1. هويّة النبيّ
وُلد إرميا ومعنى اسمه "الربّ رفيعٌ"، من عائلةٍ كهنوتيّة في قرية عناتوت منتصف القرن السابع قبل الميلاد (650-645 ق.م.) بالقرب من مدينة أورشليم الذي قضى فيها القسم الأكبر من حياته، فعاش مأساتها وتحدّث عن دمارها في نهاية القرن السادس قبل الميلاد. وكان ابنُ عشرين سنةً حين دعاه الله. عُرف عنه رقّة مشاعره وعاطفته الجيّاشة، لكنّه في المقابل، حمل كلام الله بجرأةٍ ودون خوف بالرغم من الاستهزاء به، وتعرّضه للضرب والموت. عاش باكيًا، حتّى دُعيَ بِ "النبيّ الباكي". يحسّ بالمصيبة، فيتألّم ويبكي ويصرخ من أعماق قلبه "آه، لو امتلأ رأسي ماءً وكانت عيناي ينبوع دموعٍ فأبكي نهارًا وليلاً على قتلى شعبي" (إر 8: 33).
تميّز إرميا النبيّ ثانيًا بعشقه للطبيعة. فنتلمّس ونحن نغوص في كتابه، حبّه للينابيع والأشجار وتغريد العصافير وثلج لبنان. ويُلفتنا انجذابه لحياة القرية، حيث صوت الفرح وصوت العريس وعروسته (إر 7: 34؛ 16: 9)، والسراج (25: 10؛ 33: 11)... رأى النبيّ الفلاح وهو يغرس كرمه وينتظر ليحلّ أوان الثمر (إر 2: 21). جذبه هذا الجمال كلّه، ولكنّه لم يكن إلاّ وسيلةً تأمّلها النبيّ، فكلّمته عن الله وعن صنيعه في الكون. على هذا كلّه استند الربّ ليدعو شابًّا صغيرًا (إر 1: 6) مُرهف الإحساس، ليُرسله في مهمّة نبويّة إلى شعبه.
لكنْ سرعان ما سيكتشف النبيّ أنّ كلمة الله التي يحملها لشعبه، معرّضة هي للاستهزاء "مَن يسمع إذا تكلّمتُ وأنذَرتُ؟ آذانكم مغلقةٌ فلا تقدرون أن تُصغوا. كلمة الربّ صارت لهم عارًا، وأنتم لا تحفظونها" (إر 6: 10)، نداءاته إلى التوبة لم تلقَ صدىً وسط شعبه، فحزن لذلك، وحاول التنصّل من المهمّة المُكلّف بها (إر 5: 15-21). عنادهم ورفضهم التوبة، نتج عنهما دمار المدينة المقدّسة (أورشليم)، فشهد إرميا على تلك الأحداث فتوجّع ولم يستطع أن يفعل شيئًا. من كلّ ما سبق، لا يمكننا أن نستنتج غير واحدة: إرميا، نبيّ اختبر أنّ عليه أن يشهد بحياته وآلامه على قوّة كلمة ذلك الذي اختاره وجعله في خدمته. هكذا كانت مسيرة إرميا، حزنٌ أمسك بحياته من مطلعها وهو يجري بين أورشليم وعناتوت، حتى مات في مصر، ويُقال أنّه مات رجمًا من مواطنيه.
2. لماذا اختار الربّ إرميا وأرسله؟
اختار الربّ إرميا وهو بعد شابّ في العشرين من عمره، في السنة الثالثة عشرة للملك يوشيّا (إر 1: 6)، واستمرّ نشيطًا في خدمته النبويّة من ذلك الحين حتّى خراب أورشليم (587 ق م)، وحتّى بعد سقوط أورشليم، تمسّك برسالته النبويّة وهو في مصر لعدّة سنوات، فامتدّت خدمته نحو خمسين عامًا.
عُرف عن الملك يوشيّا أنّه يخاف الله، فنراه يُسرع في الإعلان عن إصلاحاته حسب شريعة الربّ في السنة الثامنة عشرة لملكيّته. إلاّ أنّ إرميا عندما دُعـي لخدمته النبويّة، كان متأكّدًا أنّ دينونة الله ستحلّ على المدينة قريبًا لا محالة. فنراه يحثّ الشعب على الطاعة للوصيّة الإلهيّة. ولكنّه بعمله هذا صار موضع كراهيّة شديدة، بخاصّة في موطنه عناتوت. بل إنّ إخوته وأقاربه تآمروا عليه معتبرينه من أخطر المتعصّبين "إن كان إخوتُكَ وأهلُ بيتِ أبيكَ يغدرون بكَ ويصرخون وراءَكَ بملءِ أفواههم، فكيف تأتَمِنُهُم إذا كلّموكَ بالخير؟" (إر 12: 6).
واجه النبيّ مشكلةً أساسيّة، من أجلها اختاره الربّ وأرسله: تماثيل حجريّة وخشبيّة في كلّ زاوية من زوايا شوارع أورشليم، والغالبية تشتري تمثال البعل وتقبّله، أو ملكة السماوات (عشتروت) ليسجدوا لها، حيث النساء يصنعن كعكة، ويُبخرّن لها، لينالوا بركتها...
حقّ الفقير والأرملة واليتيم مسحوق. الجشع يملأ القلوب. بيوت الدّعارة والشُّذوذ الجنسيّ مُرَخّصة. وفي أوقات الصلاة والأعياد، الكلّ يصلّي ويحتفل بالعيد في هيكل سليمان. صورة واقعيّة مُصغّرة هي للحالة الأخلاقيّة لمملكة يهوذا.
إلى هؤلاء أتى إرميا، حاملاً لهم كلمة صادقة من عند الله، ولكنّهم رفضوا أن يسمعوا، إلاّ قلّة قليلة من بينهم. أمّا الباقون فأصغت آذانهم لكلمات الأنبياء الكذبة، وأقنعوا أنفسهم أنّ العدوّ لا يمكنه أن يدمّر الهيكل ولو أنّهم عاشوا بالفساد والزِّنى... هيكل الله هو!. ولأنّ النبيّ يحبّ شعبه ويُشفق عليه، نراه يبكي بسببٍ من الانحطاط الروحيّ والأخلاقي من جهة، وعلى أورشليم التي امتلأت بالأصنام فتحوّل مكان العبادة إلى مغارة لصوصٍ من جهة أخرى. وقال الربّ على لسان النبيّ "يا أرض يا أرض يا أرض إسمعي ما قال الربّ" (إر 22: 29) ولكنّهم لم يسمعوا للربّ، لأنّ أرض قلوبهم أصبحت حجريّة كأصنامهم.
وما يدعو إلى العجب، أنّ الشعب كان يطلب من إرميا أن يكلّمهم بكلمة الربّ، وعندما كان يُكلّمهم بما يقوله الربّ، كانوا يُكذّبونه، ويُصدّقون أنبياءهم الكذبة وعرّافيهم. وبعد دمار أورشليم، لجأ بعض الشعب إلى مصر، واصطحبوا معهم إرميا النبيّ، وبكلّ وقاحتهم قالوا له "لا نسمع لهذا الكلام الذي كلّمتنا به باسم الربّ" (إر 44: 16) واستمرّوا في عباداتهم الوثنيّة. حمل إرميا رسالة صادقة لشعبه، فيها من التوبيخ والتأنيب بهدف حثّهم على التوبة والعودة إلى أحضان الله، فبكى عليهم وتألّم لحالهم، أمّا هم، فقابلوه بالاحتقار والرَّفض والرَّجم حتّى الموت.
3. بين إرميا ويسوع، بكاءٌ وخلاص
على صورة يسوع، يواجه النبيّ إرميا، أشخاصًا عازمون على تدميره. لكنّ الخوف لم يعرف سبيلاً إلى قلبه، فاستمرّ بطاعته لمن اختاره وأرسله، ولم يتوقّف عن إعلان كلمة إلهه؛ وقد أرسله الربّ وأعطاه سلطةً "على الأمم وعلى الممالك لتقلَع وتَهدِم وتُهلِك، ولتَنقُض وتبني وتَغرِس" (إر 1: 10)، في الواقع، هي ليست رسالة سهلة، ولكنّه أتمّها كَحَمَلٍ مُطيع "كنتُ أنا كَخَروفٍ وديعٍ يُساقُ إلى الذَّبحِ ولا عِلمَ لي أنَّهُم كادوا لي مَكيَدة. قالوا: لنُتلِف الشجرة مع ثمرها! لِنَقطعهُ من أرض الأحياء ولا يُذكَر اسمُهُ مِن بَعدُ" (إر 11: 19).
بهذا، يُعلن إرميا استباقيًّا شخص يسوع، الذي سيجد نفسه في موقفٍ مماثل: يُخبرنا الإنجيل بحسب يوحنّا، عن رؤساء الكهنة والفريسيّين الذين غضبوا على الحرّاس لأنّهم لم يعتقلوا يسوع "ورجع الحرس إلى رؤساء الكهنة والفرّيسيّين، فقال لهم هؤلاء: "لماذا ما جئتم به؟" فأجاب الحرس: "ما تكلّم إنسانٌ من قَبلُ مثل هذا الرَّجل!" فقال لهم الفرّيسيّون: "أَخَدَعَكُم أنتم أيضًا؟ أَرَأَيتُم واحدًا من الرؤساء أو الفرّيسيّين آمن به؟ أمّا هؤلاء العامّة من النّاس الذين يجهلون الشريعة، فهم ملعونون" (يو 7: 45-49).
هذا الرّفض ناتج عن سببين اثنين:
السّببُ الأوّل: إصرارهم على عدم تغيير حياتهم لينتصروا على الخطيئة في حياتهم. هكذا إرميا، على مثال يسوع، طلب من الشعب أن يحفظوا العهد مع الله، أي أن يحترموا شريعة الربّ، ويمارسوا العدل. فرفضوا.
السّببُ الثاني: يحمل في طيّاته حكمًا مسبقًا ضدّ المتكلّم: يسوع، من الجليل هو، بالتالي لا قيمة لكلمته. بل عليه أن يكون من أورشليم حتّى يكون لكلمته وزنٌ، كما يدّعي خصومه... هم لا يريدون أن يعرفوا أيّ شيء، بسببٍ من عنصريّتهم التي تعتبر أنّ الغريب دائمًا على خطأ.
الحال، إذًا، لم يتغيّرْ من إرميا إلى يسوع، على الرّغم من مرور ستّة مئة سنة. مشهد الخراب يتكرّر، والسبب؟ عناد الإنسان، هذا ما أحزن قلب يسوع "ولمّا اقترب من أورشليم نظر إلى المدينة وبكى عليها، وقال: "ليتَكِ عَرَفتِ اليوم طريق السلام! ولكنّه الآن محجوبٌ عن عينيكِ" (لو 19: 41-42). من هنا نفهم واحدة من إجابات التلاميذ ليسوع عندما سألهم "من هو ابنُ الإنسان في رأي الناس؟" (مت 16: 13)، "... وغيرهم يقول: إرميا..." (مت 16: 14). فهو (يسوع) كإرميا بكى كثيرًا، إذ رفض الناس أن يتوبوا، بل ونبذوا شخصه واحتقروا رسالته، فتمّ به ما قاله النبيّ أشعيا "مُحتقرٌ منبوذٌ من الناس، وموجَعٌ متمرّسٌ بالحزن. ومِثلُ مَن تُحجَبُ عنه الوجوه نبذناه وما اعتبرناه" (أش 53: 3).
بكى يسوع على صديقه لعازر (يو 11: 35) ليتعاطف مع المحزونين، وليؤكّد أنّ الموت عدوٌّ هو، دخل إلى العالم بسببٍ من عصيان الإنسان. وبكى يسوع أيضًا على أورشليم المدينة المقدّسة التي اضطّهدت الأنبياء وقتلتهم. لماذا؟ لأنّ أبناءها أرادوا حريّة سياسيّة وهم عبيدٌ للشرّ. عاش يسوع بينهم، واجترح المعجزات على مرأىً منهم، ولكنّهم رفضوا أن يتوبوا. وبكى يسوع في بستان الزيتون، لأنّه يعي وعيًا تامًّا مقدار كأس الألم الذي سيتجرّعه حبًّا بنا. وبكى يسوع أخيرًا فوق الصليب حتّى نزف قلبه دمًا، غفرانًا لمعصيتنا.
خاتمة
علاقات إرميا بالشعب، وعلاقة إرميا بالربّ، تبدو علاقة شفقة ورحمة. نرى النبيّ يرفع إلى الله كلمات حلوة باسم الشعب، يجتمع فيها الاعتراف بالخطيئة من جهة، والتوسّل من جهة أخرى. أمّا الربّ فيرفض. كيف يستجيب والعلاقة مقطوعة بينه وبين شعبه؟! ما عاد يستطيع تحمّل شعبه. فيقول "عيناي تسيلان بالدموع ليلاً ونهارًا بدون انقطاع، لأنّ العذراء بنت شعبي جُرحَت جرحًا بليغًا وضُربت ضربةً لا شفاء لها منها" (إر 14: 17). سمع إرميا الشعب يقول "تسيل أعيننا بالدموع" (إر 9: 17). وها هو الله يهمس في أذن نبيّه: عيناي سالتا بالدموع. هكذا يكتشف النبيّ أنّ كلمة الله تمرّ عبر كلماته، وأنّ آلام الله تمتزج بآلامه، وأنّ رحمة الله تحمل رحمته. فكما أخذ إرميا على عاتقه كلمات شعبه ليبيّن كيف أنّه يحمل في آلامه آلام شعبه، هكذا الربّ، أخذ على عاتقه كلمات الشعب والنبيّ معًا ليكشف أنّ آلامه تمتزج بآلامهم، لا بل آلامه هي آلامهم.
لا شكّ أنّ آلام النبيّ تُظهر ألم إنسانٍ سحقته العزلة والوحدة، ولكنّها صدىً لآلام الربّ ورحمته. أمّا وقد اكتشف أنّ الله إلى جانبه يحمل معه كلّ ألم، فما استطاع إلاّ أن يُنشد "رنّموا للربّ. سبّحوا الربّ فإنّه أنقذ المسكين من أيدي الأشرار"(إر20: 13).
أمام المعاملة السيّئة، بل أمام الموت، ما تراجع إرميا، بل لبث يحمل بأمانة الرسالة الإلهيّة في نقاوتها وقساوتها، وإن جلبت له البغض والكراهية. من هنا نفهم أن يكون لإرميا مكانة مميّزة بين الشهداء، الذين ما بخلوا بحياتهم في سبيل إيمانهم، لا بل انتصروا بفضل هذا الإيمان. فهو بذلك يوجّه نظرنا إلى يسوع في مسيرة آلامه. ويقدّم لنا صورة مُسبقة عن يسوع الذي كان سبب خلاف وانقسام وسط البشر.
المصادر:
- BLANCHET, R. et alii, Un prophète en temps de crise. Dossier pour l’animation biblique (Essais biblique 10), Genève, 1985.
- COLLECTIF, Le livre de Jérémie. Le prophète et son milieu. Les oracles et leur transmission, BETL LIV, Leuven, 1981.
- SMITH, M. S, The Laments of Jeremiah and Their Contexts: A Literaly and Redactional Study of Jeremiah 11-20 Atlanta, 1990.
لمشاهدة الحلقة الثانية من الموسم الثاني من برنامج "أرِنا خلاصك" مع الخوري أنطوان القزي يمكنكم الضغط على الرابط التالي: