّ البركةُ في الكتاب المقدّس هي علامةُ على رضى الله، أمّا اللعنةُ هي الحرمانُ من هذا الرضى. نفهمُ من هذا أنّ الملاعين هم الذين فُصِلوا عن اللهِ وعصوا أوامِرَه، مصيرُهم الموتُ لأنَّهم رفضوا الحياة. وما صورةُ النَّارِ الأبديّةِ إلّا صورةً رمزيّةً لهذا الإنفصال عن مصدرِ الحياةِ. هذه النّارُ لم تكنْ معدّةً للإنسانِ، بل لإبليسِ وجنودِه. لكنَّ الانسانَ الَّذي رفضَ حبَّ اللهِ وفصلَ نفسَهُ عنه، سيرى نفسَه في المكانِ الآخرِ حيْثُ الموتِ. 

خلاصة روحيّة
في أحدِ الأبرارِ والصِّديِّقين، يستوقفُنا هذا النّصّ الكتابي ليذكّرنا بأنّ حياتنا المسيحيّةَ، هي دعوةٌ لعيشِ الحبِّ والرَّحمة تجاهَ إخوتِنا الصّغارِ، فتكريمُ اللهَ وخدمتَه، لا يتوقفان على القيامِ بواجبِ الصّلاة والخدمةِ اللّيتورجيّة فقط، إنّما يكتملان بعيش الرحمة بكلّ أبعادها. فالمسيحُ يتجلّى لنا بإخوتنا الأكثرِ حاجةً، هم فرصتُنا لتكريمِه وسبيلُنا للقائِه وخدمتِه وهم بابُنا إلى الحياةِ الأبديّةِ.
هذه الرحمة ليست مجرّد شعور بالشَّفقة بل هي فعلُ حبّ يعطي الحياة للآخرين. في زمنٍ كَثُرَ فيه الإخوةُ الصِّغارُ الّذين يحتاجون إلى من يعطيهم الطّعامَ ليشبعهم، ويسقيَهم ليرويَ عطشَهم، ويأويَهم في غربتهم، ويكسيهم في عريهم، ويزورهم في مرضهم وفي سجنهم، علينا ألّا نكتفي بخدمةِ المسيحِ دونَ خدمةِ إخوتِه الصِّغار، علينا ألّا نغرقَ في جدالاتِ الإيمانِ العقيمةِ، ونغفلَ أعمالَ الرّحمةِ الحقيقيّةِ، علينا ألّا نكرِّمَ صورةَ المسيحِ ونتجاهلَ أيقونتَه الحقيقيّةَ التي تتجلّى في الجائعِ والعطشانِ والعريانِ والمريضِ والغريبِ والسّجينِ.
الأبرارُ والصّدّيقون الّذين نذكرهم في هذا الأحد وفي هذا الأسبوع، هم المباركون الّذين علِموا أنّ المسيح يطرقُ بابَهم كلَّ يومٍ ويزورُهم في إخوتِهم، رأوه في الجائعِ والعطشانِ، والعريانِ والغريبِ والمريضِ والسّجينِ، فانحنوا عليه بحبٍّ ورحمةٍ. نذكرهم اليوم، هم مثالُنا وشفعاؤنا لدى منبرِ الملكِ الدَّيانِ.


تحميل المنشور