الأصعب من تحقيق الوعد من الطرف الواعد هو عيش الإنتظار من الطرف الموعود، والإنتظار يكون على عدّة أوجه.
أ. ثقة مطلقة بالواعد، لأنّ هناك إختبارات سابقة ناجحة.
ب. إنتظار مع ثقة خائبة قليلاً، ليس هناك أي أمل، لأنّ الوعود السابقة لم يحقّقها الواعد. ربما لأنّ الواعد كاذب، أو ضعيف أو وعده أكبر من طاقته.
ت. إنتظار مع تجديد الفرصة من أجل تحقيق الوعد، خاصة من أجل الوعد اليوميّ الحياتي. أو وقف الإنتظار وعدم إعطاء فرصة جديدة.
ث. الخيانة للوعد / العهد.
ثانيًا، وعد الله والتجاوب معه.
وعود عديدة ذكرها الله منذ بداية الخلق:
- وعد الربّ بأن نسل حواء سينتصر على الحيّة. "وأَجعَلُ عَداوةً بَينَكِ وبَينَ المَرأَة وبَينَ نَسْلِكِ ونَسْلِها فهُوَ يَسحَق رأسَكِ وأَنتِ تُصيبينَ عَقِبَه" (تك 3/15).
- وعد الربّ لقايين بأن لا أحد يقتله وإلا سبعة أضعاف ينتقم منه. "فقالَ لَه الرَّبّ: "لِذلِكَ كُلُّ مَن قَتَلَ قايِن فسَبعَةَ أَضْعافٍ يُؤخَذُ بِثأرِه مِنه" (تك 4/15).
- وعد الربّ لنوح بأنّه لا يهلك. "وأُقيمُ عَهْدي معكَ، فتَدخُلُ السَّفينَةَ أَنتَ وبَنوكَ وآمَرأَتُكَ ونِسوَةُ بَنيكَ مَعَكَ" (تك 6/18).
- وعد الربّ بأنه لن يقوم بطوفان من جديد وجسّد هذا الوعد بقوس قزح. "وقالَ الله: "هذه عَلامةُ العَهْدِ الَّذي أنا جاعِلُه بَيْني وبَينَكم وبَينَ كُلِّ ذي نَفْسٍ حَيَّةٍ معَكم مَدى الأَجْيالِ لِلأَبَدَ: تِلْكَ قَوْسي جَعَلْتُها في الغَمام فتَكونُ عَلامةَ عَهْدي بَيْني وبَيْنَ الأَرض. وَيكونُ أَنَّه إِذا غَيَّمْتُ على الأَرضِ وَظَهَرَتِ القَوسُ في الغَمام، ذَكَرتُ عَهْدِيَ الَّذي بَيْني وبَينَكم وبَينَ كُلِّ نَفْسٍ حَيَّةٍ في كُلِّ جَسَد، فلا تَكونُ المِياهُ بَعدَ اليَومِ طُوفانًا لِتُهلِكَ كُلَّ ذي جَسَد" (تك 9/12-15).
ولكن هناك وعد كبير جدًا من خلاله نستطيع أن نقرأ كل الوعود الأخرى للرب، التي هي، فعلياً، تأكيدٌ لهذا الوعد الكبير، وهو لقاء الربّ بإبراهيم. "وقالَ الرَّبُّ لأَبْرام: "اِنطَلِقْ مِن أَرضِكَ وعَشيرَتكَ وبَيتِ أَبيكَ، إِلى الأَرضِ الَّتي أُريكَ. وأنا أَجعَلُكَ أُمَّةً كَبيرة وأُبارِكُكَ وأُعظِّمُ اسمَكَ، وتَكُونُ بَركَة" (تك 12/1-2).
وعد يتجلّى بقسمين: شعب، أمّة أي نسل وإستمراريّة من جهة. أرض أي ثبات وإستقرار من جهة أخرى.
وعد النسل: سينطلق من أحشاء سارة العقيمة. سنشرح هذا الإختبار لاحقًا.
وعد الأرض: سيتكرّر مع إسحق ويعقوب ولكن المحطّة الأهمّ هو مع إنطلاق موسى بالسّير نحو أرض الميعاد حيث سيتحقّق هذا الوعد مع دخول يشوع بن نون إلى هناك.
1. وعد النسل.
بإنتظار إبراهيمَ لوعد الربّ بالنسل (والذي هو السبب الرئيسي لإنطلاق إبراهيم بمسيرة مع الربّ، لأنّ ذلك حلم حياته) إبراهيم رأى بأنّ الربّ قد تأخر عن وعده من جهة ومن جهة أخرى أراد أن يساعد اللهَ في تحقيق وعده.
- في بادىء الأمر، أخذَ إبراهيمُ لوطًا معه كضمانة للنّسل، فافترقا. "فصَعِدَ أَبْرامُ مِن مِصْرَ هو واَمرَأَتُه وكُلُّ ما له، ولوطٌ مَعه، إِلى النَّقَب" (تك 13/1). "فآختارَ لُوطٌ لِنَفْسِه كُلَّ سَهْلِ الأُردُنّ، ورَحَلَ إِلى المَشرِق، وفارَقَ كُلُّ واحِدٍ أَخاه" (تك 13/11).
- عرض إبراهيم على الربّ بأن يرثه وريث بيته، القيّم على بيته وهكذا يتحقّق الوعد. "وقالَ أَبْرام: "إِنَّكَ لَم تَرزُقْني نَسْلاً، فهُوَذا رَبيبُ بَيتي يَرِثُني". "فإِذا بِكَلِمَةِ الرَّبِّ إِليه قائلاً: "لن يَرِثَكَ هذا، بل من يَخرُجُ مِن أَحْشائِكَ هو يَرِثُكَ". (تك 15/3-4).
- من ثمّ، قدّمت سارة خادمتها هاجر ليدخل عليها إبراهيم وليحقّق وعد الله. "وأَمَّا سارايُ آمرَأَةُ أَبْرام، فلَم تَلِدْ لَه. وكانَت لَها خادِمةٌ مِصرِيَّةٌ اَسمُها هاجَر. فقالَت سارايُ لأَبْرام: "هُوَذا قد حَبَسَني الرَّبُّ عنِ الوِلادة، فاَدخُلْ على خادِمَتي، لَعَلَّ بَيتي يُبْنى مِنْها" (تك 16/1-2).
- فشرح الربّ له بأنّ الوعد يتحقّق من لحمه ودمه هو وسارة، من قلب موت الرحم ستبنع الحياة، العاقر ستلد، وهنا كانت ضحكة سارة، فسميّ الولد إسحق أي الضاحك. "فضَحِكَت سارةُ في نَفْسِها قائلةً: أَبَعْدَ هَرَمي أَعِرفُ اللَّذَّة، وسَيَدّي قد شاخ؟" فقالَ الرَّبُّ لإِبْراهيم: "ما بالُ سارةَ قد ضَحِكَت قائلَةً:أَحَقًّا أَلِدُ وقَد شِخْتُ؟ هَل مِن أَمْرٍ يُعجِزُ الرَّبّ؟ في مِثْلِ هذا الوَقْتِ أَعودُ إلَيكَ وَيكونُ لِسارةَ آبنٌ" (تك 18/12-14).
الربّ كان صادقًا في وعده ولكن بالمقابل كان هناك معضلة الإنتظار عند الإنسان. رأى الإنسان بأنّ الله بطيء بتنفيذ الوعد، أو ربّما بحاجة إلى مساعدة، فحاول مساعدته على طريقته البشريّة وحسب ما يرى هو من خير. ولكن بالنهاية كان لا بدّ لمشيئة الله أن تنتصر.
2. وعد الأرض
في كل مرّة كان الربّ مع الأباء يجدّد ويأكد على وعد الأرض.
إبراهيم: "وأُعْطيكَ الأَرضَ الَّتي أَنتَ نازِلٌ فيها، لَكَ ولِنَسلِكَ مِن بَعدِكَ، كُلَّ أَرضِ كَنْعان، مِلْكًا مُؤَبَّدًا، وأَكونُ لَهم إِلهًا" (تك 17/8).
إسحق: "وكانَ بَعد مَوتِ إِبْراهيمَ أَنَّ اللهَ بارَكَ إِسْحقَ ابنَه" (تك 25/11)، البركة تعني إستمرار العهد مع إسحق.
يعقوب: "أَنا الرَّبُّ إِلهُ إِبْراهيمَ أَبيكَ وإِلهُ إِسحق. إِنَّ الأَرضَ الَّتي أَنتَ نائِمٌ عليها، لَكَ أُعْطيها ولنَسلِكَ" (تك 28/13).
قول يوسف لإخوته: "إِنَّ الله سيَفتَقِدُكم، فأَصعِدوا عِظامي مِن ههُنا" (تك 25/50).
موسى: "فقالَ الرَّبّ: "إِنّي قد رَأَيتُ مذَلَّةَ شَعْبي الَّذي بِمِصْر، وسَمِعتُ صُراخَه بسَبَبِ مُسَخِّريه، وعَلِمتُ بآلاَمِه، فنزَلتُ لأَنقِذَه مِن أَيدي المِصرِيِّين وأُصعِدَه مِن هذه الأَرضِ إلى أَرضٍ طَيِّبةٍ واسِعة" (خر 3/7-8).
يشوع: "وكانَ بَعدَ وَفاةِ موسى، عَبدِ الرَّبّ، أَنَّ الرَّبَّ كَلَّمَ يَشوعَ بنَ نون، مُساعِدَ موسى، قائِلاَ: 2 "إِنَّ موسى عَبْدي قد مات، فقُمِ الآنَ واعبُرِ الأردُنَّ هذا، أَنتَ وكُلُّ هذا الشَّعْب، إِلى الأَرضِ الَّتي أَنا مُعْطيها لِبَني إِسْرائيل". (يش 1/1-2)
لتحقيق هذه الوعد، مضت سنوات وسنوات، أجيال وأجيال، حروب عديدة. وعد الربّ أخذ سنوات عديدة لتحقيقه، وصدق الربّ بوعده.
في المسيرة صوب أرض الميعاد، كان هناك يأس كبير من بطء الربّ لتحقيق وعده:
- شهوة الطعام، دفعت بالشعب إلى أن يشكّ ويتمذر على الله: إلى درجة أراد البعض العودة إلى مصر وعيش العبوديّة من جديد، لأنّهم كانوا يأكلون على الأقل "مَن يُطعِمُنا لَحْمًا؟ فإِنَّنا نذكر السَّمَكَ الَّذي كُنَّا نأكُلُه في مِصرَ مَجَّانًا والقِثَّاءَ والبِطِّيخَ والكُرَّاثَ والبَصَلَ والثَّوم. والآنَ فأَحْلاقنا جافَّة، ولا شَيءَ أَمامَ عُيوننا غَيرَ المَنّ" (عد 11/4-6).
- غياب موسى القائد ممثل الله، جعل الشعب زانيًا أي عبد آلهة أخرى "ورأى الشَّعبُ أَنَّ موسى قد تَأَخَّرَ في النُّزولِ مِنَ الجَبَل، فاجتَمَعَ الشَّعبُ على هارونَ وقالوا له: "قُمْ فآصنَعْ لَنا آلِهَةً تَسيرُ أَمامَنا، فإِنَّ موسى، ذلك الرَّجُلَ الَّذي أَصعَدَنا مِن أَرضِ مِصْر، لا نَعلَمُ ماذا أَصابَه" (خر 32/1).ٍ
- في المسيرة الشعب إنحرف عدة مرات، في المسيرة الشعب خسر عدة معارك حيث تشوّهتْ صورة الله القوي، أقوى الآلهة، هل ممكن أن يكون هناك إله أقوى منه. لأنّ الشعب كان يعتبر بأنّ كل حربٍ يقوم بها، فإنّ الله يحارب أيضاً إله ذلك الشعب والإله الأقوى هو الذي سيربح. وغيرها من الأمور التي كانت خيانة متكررّة للربّ وبالمقابل صِدْقُ الرب وأمانته.
وعد الله الإنسان بأن يكون هو "إلهه" وظلّ ومازال أميناًـ ويغفر ويجدّد هذا الوعد للإنسان. ووعَدَ الإنسانَ اللهُ بأن يكون "شعبَه"، ولكن هذا الوعدُ تشوّه كثيراً من قِبَلِ الإنسان.
ولكن لماذا كان الشعب يخون الله؟ أو يسرع إلى تحقيق وعد الله حسب إرادة إنسانيّة أو بطريقة بشريّة محض!؟ ذلك لأنّ الشعب كان يبحث عن ضمانات، يريد ضمانات لسعادته "نسل وأرض". الشعب، للأسف، لم يفهم من وعد الله إلاّ "ضمانات أرضية لسعادته"، لذلك كل مرّة كان يبطء الرب بتحقيق هذه الضمانات، أو تتزعزع سعادة الإنسان من جراء "تقصير الله معه"، أو عدم رغبة الله بتنفيذ رغبة قلب الإنسان، فكان هذا الأخير يخون، معتبرًا بأنّ الله هو الذي خانَ في البدء. ربط الشعب وعود الله بأبعاد سياسيّىة، وجوديّة، ملوكيّة و...
السؤال الأهم: ما هو وعد الله الحقيقي؟ هل هو وعد نسلٍ وأرضٍ؟ هل وعْدُ الله هو ضماناتٌ أرضيّة؟ فعلياً ما الوعد الأساسي في الكتاب المقدّس؟
وعد الله الحقيقي: أنّ الله هو معنا في قلب حياتنا اليوميّة يسير معنا في جميع أحداث تاريخنا نحو الخلاص.
لم ينتبه آباء العهد القديم إلى وعد الله الحقيقي الأبعد من وعود أرضيّة، وهو "وجوده الحيّ بينهم"، هو الذي سار مع إبراهيم وإسحق ويعقوب وموسى ويشوع وداوود حارسًا خطواتهم، مسرعًا إلى إنقاذهم. هناك آيات كثيرة تحدّد وجود الله الدائم مع شعبه، فهو يعيش معهم حياتهم اليوميّة، نذكر على سبيل المثال لا الحصر:
"فسَمِعا وَقْعَ خُطى الرَّبِّ الإِلهِ وهو يَتَمَشَّى في الجَنَّةِ عِندَ نَسيم النّهار" (تك 3/8)
"فنَزَلَ الرَّبُّ لِيَرى المَدينةَ والبُرجَ اللَّذَينِ بَناهُما بَنو آدم". (تك 11/5)
"أنا اللهُ القدير، فسِرْ أَمامي (لإبراهيم) وكُنْ كامِلاً. سأَجعَلُ عَهْدي بَيني وبَينَكَ وسأُكَثِّرُكَ جِدًّا جِدًّا" (تك 17/1-2)
"أَنا إِلهُ إِبْراهِيمَ أَبيكَ. لا تَخَفْ فإِنِّي مَعَكَ (لإسحق)". (تك 26/24)
"وها أَنا مَعكَ (ليعقوب)، أَحفَظُكَ حَيثُما اتَّجَهتَ". (تك 28/15)
"وكانَ الرَّبُّ مع يوسف". (تك 39/2).
"فقالَ الرَّبّ: "إِنّي قد رَأَيتُ مذَلَّةَ شَعْبي الَّذي بِمِصْر، وسَمِعتُ صُراخَه بسَبَبِ مُسَخِّريه، وعَلِمتُ بآلاَمِه، فنزَلتُ لأَنقِذَه" (خر 3/7-8).
وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ». آمِينَ." (مت 28/20)
"لاَ أَتْرُكُكُمْ يَتَامَى. إِنِّي آتِي إِلَيْكُمْ". (يو 14/ 18)
هنا لا بدّ من التوضيح:
أولًا، وعد الرب لا يعني لا ألم.
لم يعِدِ الربّ الإنسان بأنّه لن يكون هناك موت أو مرض أو حروب أو مجاعات أو كوراث طبيعيّة، لم يعد الإنسان بذلك أبداً بل وعده بأنّه سيكون معه في قلب العاصفة، سيكون معه في السفينة عينها التي تتخبّط ضمن أمواج الحياة (راجع مر 4/ 35-41). حتى لو كان نائماً، أي إذا شعر الإنسان أنّه في قلبِ الألمِ والحزنِ وكأنَّ اللهَ غائبٌ، نائمٌ،... فهو يتيقّنُّ بأنّ الله وعدني "هو معي"، لا بدّ لي من أن "أصبر" لأنّه هو عند الوقت المناسب يحضًرُ ويهدّئ العواصف، عندما لا أستطيع التحمّل عندئذٍ يتدخّل، فهو يثق بي كثيراً وبقدرتي، ولكن دائماً الإنسان في حالة خمول وتذمّر ويرى ذاته بنظرة سلبيّة بأنّه هو عاجز عن المواجهة. وينسى بأنّه قوي بالذي يقوّيه أي بيسوع المسيح (في 4/13).
التحدّي الوحيد في الحياة إذا الله معي أو لا، و"إذا الله معنا فمن علينا" (رو 8/31). ولكن رفض الإنسان للموت وللمرض والألم وعدم تقبّلها وتحميل الربّ نتيجة فعلها، يدفعه دائماً لخيانة العهد مع الربّ والبحث عن آلهة أخرى، عن مخدّر للألم حتى لو كان من القمامة. تجسّد الرب يسوع في بشريّة متألمة، مضطهدة ...، ومع ذلك كلّه بقي أمينًا للآب.
أيًّا كان موقفُنا، إنّ هذه الحياة الأرضية، هي حياة ناقصة، ممتلئة بالأمور القاسية والسّيئة، فلنتذكر أننّا حتى لو تبعنا الربّ فأنّ هذه الأمور ستبقى،"لكنّنا الآنَ وفي هذهِ الدُّنْيا سننالُ مائةَ ضِعْفٍ مِنَ البُيوتِ والإِخوَةِ والأَخَواتِ والأُمَّهاتِ والبَنينَ والحُقولِ مع الاضطِهادات، وننالَ في الآخِرَةِ الحَياةَ الأَبَدِيَّة. (مرقس 10/30).
لنتأمّل بالمثل الذي أعطاه يسوع حول من بنى منزله على رمال متحرّكةٍ وآخر على الصّخر، النًصُّ واضحٌ، فعلى المنزِلَين ستهطل الأمطار وتتدفّقُ السّيول، الصخر وحدَه ثابت. أي إن كنت مع الله أو من دونه، مؤمن أو غير مؤمن، أصلًي أو لا أصلي، فإنّ أهوال الحياة ستتخبطّني، الإختلاف والحكمة في الأمر، بأنّ إذا كانَ بناء حياتي مع الله وفي الله وعلى الله، أنا سأحمل الألم وليس الألم من سيحملني. (راجع مت 7/24-27).
ثانياً: وعد الرب لا يعني عطايا أرضية وضمانات ماديّة
وعد الربّ ليس مبيًا فقط على إستمرارية العائلة وإبعاد الموت عن الأمّ والأب والإخوة. ففي كل مرّة يخطف الموت أحد أفراد العائلة، نرى بذلك خيانة الربّ لنا، لماذا لم يحافظ على ما أعطانا إياه، وبخاصة عند موت أحد الأبناء.
كما أنّ العلاقة مع الربّ لا تُبنى من أجل أن يحقّق الإله وعودًا أرضيّة، رمال متحرّكة. صلاة من أجل أن يحقّق الرب وعد الصحّة، وعد الجمال، وعد المال، وعد السلطة. أريد من الربّ هذه الوعود، لماذا؟ لأنّها تروي كبرياء الإنسان، فيرى بها ضمانات لسعادته. وإذا لم يتسجب الربّ لتحقيق مثل هذه الوعود، فأحاول رشوته بالصلاة والنذور، فلعلّ بالمقابل تتحقّقُ وعوده. الربّ لا يعد بهذه الأمور لأنّ هذه الأمور رمال متحرّكة، هذه الأمور لا يستطيع الإنسان أن يبني عليها حياته، لأنّ "سيلًا صغيرًا" في الحياة سيجرفها وهناك سيكون البكاء وصريف الأسنان. لا بدّ من بناء حياتي على صخرة وليس هناك من أمتن من صخرة وعد الله لي "وأنا أكون معك". هو الضمانة الوحيدة لي.
الغريب بأنّ الربّ يستجيبُ لصلواتنا، ولكن في الوقت الذي يراه هو مناسبًا، وبالطريقة الأكثر خيراً لي. ولكن للأسف حتى بصلاتنا نحو الربّ من أجل عطاياه، فإنّنا نحدّد له المكان والزمان والطريقة، وإن لم تسرِ الأمور بحسب رغبة قلبي، أخون، لأنّ الله، في عُرفي، غير صادق، وغير محبّ.
النضوج بالحياة الروحيّة، هي عندما تصبح صلاتنا، ليست من أجل شفاء المريض، بل من أجلِ أن يكون الربّ معنا (أي تحقيق وعده) ليس من أجل نجاح أولادي وإرزاقهم المال بل بأن يكون يسوع معهم، يسير معهم. لماذا نطلب العطايا كوعود ولا نطلب صاحب العطيّة الوعد الحقيقي والوحيد والصادق؟!
ولكن طالما رغبة قلبنا هي عدم الألم، وضمانات بشريّة أرضيّة، فالإنسان سيخون الربّ دائماً.
دائماً، نسأل لماذا الله تجسّد؟
لأنّه صادق وأمين بوعده، عندما كان حاضراً كل الوقت بين شعبه من خلال أنبيائه وأعماله وعنايته الإلهية. كان البعض ينظرون إليه بعيداً، كلمته بعيدة، هو فوق في السماء وما أدراه بحياة الأرض. صدق الربّ بوعده ظهر بوضوح بتجسّده، إنّه عمانوئيل أي الله معنا.
الوعدُ الأجملُ الذي يلخِّصُ كل وعود الربّ: "تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ" (مت 11/28). الراحة لا تعني التحرّر من الحروب الخارجيّة والآلام الخارجيّة، لأنّ السلام الخارجي مرتبط بوجود الآخر بحياتي وبنقصه وميولِه لذلك صعب الحصول على السلام الخارجي. الراحة هي السلام الداخلي، وجود الربّ في أعماقي، يهبني قوّة لأتحصّن أمام هذه الحروب الخارجيّة، فلا أبقى في بحر اليأس أمام الموت، والكآبة أمام الفشل، والحقد أمام الجرح، واللا معنى أمام الوضع الإقتصادي والإجتماعي. هذه الأمور موجودة دائمة يتغيّر وجهها: الأوبئة (طاعون، إنفلونزا، كورورنا)، حروب (عالميّة اولى أو ثانية، أهليّة)، و... وعدم إستقرار الله في داخلي، يعني بأنّني سأبقى إنسانًا محطّمًا تعصِفُ به رياح الحياة كما تشتهي، لذلك المهمّ هو السلام الداخلي الذي يعطي الراحة، وهذا السلام لا يعطيه إلا الله الحاضر في حياتي، إلا يسوع المسيح الساكن في أعماقي، الإتحاد مع القربان لكي نصيرَ نحن الإثنان جسدًا واحدًا. العيش على مثال يسوع المتجسّد، فتصبح حياته حياتي، أعماله أعمالي، كلامه كلامي. عمانوئيل الله معنا، هو الطريق نحو هذا السلام الداخلي، أي تحقيق إرادة الله معنا.
أكثر إنسان كانت حياته غير مستقرّة، في تجوّل دائم، إضطهادات دائمة، تخليّات دائمة، مواجهات دائمة…، هو يسوع المسيح، ومع ذلك، لم يرزح تحت ثقلها أبداً. إذًا لنتحّد معه على مثال القديس بولس "مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ" (غل 2/20).
ختامًا: ما أجمل السلام، الذي حصلت عليه مريم ويوسف والمجوس والرعاة أمام الوعد الصادق "طفلاً مقمطًا"، هذا الطفل قدّم لهم سلامًا، خلصّهم من كل الصعوبات، فلنسجد نحن أيضًا لطفل المغارة لماذا؟ لأنّه هو الذي وعد قائلاً: "سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ." (يو 14/ 27).
لمشاهدة الحلقة الأولى من الموسم الثاني من برنامج "أرِنا خلاصك" مع الخوري سامر الياس يمكنكم الضغط على الرابط التالي: