فرضت الشريعة اليهوديّة الحجّ ثلاث مرّات في السنة إلى أورشليم (عيد الفصح ،عيد البواكير وعيد المظالّ، راجع: خر 23: 14– 17، 34: 22 – 23، تث 16: 16). عيد الفصح هو أحد أعيادِ الحجّ، وفي هذا التوقيت رمزٌ مسبقٌ لغياب يسوع بعد دفنه في فترة عيد الفصح وظهوره بعد ثلاثة أيام لتلاميذه كما وجده أبواه بعد ثلاثة أيام على اختفائه (آية 46).
يؤكّد لوقا على أنّ يسوع بلغ "الثانية عشرة" من عمره، أي السنّ القانونيّة، أو العمر الذي يصير فيه الولد اليهوديّ "ابن الوصيّة"، وبإمكانه أن يقرأ التوراة في المجمع، وعليه أن يحفظ الوصايا ويخضع للشريعة وفرائضها، وبالتالي يصبح بالغًا؛ تجدر الإشارة إلى أنّ الولد في هذه السنة من عمره يخضع لامتحان الشّريعة أمام العلماء، وها هو يسوع يخضع لامتحانٍ في الهيكل كما كانت تقدمته أيضًا في الهيكل آية 22.
كان الحجّاج يقضون في أورشليم ثمانيةَ أيام ليحتفلوا بالعيد، وكان المسافرون يسيرون في قافلتين، إحداهما للنساء في المقدّمة والثانية للرجال في المؤخرة. وكان الأولاد يسيرون إما مع الرجال وإمّا مع النّساء. ولما انقضى العيد وعادت قافلة الجليل وانقضى اليوم الأول في السّفر، وحينما اقتربت قافلة الرجال، وفيها يوسف، من قافلة النّساء وفيها مريم والتقيا كلاهما، سأل كلاهما الآخر عن الصبي يسوع، إذ بحسب كل منهما أنه مع الآخر، ولمّا لم يجداه سألا الأقارب والمعارف علّه برفقة أحدهم ولم يجداه، فعادا إلى أورشليم واستغرق هذا يومًا ثانيًا، وامضوا اليوم الثالث في البحث عنه في أورشليم .
46 وَبعْدَ ثَلاثَةِ أَيَّام، وَجَدَاهُ في الـهَيكَلِ جَالِسًا بَيْنَ العُلَمَاء، يَسْمَعُهُم ويَسْأَلُهُم.
47 وكَانَ جَمِيعُ الَّذينَ يَسْمَعُونَهُ مُنْذَهِلينَ بِذَكَائِهِ وأَجْوِبَتِهِ.
إنّ صعود يسوع إلى أورشليم ولقاءَه مع العلماء في الهيكل في بداية انجيل لوقا هو استباق لصعوده الأخيـر (لو 9: 51) ولتعليمه الأخيـر في الهيكل (19: 47، 20: 1). التشابه بين هذا الحدث وما سيورده لوقا في الفصل 24 من انجيله واضح، يجب العودة إلى اورشليم لنجد يسوع. سنجده بعد ثلاثة أيام في الهيكل جالسًا بين العلماء، كما سيجده التلاميذ بعد ثلاثة أيام قائمًا من بين الأموات، ليفهموا أنّه هو الكلمة التـي به تكتمل وتتحقّق النبؤات، سينذهلون به ويندهشون كما انذهل واندهش العلماء من أجوبته.
48 ولَمَّا رَآهُ أَبَوَاهُ بُهِتَا، وقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: "يا ابْنِي، لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هـكَذا؟ فهَا أَنَا وأَبُوكَ كُنَّا نَبْحَثُ عَنْكَ مُتَوَجِّعَين!".
49 فَقَالَ لَهُمَا: "لِمَاذَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلا تَعْلَمَانِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ في مَا هُوَ لأَبي؟".
50 أَمَّا هُمَا فَلَمْ يَفْهَمَا الكَلامَ الَّذي كَلَّمَهُمَا بِهِ.
في كلام مريم عتاب وملامة وكأنّها اعتبـرت أنّ ابنها أساء التصرّف تجاه والديه. ما يلفت انتباهنا في هذه الآية أنّ مريم تتحدّث عن نفسها وعن يوسف إذ تسميّه "أبوك"، فهي تؤكّد على واجبات يسوع تجاه والديه، فيما سيتكلّم يسوع في الآية 49 عن واجباته تجاه أبيه السماويّ.
"لِمَاذَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلا تَعْلَمَانِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ في مَا هُوَ لأَبي؟": إنّها الكلمات الأولى التي تفوّه بها يسوع في إنجيل لوقا، نقرأها على ضوء الكلمات الأخيرة التي سيقولها على الصليب: "يا أبتِ بين يديك استودع روحي" (لو 23 : 46). هذه أوّل دلالة على إدراك يسوع ومعرفته لدوره ولهويته كابنِ الله.
فعل
"ينبغي" أو
"يجب" يدلّ عند لوقا على وجوب تتميم إرادة الله، فمخطّط الآب السماويّ الذي كشفته النبوءات يجب أن يتحقّق بالابن. يتحدّث يسوع هنا عن واجبه تجاه أبيه السماويّ الذي يتقدّم على واجبه تجاه والديه الأرضيَّين. لكنّ هذه العبارة ستبقى سريّة وغير مفهومةً لهما (آية 50). إنّ دهشة مريم ويوسف تجاه ما حدث والمعبَّر عنها بفعل
"بهتا" في الآية 48 تأتي في سياق ما كتبه لوقا في الآية 33 "وكانَ أَبُوهُ وأُمُّهُ يَتَعَجَّبَانِ مِمَّا يُقَالُ فِيه"، هذه الدهشة هي ردّة فعل الإنسان تجاه سرّ الله الذي لا يسبر غوره. هذا السرّ سيبقى مغلقًا وغيرَ مفهومٍ حتّى يتحقّق الوحي التّام في يومِ الفصح ويفهمُ السِّرّ بنعمةِ الروح القدس في يوم العنصرة (لو 24: 45 – 46، أعمال 2: 1 – 13).
51 ثُمَّ نَزَلَ مَعَهُمَا، وعَادَ إِلى النَّاصِرَة، وكانَ خَاضِعًا لَـهُمَا. وكَانَتْ أُمُّه تَحْفَظُ كُلَّ هـذِهِ الأُمُورِ في قَلْبِهَا.
هذه الآية تختتم حدث وجود الربّ في الهيكل، سيعود يسوع إلى الناصرة ويخضع لوالديه وفي هذا دلالة على عيشه إنسانيته بالملء. أمّا مريم فقد حفظت كلّ هذه الأمور في قلبها، ويُقصد بهذا مجمل الأحداث التي عاشها الطفل منذ تقدمته في الهيكل إلى يوم وجوده فيه بين العلماء، هذان الحدثان يذكّران مريم بانتماء ابنها إلى بيت ابيه السماويّ ويحضّرانها لساعة المجد، لذلك يوضّح لوقا بأنّها كانت تحفظ كلّ تلك الأمور في قلبها، ليؤكّد من جهة على استعدادها للسّير مع ابنها حتى الصليب، ومن جهة أخرى ليدعونا لنقتدي بها في مسيرتنا مع الربّ، إذ لا بدّ أن ندخل في حالة إصغاء وتأمّل لنتمكّن من فهم سرّ تدبير الله بطريقةٍ تدريجيّة.
52 وكَانَ يَسُوعُ يَنْمُو في الـحِكْمَةِ والقَامَةِ والنِّعْمَةِ عِنْدَ اللهِ والنَّاس.
هذه الآيةُ تختم أناجيل الطفولة عند لوقا (لو1 و2)، فبعد أن ختم خبـر طفولة يوحنا المعمدان قائلًا: "كان الطفل ينمو ويتقوى بالروح" (لو 1: 80)، سيقدّم لنا خاتمة أولى عن طفولة يسوع في (لو 2: 40 ) "وكانَ الطِّفْلُ يَكْبُرُ ويَتَقَوَّى ويَمْتَلِئُ حِكْمَة. وكَانَتْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَيْه". لقد استعمل لوقا فعلين، الأول "يكبر" أو ينمو وهو ينطبق على نمو الجسد، والثاني "يتقوى" وهو ينطبق أكثر على الطباع اي على القلب في المعنى الكتابي (راجع: كور 16: 13)، أما الامتلاء من الحكمة فهي دلالة على على النمو الروحي للطفل. في هذه الآية نحن أمام خاتمة ثانية لطفولة يسوع، فيها ترتيب مختلف للنموّ. فالنّموّ الباطني يأتي قبل النموّ الخارجي، ويكلّل الاثنين بالنّعمة أي برضى الله.
نمّو يسوع في الحكمة يعني نموّه العقلي في المعرفة ويعني أيضًا نموّه في اكتشاف مشيئة الله وقبولها والعمل بها، ونموّه في القامة يعني نموّه الجسدي والعمري. هذا النموّ في بعديه يؤكّد مرّة أخرى على انسانيّة يسوع الكاملة، لقد عاش كلّ ما يعيشه إنسان آخر من رغبات وحاجات وصعوبات وتحدّيات وسعي للمعرفة ولتتميم إرادة الله في حياته. أما نموّه في النعمة أمام الله والناس، يعني نموّه في رضى الربّ ومسرّته، فبقدر ما ينمو عقله وجسمه وبقدر ما يصبح أكثر وعيًا لمشيئة الله في حياته ويتمّمها بقدر ما سيصبح أكثر مرضيًا لدى الله ولدى الناس.
خلاصة روحيّة
في إنجيل هذا الأحد تُعلَن هويّةُ يسوع الحقيقيّةُ وكذلك يُعْلَنُ انتماؤه ورسالته، فهو ابن الله الحاضر أبدًا وسطَ شعبه، المتمّم إرادة أبيه السماويّ، المعلّم الحقيقيّ، وهو في الوقت نفسِه، الانسان الذي يحجّ إلى الهيكل برفقة والديه خاضعًا لهما. في مسيرة حجّه وفي مسيرة نموّه أدرك يسوعُ ــ الانسان حقيقة أنّه ابنُ الله وعرف أنّ رسالته تكون في إتمام مشيئة أبيه السماويّ قبل كلّ شيّ. لقد وعى حقيقته في الهيكل، مكان اللقاء بين الله والانسان. إنّها دعوة لنا لندرك أنّنا ابناء الله، وعلى صورته ومثاله. حياتنا على هذه الارض هي مسيرة حجٍّ إلى الآب السّماويّ، ومكان اللّقاء هو مكان الصلاة ومكان سماع الكلمة وحفظها، حيث سيُفهمُنا اللهُ حقيقتَه الالهيّةَ ويُدخِلُنا في سرّه العظيم. مريم ويوسف بحثا عن يسوع ووجداه في الهيكل، أي في مكان التعليم ومكان العبادة، ونحن لن نجد الله إلّا إذا بحثنا عنه في الكلمة المعلنة لنا وفي العبادة الحقيقيّة التي تجعلنا نقدّم أنفسنا ذبائح مرضيّة له. عندها سنعود إلى الناصرة إلى بيتنا حاملين معنا اختبار اللقاء الذي سيوجِّه حياتَنا نحو طاعة الله المطلقة والعمل بإرادته حتى النّفس الأخير.