أحبّ اللهُ شعبَه، ولم يكفَّ يومًا عن الاهتمامَ به وبمصيرِه. فقد أحاطَه بالآباءِ والأنبياءِ وأوصى برعايته بكلِّ تفانٍ.
يتميّزُ الحبُّ الإلهيُّ بقوّةِ لهيبِه وغيرةٍ شديدةٍ على خاصّتِه (خر20 :5)، تُتَوَّجُ بإقامةِ عهدٍ معه بعد اختباره لحدثِ الخروجِ من أرضِ مِصرَ ونيلِه الوصايا على جبلِ سيناء.
وعدُ اللهِ بإعطائه أرضًا قد تحقّق أيضًا فنالَها الشّعبُ ومعها الملوكيّة مختبرًا هكذا عمق الإخلاص الإلهيّ. لكنَّه بَدَلَ أنْ تثمرَ شركتُه مع إلهه اتحادًا وثيقًا أبرز معالمِه تكونُ الاقتداء بصفاته وأهمّها الوفاء للحبِّ وللعهدِ القائمِ بينهما، أتى الثَّمرُ حُصرمًا بريًّا مذاقُه مرٌّ لا يؤكَلُ ولا يصْلُحُ لشيءٍ (أش 4 :5).
انغمسَ الشَّعبُ في عبادةِ الآلهةِ الوثنيّة وتقديمِ الذبائحِ لها. فَتَاهَ هكذا عن دعوتِه وترَكَ إلهَهُ. فكانَتْ خطيئتُه عظيمةً ومزدوجةً طالَتْ الوصايا ولا سيّما أوَّلَها. وهذا الأمرُ ليسَ بغريبٍ. فمَنْ يبتعِدْ عنِ اللهِ ويختارُ آلهةً له سواه يخسرْ توازنَه وتوازنَ الأشياءِ فينتهكَ باقي الوصايا ومن دونِ هوانٍ.
خطيئتُه مزدوجةٌ لأنّها ارتَكَبَتْ تجاه اللهِ وتجاهَ الإنسانِ. فبرَزَ هكذا البُعدُ العلائقيُّ الاجتماعيُّ: "أين أخوك"(تك 4 :9) متجذّرة في "أين أنت" (تك 3 :9).
"الحقّ والعدل" هما من القيمِ اليهوديّةِ التّي تساهمُ في بناء المجتمع بحسب رغبةِ الله وإراِدته. فيسعى كلّ يهوديٍّ أنْ يعيشَها وينمّيَها أينما وُجِدَ. ولكن ما حصلَ أنّ النُّخبةَ ابتعَدَتْ عن الحَقِّ وأساءَتْ إلى العدلِ، فهمّشَتِ الفُقَراءِ وقتلَتِ الأبرياءَ وظلمَتِ الأراملَ والضُّعفاءَ ، هؤلاءِ هم أحبّاء الله والأقربُ إلى قلبه ومَنْ يجبُ الإعتناءَ بهم والدِّفاعَ عنهم [1].
ولكن ألا يجدُرُ بالعَهْدِ أنْ يَحْفظَ قلبَ الإنسانِ ويضمَنَ ثباتَه في الحُبِّ الإلهيّ؟ أَظْهَرَتْ تحذيراتُ اللهِ لشعبِه بواسطةِ الأنبياءِ ودعوتِه له بالتَّوبَةِ أنّ العهدَ لا يضمَنُ العلاقةَ ولا الوفاءَ لاسيَّما من ناحيةِ الإنسانِ: " غَلِّظْ قَلْبَ هذَا الشَّعْبِ وَثَقِّلْ أُذُنَيْهِ وَاطْمُسْ عَيْنَيْهِ، لِئَلاَّ يُبْصِرَ بِعَيْنَيْهِ وَيَسْمَعَ بِأُذُنَيْهِ وَيَفْهَمَ بِقَلْبِهِ، وَيَرْجعَ فَيُشْفَى" (إش 6: 10). يتعلّق الإخلاصُ بالحريّةِ الذَّاتيّةِ والإرادةِ البشريّةِ ليكونَ صادقًا وحقيقيًّا. فأختارَ الشَّعبُ العصيانَ. كذلك فَشِلَتْ حريّةُ وإرادةُ الكهنةِ بالإنصرافِ إلى شرحِ كلمةِ اللهِ إلى "إسرائيل" ومساعدتِه في كيفيّةِ تفعيلِها بحياتِه (إر 5 :5)، فهكذا خطِئوا هم أيضًا وكان على إثره الجهلِ معصيةُ إسرائيل الثَّانيةُ في هذا المجال.
وحلَّ الكَذِبُ أو الخداعُ مكانَ الصِّدقِ (إر 5: 1-3)، بُعْدٌ آخرُ من الخطيئةِ لأنَّهم يقصدون الهيكلَ وفي الوقتِ نفسِه يعبدون "بعل" و ينْقُضُون الوصايا [2].
ألسَّبيُ، لماذا وما هي طبيعتُه؟
هل تركَ اللهُ فعلاً شعبَه فكانَ السَّبيُ إلى بابلَ وخسِرَ الشَّعبُ الأرضَ والمملكةَ ولم يعدْ لهم نبيٌّ يهديهم إلى اللهِ ؟ أثارَتْ هذه التّساؤلاتُ فضولَ الباحثين فحاولوا جاهدين فَهْمَ أسبابِ السَّبي ومعناه ودورَه في حياةِ شعبِ اللهِ المُختارِ. فعادوا إلى الأنبياءِ والكلمةِ وجاءَتْ قراءةٌ أولى تقولُ بأنّه تأديبٌ مِنَ اللهِ (إر 31 :18) غايتُهُ توبةٌ حقيقيّةٌ.
ولكن، كيف لنا أنْ نفهمَ محبّةَ اللهِ في هذا الأمرِ؟ فهلِ المحبّةُ تعني السَّماحَ بخسارةِ كلِّ الضَّماناتِ البشريّةِ الوجوديّةِ والوقوعِ بين أيدي الغرباءِ والعيشِ بينَهم وتحتَ أمرَتِهم؟
فأين العهدُ وأين الوعدُ؟ وأين اللهُ ومظلّتُه؟
الله ينسحبُ، لأنّه والخطيئةُ لا يتساكنان، ويسمحُ بدمارِ الهيكلِ (إر 7 :4). ويبقى السَّبيُ الوسيلةُ الوحيدةُ لإنقاذِ إسرائيل من زلّتِه [3]. فهو في قاعِ البئرِ أسيرًا لخطيئتِه، عاجزًا عن التّحرّرِ منها والنُّهوضِ. والسَّبيُ هو وقتٌ للارتدادِ والمصالحةِ مع اللهِ، مع الذّاتِ، ومع القريبِ. من هنا نلتّمِسُ صفةً أخرى من صفاتِ المحبّةِ الإلهيّةِ إنّها الرَّحمةُ. فيظهرُ اللهُ إلهًا رحومًا ينسحبُ من الهيكلِ ومن بين شعبِه ولكن لا يترك يدَه. ويتبيّن لنا أنَّ السّبيَ ليسَ نتيجةَ ضعفَ اللهِ أمامَ الأعداءِ والآلهةِ الآخرين، بل إنّه يندرجُ في سُلْطَةِ اللهِ وتدبيرِه [4].
الطَّبيعةُ الثّانيةُ للسَّبيِ اتضّحَتْ أثناءَه فَفَهِمَ الباحثون أنّه يؤولُ إلى الخلاصِ. فالتّأديبُ يحضُر له، ولهذا جذورٌ في طلبِ اللهِ من إرميا النبّي بابتياعِ حقلٍ (إر 32 :25) فيكونَ ذلك علاماتِ رجاءٍ لمستقبلِ الشّعبِ اليهوديِّ ولمغفرةِ اللهِ لمعصيتِه [5].
فلن يقضيَ السَّبُي على هذا الشّعبِ بل إنّه يُعِدَّه لقيامةٍ جديدةٍ من خلالِ التَّحوّلِ الجذريّ لسلوكِهِ. فتأتيَ الأفعالُ الّتي نطقَ بها النَّبيُّ إرميا على لسانِ اللهِ تأكيدًا على ذلك: " وَيَكُونُ كَمَا سَهِرْتُ عَلَيْهِمْ لِلاقْتِلاَعِ وَالْهَدْمِ وَالْقَرْضِ وَالإِهْلاَكِ وَالأَذَى، كَذلِكَ أَسْهَرُ عَلَيْهِمْ لِلْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ، يَقُولُ الرَّبُّ." (إر 31 :28). فاللهُ سوفَ يدمِّرُ (مز 28 :5) بواسطةِ هذا السّبي مشاريعَ الشّعبِ، مذابحَ الوثنيّة (خر 34 :13) لبعل (2 مل10 :27)؛ مدينةَ (أورشليم) (مز 9 :7)؛ جدرانَ (إر39 :8)؛ ويهدمُ (إر 18:18؛6:21)؛ قطيعَ اللهِ (إر50 :6 ؛23 :1)، وذلك ليقيمَ، ويرفع شعبًا [6]. إنّ فعلَ "يزرعُ" يدلُّ على رغبةِ الله بإعطائِه أرضًا ووطنًا للاستقرارِ فيه" (راجع إر 31 : 10 .16-17) [7]. فالخطيئة لا تلغي العهد بين الله وشعبه [8].
ثمارُ السَّبيِ
ثمارٌ جمّةٌ حصَدَها الشَّعبُ أثناءَ السَّبيِ نذكرُ بعضِها. اعتَرَفَ الشَّعبُ اليهوديّ باللهِ، إلهًا واحدًا خالقًا ومخلّصًا. حلّ الخلقُ مكانَ الهيكلِ بحيْثُ أنَّ اللهَ حاضرٌ فيه وحلَّ السَّبتُ مكانَ الهيكلِ ليصبحَ وقتًا أساسيًّا في حياة إسرائيل حيْثُ يعيشُ معَ اللهِ ويتأمّلُ في صُنْعِ يديه خلالَ أيّامِ الأسبوعِ ويشكرُه على عطاياه. كما أنّ المجمعَ باتَ مكانَ التقاءِ الجماعةِ حولَ كلمةِ اللهِ لدراستِها وفهمِها وللصّلاةِ معًا. أخَذَ الكهنةُ على عاتِقِهِم تنظيمَ الشَّعبِ في ظلِّ غيابِ الملوكِ والدَّعوةِ إلى الصَّلاةِ الَّتي حلَّتْ مكانَ تقدمةِ الذَّبائحِ.
انصرفَ الباحثون إلى فهمِ معنى هذا الحدثِ كما ذَكَرْنا، فقاموا بصياغةِ كتبِ الأنبياءِ وكتابةِ جزءٍ كبيرٍ مِنَ العهِد القديمِ والتُّلمودِ البابليِّ. هكذا نسجَ الشّعبُ اليهوديُّ هويّتَه وحافظَ على تاريخِه فحرَصَ أنْ يُظْهِرَ فرادتَه هذه من خلالِ نمطِ حياتِه وسلوكِه.
أمّا الثّمرةُ الأهمُّ الّتي اقتطفَها في ظلِّ غربَتِه عن أرضه وحنينِه إليها هي إدراكُه بأنّ اللهَ لم يترُكْه يومًا ولم يتخلَّ عنه. فاكتَشَفَ حضورَه معهم وبينهم في السَّبيِ (راجع إر 15: 91) حتَّى قَبِلَ أنَّ اللهَ بنفسِهِ هو في السَّبي [9].
هكذا ترجَمَتِ الجماعةُ إيمانَها باللهِ وشهِدَتْ له.
كوفيد 19، أسبيٌ جديدٌ؟
سنة 2019 دخلَ عالَمُنا، ومن دون استئذانٍ، فيروسٌ جديد عُرِفَ بـ (Covid 19)، فتسلَّلَ إلى حياةِ النّاسِ وأخّلَ بنظامِها وقلبَ الموازين رأسًا على عقبٍ. ففرضَ علينا التَّباعدَ الاجتماعيَّ، والحجرَ المنزليَّ، وَوَضْعِ الكمامةِ، واقتناءِ مطهِّرِ اليدين. أُقْفِلَتِ المطاراتُ وأُغْلِقَتِ الحدودُ بين البلدانِ. أصبحَ كلُّ إنسانٍ مُهدَّدٍ بالزّوالِ. فمَرِضَ الملايينُ وماتَ منهم الكثيرون. ووجَدَ الإنسانُ نفسَهُ أسيرًا لهذا الفيروس في حينَ كانَ، من قبلُ، مُسَلِّطًا نفسَه سيّدَ الكونِ ومركزِه. ها هو اليومَ ينْهَزِمُ ويجدُ نفسَه عاجزًا ضعيفًا.
على صعيدِ الحياةِ المسيحيّة شهدْنا تغيّراتٌ كثيرةٌ. أقفلَتْ الكنائسُ وباتَ التَّقرّبُ من الأسرارِ بشكلٍ مباشرٍ غيرَ ممكنٍ في أغلبِ الأحيانِ. فبُتْنا مثلًا نشتَرِكُ في القدّاسِ الإلهيِّ عبر التَّلفاز. توقّفَتْ الاجتماعاتُ الرسوليّةُ في الرّعايا كما توقّفَ الحجُّ إلى الأماكنِ المقدّسةِ، وانْحَصَرَتِ الصّلاةُ في البيوتِ ضمنَ العائلةِ. لم تكنْ هذه التّغييراتُ سهلةَ القبولِ لدى الكثيرين. ومِنْ أصعبِ الأمورِ كانَ عدمُ التّمكّنِ من مؤازرةِ مرضى الـ (Covid 19) وحضورِ جنازةِ من ماتَ منهم. فانفطرَتِ القلوبِ وعلَتْ الشّكاوى إلى اللهِ وكثُرَتِ الأسئلةُ فكان منها: ماذا يحدثُ؟ أين اللهُ وسطَ كلِّ هذه المآسي؟ لماذا لا يتدخّلُ وينجزُ معجزةً ويضعُ حدًّا لهذا الفيروس؟ وجاءَتْ إثْرَ ذلك قراءَاتٌ عدّة يقولُ بعضُها: إنّه عقابٌ وتأديبٌ من اللهِ، وأنَّها نهايةُ العالمِ.
خاتمة
أمامَ الـ (Covid 19) إذًا، يجِدُ العالمُ نفسَه في غربةٍ عن ديارِه عن عاداتِه وعن طبيعتِه. ألا يشبِه هذا ما عاشه الشَّعبُ اليهوديُّ أثناءَ السَّبيِ؟ هل نحن في سبيٌ؟ إن كانَ الجوابُ "نعم" فأين نحن اليومَ من جُرأةِ الباحثين على محاولةِ فهمِ معنى ما نعيشُه والبحثِ عن مستقبلٍ مطبوعٍ بالتّوبةِ؟ هل نرى في جدرانَ أورشليم التي تحطَّمَتْ، جدرانَنا نحن وهي متعدّدة؟ كالقِيَمِ الخاطئةِ المتبنّاة، والراحةِ والإسرافِ المفرطِ، والثِّقةِ العمياءِ بضماناتِنا الماديَّةِ كالمالِ في البنوك، وأيضًا القتلِ والإرهابِ. هل نجدُ بيننا نبيًّا ينقلُ لنا كلمةَ اللهِ ويدلُّنا على أخطائنا ويدعونا للتوبةِ؟ لقد تبيّنَ لنا أنّ السَّبيَ لم يكنِ السَّببُ لدمارِ الشَّعبِ بل كانَتِ الخطيئةُ الفرديّةُ والجماعيّةُ.
فهل ندركُ نحن أنّ ما يحصلُ اليومَ من انهيارٍ في عالمِ الأخلاقِ والعلاقاتِ أنّ أسبابَه ليست الـ (Covid 19) بل أفعالُ كلٍّ منّا؟
كيف تقومُ الكنيسةُ، اليومَ، بقراءةِ ما يجري ومحاولةِ اكتشافِ حضورِ اللهِ وأمانتِه وفهمِ ما يقولهُ لنا؟ هل ننتظرُ خلاصًا بعصًا سحريّةٍ؟ السَّبيُ إلى بابلَ علّمَنا أنّ طريقَ الخلاصِ لا يعني انعدامَ المصاعبِ والتحدّياتِ بل إنّه يكمُنُ في التّوبةَ والمحبةِ. ما هي الإبداعاتُ التي نقومُ بها وسطَ الأزمةِ؟
السَّبيُ إلى حياتِنا الدّاخليّةِ هو وقتُ للتَّساؤلِ: مَن أنا؟ من نحن؟ وكيف نريدُ الاستمرارَ في الحياةِ؟ هل نريدُ أنْ نغفرَ؟ هل نجرؤُ أنْ نموتَ في سُبُلِ العدالةِ والسَّلامِ؟ كيف يمكنُنا أنْ نعيشَ إنسانيّتنا وَسَطَ عالمٍ يموتُ الإنسانُ فيه يوميًّا بثمنٍ زهيدٍ؟
الكنيسةُ ليست بكنيسةٍ إلّا إذا ماتَتْ عن ذاتِها في سبيلِ الحبِّ وخرجَتْ من قوقَعَتِها لملاقاةِ الإنسانيّةِ الَّتي تئنُّ بانتظارِ الخّلاصِ.
[1] Voir BLANCHET R., BONVIN B., CLERC D., GALLAY R.-M., MULLER D., ROULET Ph., WISSER L., Jérémie un prophète en temps de crise, Genève : Éditions Labor et Fides, 1985, p 84.
[2] راجع المرجع نفسه، ص 83.
[3] راجع المرجع نفسه، ص 90.
[4] Voir QUESNEL Michel et GRUSON Philippe, La Bible et sa culture - Ancien Testament, Paris : Les Editions du Cerf, 1998, p 252.
[5] Voir BLANCHET R. « et al. », Jérémie un prophète en temps de crise, op. cit, p 57.
[6] المرجع نفسه، ص 56، ترجمة بتصرف.
[7] المرجع نفسه.
[8] WIGODER Geoffrey dir, Dictionnaire Encyclopédique du Judaïsme, Paris : les Éditions du Cerf, 1993, p 426.
[9] المرجع نفسه، ص 427.