شرح الآيات
1 وفي تِلْكَ الأَيَّام، صَدَرَ أَمْرٌ مِنْ أَغُوسْطُسَ قَيْصَرَ بِإِحْصَاءِ كُلِّ الـمَعْمُورَة.
2 جَرَى هـذا الإِحْصَاءُ الأَوَّل، عِنْدَمَا كانَ كِيرينيُوسُ والِيًا على سُورِيَّا.
"في تلك الأيام" هذه العبارةُ تربطُ خبرَ الميلادِ بالأحداثِ السّابقةِ التي أتى لوقا على ذكرها في الفصل الأوّل من إنجيله. بعد أن تكلّم لوقا في الفصلِ الأوّل عن البشارات في ظلّ الملك هيرودس (لو 1: 5)، أي عن يسوع الآتي إلى أورشليم، ها هو في الفصل الثاني يوسّع نطاق البشرى، فينتقلُ للكلامِ عن ميلادِ يسوع في ظلّ الامبراطور الرّوماني، أي ملك المعمورة. فإذا بمولِدِ المخلِّصِ فجرٌ جديدٌ وتاريخٌ جديدٌ لكلِّ المسكونةِ.
"أَغُوسْطُسَ قَيْصَرَ" هو الامبراطور روماني، زمنَ ميلاد يسوع، كان عهده من أهمّ العهود الرومانيّة ولقّب بأغسطس أي المعظّم، وهو لقبٌ إلهيّ. وفيما الأمبراطور الروماني يسعى ليكون الإله، الله يتجسّد ليصير انسانًا.
"الإِحْصَاءُ الأَوَّل، عِنْدَمَا كانَ كِيرينيُوسُ والِيًا على سُورِيَّا" كانتْ العادةُ في سوريا أنْ يجري احصاءٌ للسُّكانِ كلّ 12 سنةً، ويذكُرُ المؤرّخُ يوسيفوس إحصاءً جرى في عهد كيرينيوس سنة 6 ب.م. (كيرينيوس: حاكم سوريا، قامَ بإحصاءٍ في فلسطين، وكان مسؤولًا عن السياسة الرومانيّة في منطقةِ سوريا منذ سنة 12)، وبما أنّ لوقا يتكلّم على إحصاءٍ أوّل، يجب العودة 12 سنةً إلى الوراء، عندها يمكننا أنّ نحدّد تاريخ ميلاد يسوع الفعليّ في السنة 6 ق.م. . المهمّ في هذه المعلومة أنَّ الربّ يدخل تاريخ البشريّة ويسجّل في إحصاء المعمورة كلّها. يشير لوقا إلى الإحصاء ليحدّدَ مولد يسوع في في إطار التاريخ العام، شأنُه شأنُ مؤرِّخي عصره، لكنّ همَّه الأوَّل أنْ يقولَ لنا أنّ يسوعَ الملكَ السماويَّ يولدُ في ظلّ ملكٍ أرضيٍّ ويخضعُ لسلطتِه الزَّمنيّة.
3 وكانَ الـجَمِيعُ يَذهَبُون، كُلُّ واحِدٍ إِلى مَدِينَتِهِ، لِيَكْتَتِبوا فِيهَا.
4 وَصَعِدَ يُوسُفُ أَيضًا مِنَ الـجَلِيل، مِنْ مَدينَةِ النَّاصِرَة، إِلى اليَهُودِيَّة، إِلى مَدينَةِ دَاوُدَ الَّتي تُدْعَى بَيْتَ لَحْم، لأَنَّهُ كَانَ مِن بَيْتِ دَاوُدَ وعَشِيرَتِهِ،
5 لِيَكْتَتِبَ مَعَ مَرْيَمَ خِطِّيبَتِهِ، وهِيَ حَامِل.
يوسف كما الجميع يخضعُ للقرار الأمبراطوري، يطيعُ هذه الإرادةَ البشريّة، وبطاعتِه يتضامنُ يسوعُ مع كلّ البشريّة وليس فقط مع شعبه. هذه الطَّاعة للسُّلطة الأرضيّة سيعودُ ويتكلّمُ عليها يسوع في معرض حديثه عن "أداء الجزيّة لقيصر" (راجع متى 22: 15 – 22 ).
مدينة داود هي دومًا أورشليم على ما جاء في العهد القديم (4 مل 5: 7، 6: 10، أش 22: 9)، لوقا وحده يدعو بيت لحم بمدينة داود ولعلّه يريد أن يقول لنا أنّ قرار أوغسطس يحقّق نبوءة ميخا 5: 1-2، حيث تبدّلتِ الأمورُ بعد أن خانَتْ أورشليم العهدَ، فعادَ الرَّبّ إلى الجذور، وأقامَ داودُ الجديدُ في مدينته الّتي صارتْ بيتَ لحم، هذه الفكرة نجدُها أيضًا في متَّى 2: 5 – 6، يمكنُنا القولُ أنّنا أمامَ قراءةٍ كريستولوجيّا لنصّ ميخا.
يورد لوقا في الآية 5 إسم مريم، محدّدًا هويّتَها كخطِّيبَةِ يوسف والحامِل، وقد عرَفْنا في الفصلِ الأوّلِ كيفَ تمّ حبَلُها العجائبيُّ بحلولِ الرّوحِ القدسِ وكيف ظلّلَتْها قدرةُ العليّ. يوضِّحُ لنا لوقا أنَّ عطيّةَ اللهِ لا تُلغي الضِّيقاتِ والخضوعِ للسُّلطةِ البشريّةِ والتَّعرُّضِ للصُّعوباتِ.
6 وفِيمَا كانَا هُنَاك، تَمَّتْ أَيَّامُهَا لِتَلِد،
7 فوَلَدَتِ ابنَهَا البِكْر، وَقَمَّطَتْهُ، وأَضْجَعَتْهُ في مِذْوَد، لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ في قَاعَةِ الضُّيُوف.
يستعمل لوقا في الآية 6 ألفاظًا نجدُها في سفرِ التّكوينِ (تك 25: 24) وقد وردَتْ أيضًا عند ذكر ولادةِ يوحنا.
"الابن البكر" توضّحُ الوضعَ الشّرعيَّ ليسوع ووجوب تطبيق الشريعة عليه (راجع خر 13: 2، 12)، لكنَّ لوقا لا يهمُّه اعلانَ حقِّ البُكوريّة ليسوعَ، بقدرِ ما يريدُ أنْ يعلنَ لقبًا كريستولوجيًّا مؤكّدًا صفته كمكرّس للربّ.
تشير الآية 7 إلى الواقع الفقيرِ الذي يولد فيه مخلّص العالم، إذ ليس له مكان يستقبلُه، لذا يستعمل لوقا كلمة "قاعة" أو "موضع" ليدلّ على المكان المجاورِ لقاعة الضيوف.
سيوضع الطفل "في مذود"، لئلّا تدوسَه البهائم، يركّز لوقا على الواقع الفقير الذي يلازم الطفل. أمّا الكلام عن المغارة وذكرها للمرّة الأولى فيعود إلى القدّيس يوستينوس في القرنِ الثّاني، كما نجد هذا التقليد ايضًا في انجيل يعقوب المنحول.
8 وكانَ في تِلْكَ النَّاحِيَةِ رُعَاةٌ يُقِيمُونَ في الـحُقُول، ويَسْهَرُونَ في هَجَعَاتِ اللَّيْلِ على قُطْعَانِهِم.
رعاة يقيمون في الحقول: هذه دلالة على أنّنا إمّا في فصل الربيع أو في فصل الصيف، أمّا الاحتفال بعيد الميلاد في 25 كانون الأول فهو استبدال لعيد الشمس الذي احتفلت به روما في القرن الأول للمسيحيّة. الرعاة عادةً يعيشون خارج المجتمع المشارك في شعائرِ العبادةِ بحكم عملهم، هم الصِّغارُ المساكين المهمّشين، ومع ذلك هم أول من وصلت اليهم البشارة. هجعات الليالي تشير إلى الظلمة التي ستمحوها أنوارُ المولودِ الجديدِ.
9 فإِذَا بِمَلاكِ الرَّبِّ قَدْ وقَفَ بِهِم، ومَجْدُ الرَّبِّ أَشْرَقَ حَولَهُم، فَخَافُوا خَوفًا عَظِيمًا.
10 فقالَ لَـهمُ الـمَلاك: "لا تَخَافُوا! فَهَا أَنَا أُبشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِلشَّعْبِ كُلِّهِ،
11 لأَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ اليَوْمَ مُخَلِّص، هُوَ الـمَسِيحُ الرَّبّ، في مَدِينَةِ دَاوُد.
12 وهـذِهِ عَلامَةٌ لَكُم: تَجِدُونَ طِفْلاً مُقَمَّطًا، مُضْجَعًا في مِذْوَد!".
ملاك الربّ يدلّ على حضور الربّ ومجيئه القريب، ومجد الربّ في العهد القديم يدلّ على ظهور السرّ الالهيّ. لوقا يحاول أنّ يصوّرَ لنا إعلانَ الميلاد كتجلٍّ إلهيّ كان قد أعلنه الأنبياء في العهد القديم (حز 43: 1- 12و أش 40: 5 ). لذلك يعتري الخوف الرعاة كما الأنبياء أمامَ الظهور الإلهيّ (اش 5: 6 ، دانيال 8: 17؛ 10 : 7 – 11 )، إنّها الرهبة أمام الحضور الإلهي. "لا تخافوا": هي العبارة الأولى التي يعلنها الملاك دومًا، هي دعوة للثقة.
في الآيات 10، 11، 12: نسمع كلام الملاك، اعلان فرح وبشرى بالمسيح المخلّص، هذا الاعلان للرعاة ومن خلالهم لكلّ الشعب. البشرى هي ولادة المخلّص المنتظر، المسيح الربّ وفي هذا الاعلان تعبير عن دور يسوع المسيح الملك الاله الذي سيخلّص شعبه. هذا الطفل الذي هو الاله المخلّص المنتظر يظهر طفلًا مقمطًا مُضْجَعًا في مِذْوَد، هذه علامة خلاص لمن سيقبل البشارة، كما الصليبُ علامةُ خلاصٍ للمؤمنين وعلامةُ شكٍّ وعثارٍ لغيرِ المؤمنين.
13 وانْضَمَّ فَجْأَةً إِلى الـمَلاكِ جُمْهُورٌ مِنَ الـجُنْدِ السَّمَاوِيِّ يُسَبِّحُونَ اللهَ ويَقُولُون:
14 "أَلـمَجْدُ للهِ في العُلَى، وعَلى الأَرْضِ السَّلام، والرَّجَاءُ الصَّالِحُ لِبَني البَشَر".
بعد إعلان الملاك، ظهر فجْأَةً جُمْهُورٌ مِنَ الـجُنْدِ السَّمَاوِيِّ. (فرقة من الجنود) مسبحين اللهَ. في العهد القديم هي أولى مهام الملائكة. هذا هو النشيد الثالث في لوقا 1-2 . هذا النشيد قد يكون نشيدًا مسيحيًّا قديمًا كنشيد زكريا ومريم. يعلن هذا النشيدُ السَّلامَ الذي تحتاجُ اليه الأرضُ، سلامٌ افتَتَحَهُ يسوعُ، سلامٌ لا يصرخُ، لا يحطّمُ، لا يملكُ سلاحاً، سلامٌ يدشِّنُ مصالحةَ العالمِ مع اللِه. الرَّجاءُ أو الرِّضى هو رضا الله، أي حبَّه ورحمتَه للبشرِ جميعًا، الذي سيتحقّقُ بالابنِ المخلّصِ.
15 ولَمَّا انْصَرَفَ الـمَلائِكةُ عَنْهُم إِلى السَّمَاء، قالَ الرُّعَاةُ بَعْضُهُم لِبَعْض: "هيَّا بِنَا، إِلى بَيْتَ لَحْم، لِنَرَى هـذَا الأَمْرَ الَّذي حَدَث، وقَد أَعْلَمَنا بِهِ الرَّبّ".
16 وجَاؤُوا مُسْرِعِين، فوَجَدُوا مَرْيمَ ويُوسُف، والطِّفْلَ مُضْجَعًا في الـمِذْوَد.
17 ولَمَّا رَأَوْهُ أَخبَرُوا بِالكَلامِ الَّذي قِيلَ لَهُم في شَأْنِ هـذَا الصَّبِيّ.
18 وجَمِيعُ الَّذِينَ سَمِعُوا، تعَجَّبُوا مِمَّا قَالَهُ لَهُمُ الرُّعَاة.
سيكونُ الرعاةُ أوَّلَ المرسلين، لم يشكوا ولم يرتابوا بالكلام الذي سمعوه، لقد عرفوا في قلوبهم، فقبلوا وقاموا مسرعين كمريمَ في زيارتِها لإليصابات بعد البشارة، أنّه كلام الربّ الذي يحرّك قلبَ الانسانِ ويزرعُ فيهِ الحياةَ ويطلقُه نحو الآخرين حاملًا السَّلامَ والفرحَ. إنّ مشهدَ الطِّفلِ الملفوفِ بالأقمطةِ، ثبَّت الرُّعاةَ في إيمانِهم وجعلَ منهم شهودًا للمولودِ الجديدِ ومبشِّرين. أمام هذه البشارة نرى تعجُّبَ السَّامعين الذي يشير إلى الدَّهشةِ أمامَ سرِّ اللهِ الَّذي لا يُسْبَرُ غورُه.
19 أَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ تَحْفَظُ هـذِهِ الأُمُورَ كُلَّهَا، وتتَأَمَّلُهَا في قَلْبِهَا.
مريم ستكون الأنموذجَ لكلِّ سامعٍ للكلمةِ والسّاعي إلى فهمِها وعيشِها، وبالتَّالي أنموذجًا للكنيسةِ التي تسمعُ البشارةَ وتتأمّلُها وتعيشُها.
20 ثُمَّ عَادَ الرُّعَاةُ وهُمْ يُمَجِّدُونَ اللهَ ويُسَبِّحُونَهُ على كُلِّ ما سَمِعُوا ورأَوا، حَسَبَما قِيْلَ لَهُم.
عادَ الرُّعاةُ كما عادَ زكريا (لو 1: 23) وكما عادَتْ مريمُ (لو 1: 59)، بعدَ اختبارِ حضورِ اللهِ وسماعِ كلمتِهِ ومشاهدةِ ظهورِه. إنّه اختبارٌ روحيٌّ عميقٌ عاشَهُ الرُّعاةُ أمامَ مشهديّةِ الميلادِ، اختبروا فيه حدثَ الخلاصِ، وعاشوا تحوُّلًا جذريًا في حياتِهم، أدّى بهم إلى التسبيحِ والتمجيدِ.
خلاصة روحيّة
نعيشُ انتظارَ مجيءِ المخلّصِ كما عاشَتْهُ البَشَريّةُ مُنْذُ آلافِ السّنين، ولكن عندما يحينُ موعدُ وصولِه، قد لا يجدُ عندَنا مكانًا لاستقبالِه. إنّنا منهمكون كثيرًا بذواتِنا، بيتُنا يعجُّ بالضُّيوفِ، وقلبُنا وفكرُنا بالمشاغِلِ والهُمومِ والمخاوفِ، ولذا لا يبقى أيُّ مكانٍ للهِ عندنا. بقدر ما نصبحُ أغنياء بأنفسِنا، بقدر ما سيتعَذَّرُ علينا إيجادَ مكانٍ ليسوع في حياتِنا ليولدَ فيها.
لقد أعلنَتِ البُشْرى أولًا للرعاة في الحقولِ بالقربِ من بيتَ لحمٍ، حيث كانوا يحرسون قطعانَهم، إنَّهم أشخاصٌ يعيشون على هامشِ المجتمعِ الكبيرِ. لوقا يخبِرُنا أنّهم كانوا ساهرين. إنّها الدَّعوةُ إلى السَّهر، إلى البقاء متيقِّظين لنكونَ مستعدِّين لمجيءِ الرَّبِّ. وحدَه القلبُ السّاهرُ قادرٌ على قبولِ كلمةِ اللهِ وتصديقِ ظهورِه وعلاماتِه في الأمورِ الفقيرةِ والصّغيرةِ.
في زمنِ البحثِ عن علاماتِ خلاصٍ في الظَّواهرِ الكبيرةِ والمُلْفِتَةِ والفائقَةِ الطَّبيعةِ، نحن مدعوون لليقظةِ، لكي تصلَ الرِّسالةُ إلينا. نحن مدعوون للخروجِ من عالمٍ يبحثُ عن الخوارقِ والأعاجيبِ ليؤمنَ باللهِ، والدُّخولِ في مسيرةِ البحثِ عنهُ في علاماتِ التّواضعِ والفقْرِ التي يتجلّى فيها.