الخوري إميل هاني
مقالات/ 2021-01-25
الإنسان مكوّنٌ من جسدٍ واحدٍ وروحٍ واحدة وهذا ما يكوّن ذات كلّ إنسان. والدعوات التي تدعو إلى وحدة الإنسان مع نفسه هي متعددة. في البدء قال سقراط:"إعرَف نفسك"، قبل أن يسعى الإنسان إلى الوحدة مع ذاته عليه أن يعرف ذاته خير معرفة.
عليه أن يعرف مكونات ذاته المتعددة: المُكوِّن العاطفي، المُكوِّن الإنساني، المُكوِّن الروحي، المُكوِّن العلائقي، المُكوِّن الاجتماعي، المُكوِّن السّيكولوجي، المُكوِّن الوطني، المُكوِّن الباطني الداخلي، إلخ… وإنّه مُكوَّنٌ من جميع هذه المكوّنات التي تشكل ذاته الفريدة.
وهنا تكمن المشكلة، عندما يضيعُ التّوازنُ بينَ كلِّ هذه العناصر أو عندما يقوى عنصرٌ على آخرَ أو على حسابِه بحيث ينمّي الإنسان ويطوّر ناحيةً من هذه النواحي ويُهْمِلُ الأخرى. إذًا الدّعوة موجهة لكلّ إنسان إلى أن يسافر إلى أعمق مكان في ذاته ليبحثَ عن الكنوزِ المدفونةِ، لأنّه إذا اعتقد بوجودِ الكنوزِ خارج ذاته فإنه سيسافرُ بعيدًا إلى الخارج فلا يجد شيئاً. الكنوزُ في قلب كلّ واحدٍ منّا، فحيث الدِّفء هناك يكون الكنز، فلا جدوى من البحث عبثاً خارج قلبك. لأنّه حسب متى الانجيلي: "حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك" (متى 16/ 21)، لئلا نقع فيما يقوله بولس الرسول عن النِّزاع بين ما نريد فعلَه وما لا نريدُ حين يقول: "الخير الذي أريده لا أفعله، والشرّ الذي لا أريده، إيّاه أفعل" (رو7 /19). ممّا يدلُّنا على الصّراع الدّائم بين ما في داخلِنا وما في خارجِنا. من هنا ضرورة الوحدة مع الذات، بتوحيد كلّ الطاقات، والهموم، والأفراح، والأحزان، والأشواق، إلخ… لكي تكونَ النّفسُ والقلبُ في وحدةٍ تمكُن الجَسَدَ من التَّعبير الصَّادق عمّا يدور في داخله، فيُرغَمُ على فِعْلِ ما لا يريده. لذلك نحن أمامَ مسيرةِ إلى الذَّات.
من المهمّ، في هذه المسيرة، الانتباهُ في السَّعي إلى معرفةِ الذّات من السّقوط في "الأنا" أي أن يسعى الإنسان إلى تحقيق كيانه معتبرًا نفسه المرجع لذلك، وهنا تكمن الخطيئةُ، وهي الكبرياء. ومن جهة أخرى أن يرفض الإنسان أن يحدد موقعه أمام الله وأمام الآخرين، والاحتباس في الأنا؛ هنا نقعُ في مراوغةِ القلبِ الَّذي يضع خيرَه في غير ما هو أساسي. وكلٌّ منّا يتكون من رغباتٍ ملتبسةٍ ومخاوف، وبحثٍ عن أنفسِنا وميولٍ غيرِ موجّهة توجيهاً صحيحاً، وافكارٍ متقلبةٍ غيرِ ثابتةٍ. وهنا تلعبُ الحريةُ دورَها إذ تشعرُ بالثقلِ والضَّغطِ وتسلُكُ بالإنسان في طُرُقٍ ملتويةٍ ومنحرفةٍ.
لذلك أطرحُ فيما يلي بعضَ التّوجيهاتِ الَّتي قد تُساعدُ الإنسان في مسيرتِه نحو الذّات والّتي تساعدُ على وحدةِ هذه الذَّات وتوحيدِ جهودِها في سبيلِ خيرِ الإنسان:
- على الإنسان أن يعي ذاته وكل ما في داخله وكل ما يمكنه أن يزعزع عملية الوحدة وأن يسعى إلى تخطي كل ما يعرقل هذه العملية.
- ألا يتنكَّر الإنسان لتاريخه الشخصي بكل أبعاده وألا يتنكَّر لتاريخ الله معه، على سبيل المثال الشعب اليهودي الذي في كل مرة كان يتنكر لعهد الله، وينقضه معه ويبتعد عنه، وفي كل مرة كان الله يذكِّره بكلِّ ما فعله معه. (الأمانة للتاريخ).
- أن يبحث الإنسان عن الجوهري الداخلي، والتخلّي عن الخارجي والمظاهر، بمسيرةٍ صادقة إلى العمق.
- ألّا يهربَ الإنسان من ذاته، بسبب خوفه من الجلوس مع ذاته. بل أن يواجه الفراغ الذي في داخله ويسعى إلى المِلء الذي هو من الرب.
- أن يستعين بمَن يمكنُه أن يرشِدَه لبلوغِ الميناءِ الذي يقصده بدون التّوقُّف عند العواصف والأمواج والصعوبات التي تحاول عرقلة هذه المسيرة.
- الإيمان، يعني أنه سيجد الكنز الذي يسعى للبحث عنه وأنه يستحق العناء. أن يحب نفسه وينفتح على نفسه كي يستطيع أن يحب الآخر وينفتح عليه.
- هناك موت في حياة الإنسان عن القشور القاسية، العادات، الأقنعة، لكي يستطيع أن يولد ولادة جديدة. أن يصبر لتحقيق الهدف وبلوغ الكنز.
- أن يكون لكلّ شخص مرافق (مرشد روحي) اختبر هذا العبور بخبرة ومعرفة إنسانية. يبيّن للمسافر هدف السفر. وأهميةُ المرافق أنّه يساعده على تمييز صوت الحق حتى يتبعه ولا يضلّ، يساعده عند مفترق الطرقات على اختيار الطريق الصحيح، وهو يؤكد له أنّ الطريق غير مسدود.
- أن يعي الإنسان أهمية العزلة ليتمكن من معرفة ذاته. وأهمية الصمت والاصغاء والتأمل بالطبيعة، بالمخلوقات وبكلمة الله.
وفي خلاصة الكلام، نقول أنّ كلّ عناصر هذه المسيرة غير ممكنة التحقيق خارجًا عن علاقتي وانفتاحي على قلب الله، هو الذي ينير مسيرتي هو الذي يجعلني إنساناً بكلّ معنى الكلّمة، هو الذي يجعلني أتوق إلى الألوهة والقداسة، هو الذي ينير زوايا ذاتي المظلمة ويضعني على الطريق الصحيح. يجعلني أتخطّى خوفي وتردّدي لأختبر هذا التحوّل من إنسان مشتّت، تتجاذبني الأفكار والمشاعر، والعادات، والعواطف، … إلى إنسان يعيش في وحدة مع ذاته بحيث، باطنيًّا وظاهريًّا، يقدّمُ الشّيء عينه دونما تفرقة بين الداخل والخارج يصبحُ وحدةً متناغمةً "تتدوزن" على أوتارِ وحيِ روحِ اللهِ الّذي يرشِدُ ويجدِّدُ ويطهِّرُ ويوحِّدُ، لأنَّ هذه الوحدةَ الّتي نختبِرُها مع ذاتِنا ومع الآخرين، إنَّما هي مستمدةٌ من هذه الوحدةِ مع اللهِ بواسطةِ جسدِ ودمِ يسوعِ المسيحِ الّذي يحوّلُنا، بتناولِنا جسدَه، إلى جسدِه السّري، الكنيسةِ الّذي هو رأسُها ونحن أعضاؤها.