البطريرك مار بشارة بطرس الراعي
مقالات/ 2020-06-11
عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي
جنازة المثلَّث الرَّحمة المطران يوسف بشاره
قرنة شهوان، الخميس 11 حزيران 2020
"أنا الرَّاعي الصَّالح" (يو 11:10)
صاحب المعالي ممثِّل فخامة رئيس الجمهوريَّة العماد ميشال عون
سعادة النَّائب ممثِّل دولة رئيس مجلس النوَّاب الأستاذ نبيه برّي
سعادة النَّائب ممثِّل دولة رئيس مجلس الوزراء الدكتور حسَّان دياب
1. أدركَ المثلَّث الرَّحمة المطران يوسف أبعاد وصف الرَّبِّ يسوع ذاته "بالرَّاعي الصَّالح". ففهِم، كما أعلنَ في احتفال تسلُّمِه للأبرشيَّة، أنَّه مدعوٌّ ليكون "على مثال المسيح الرَّاعي الصَّالح، عينًا تسهر، وأذنًا تسمع، وقلبًا يُحِبّ". ومِن مثال المسيح الخادم "الذي أتى ليَخدُم، لا ليُخدَم، ويبذُلَ نفسه فدًى عن الكثيرين" (مر 45:10)، اختارَ شعارَه الأسقفيَّ مِن كلمة الرَّبّ: "أنا بينكم كالخادم" (لو 28:22). واعتبَرَ أنَّ كلامَه هذا "بمثابة عهدٍ يقطعه مع أبناء الأبرشيَّة وبناتها وأمامهم، ليبقى له وفيًّا، بنعمة الله وبؤازرتهم.
2. هكذا فعل منذ توليته على الأبرشيَّة في أحد العنصرة 18 أيَّار 1986 حتَّى قبول استقالته بداعي السِّنّ، بعد تمديد سنتين، وانتخاب خلفه المثلَّث الرَّحمة المطران كميل زيدان، وتسلُّمه الأبرشيَّة في الأوَّل من تمّوز 2012. وقد دامت رعايته سِتًّا وعشرين سنةً مليئةً بالعطاءات، على مختلف الأصعدة: الرَّاعويَّة، والرُّوحيَّة، والكنسيَّة، والوطنيَّة، والعمرانيَّة.
بعد الاستقالة تابع العطاء بإلقاء المحاضرات وإرشاد رياضات روحيَّة. وملأ أوقاته الحرَّة بالمطالعات للكتب الجديدة، والمقالات التَّحليليَّة، والمواظبة على اجتماعات المطارنة الشَّهريَّة، والرِّياضات والمجامع السَّنويَّة، ودورات مجلس البطاركة والأساقفة، حتَّى الأسبوع الأخير من حياته.
3. هذه الطِّينة التي تكوَّنت منها شخصيَّته المميَّزة، ترجع في الأساس إلى تربيته البيتيَّة في بلدته العزيزة عربة قزحيَّا، حيث وُلد في عيد مار يوسف شفيعه، في 19 آذار 1935. فتربَّى من مثال أبيه وأمِّه المميَّزين بالعمل المتفاني والصَّلاة في العائلة والكنيسة، لتأمين إعالة الأولاد الخمسة وتربيتهم وتعليمهم، إلى جانب ما تميَّزا به من محبَّةٍ لله وللكنيسة، ومن رصانةٍ وطيب العلاقات الاجتماعيَّة، كما يصفها في كتابه "تباشير الرَّحيل" (ص. 37-51).
4. لبَّى النِّداء الإلهيَّ إلى الدَّعوة الكهنوتيَّة بفضل صلاة الوالدين ورغبة الوالد، الذي كان يريد واحدًا مِن أبنائه كاهنًا لخدمة البلدة بحسب عادات العائلة. فأرسلَ ابنَه البكر المرحوم الياس إلى المدرسة الإكليريكيَّة في غزير، فلم يشعر بعلامات الدَّعوة، وعاد إلى البيت الوالديّ. فأرسل شقيقه يوسف، وهو في الثَّالثة عشرة من العمر. فكان هو المدعوَّ من الله. فثبَت وواصل ونما بالخصال والفضائل الكهنوتيَّة على يد المرشدِين اليسوعيِّين في الإكليريكيَّة، ثمَّ في جامعة القدِّيس يوسف –بيروت أثناء دراسة الفلسفة واللَّاهوت.
5. وبعد أن أنجزَ شهادة الليسانس في اللَّاهوت وسيمَ كاهنًا في عيد شفيعه القدِّيس يوسف سنة 1963، أُرسِل إلى باريس ليتخصَّص في إدارة الإكليريكيَّات. ولمَّا عاد باشر هذا العمل الإداريّ- الروحيّ- التَّوجيهيّ للدَّعوات الإكليريكيَّة في كرمسدّه لمدَّة اثنتي عشرة سنة، إلى أن عيَّنه المثلَّث الرَّحمة البطريرك الكردينال مار أنطونيوس بطرس خريش رئيسًا لإكليريكيَّة مار مارون غزير البطريركيَّة سنة 1977، في مرحلةٍ صعبة ووسط حاجات مادِّيَّة ومبانٍ جديدة. فتأمَّنت كلُّها بفضل مثابرته وجدِّيَّته ودعم المشرف عليها آنذاك المثلَّث الرَّحمة المطران رولان أبو جوده، ومؤازرة مجموعة الكهنة والآباء المرشدين. فعرفَت الإكليريكيَّة عصرها الذَّهبيّ في فترة التِّسع سنوات التي تتوَّجت بتعيينه مطرانًا لأبرشيَّة قبرص، أنطلياس فيما بعد. وقد تخرَّج على يده 133 كاهنًا.
6. كانت حياته الكهنوتيَّة منفتحةً على سرِّ الكنيسة. فواكبَ أعمال المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ التي تزامنت مع أولى سنوات حياته الكهنوتيَّة. فطالع جميع الوثائق المجمعيَّة، وساهم في ترجمتها إلى العربيَّة مع المثلَّثي الرَّحمة المطران عبده خليفة والمطران فرنسيس البيسري قبل ترقيته إلى الدَّرجة الأسقفيَّة. وراح يعمل بروح هذا المجمع، وينظِّم وفقًا لتعليمه.
وانتسبَ إلى الرَّابطة الكهنوتيَّة عند رجوعه من فرنسا، وانتُخب رئيسًا لها. وقد وَجد فيها مبتغاه لجهة الحياة الأخويَّة والرُّوحيَّة بين الكهنة، والتَّخطيط الرَّاعويّ معًا، والاهتمام بإثراء المكتبة العربيَّة بالكتب الرُّوحيَّة.
وفي ضوء تعاليم المجمع الفاتيكاني الثَّاني، وفور اختتامه سنة 1965، أطلقَ مع مجموعةٍ من الكهنة، ستَّة منهم أصبحوا أساقفة، حركة كنيسة من أجل عالمنا. فراحت تكبر وتتشعَّب مواضيعها، ما جعلها جاهزةً للمساهمة العميقة في إعداد سينودس الأساقفة الخاصّ بلبنان (1992-1995)، والمجمع البطريركيّ المارونيّ في كلِّ مواضيع نصوصه. وقد واكبَه المطران يوسف إعدادًا وانعقادًا وتطبيقًا، مذ عيَّنه المثلَّث الرَّحمة البطريرك الكردينال مار نصرالله بطرس صفير، أمينًا عامًّا له.
7. كلُّ هذه السَّنوات الكهنوتيَّة الغنيَّة بالرُّوحانيَّة والعِلم والرُّوح الرَّاعويَّة، هيَّأته ليعيِّنه القدِّيس البابا يوحنَّا بولس الثَّاني مطرانًا للأبرشيَّة في 4 نيسان 1986، خلفًا للمثلَّث الرَّحمة المطران الياس فرح المستقيل بداعي السِّنّ، فكان الأسقف المميَّز بفضائله وتجرده وعلمه ورؤيته الرَّاعويَّة ومواهبه القياديَّة وقيمته الوطنية. وما أن باشر خدمته الرَّاعويَّة على رأس الأبرشيَّة حتَّى طوَّر شعارَه الأسقفيَّ إلى "معًا في الخدمة لبُنيان الكنيسة". وفي الواقع كان أوَّل أسقف طبَّقَ تعاليم المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني، بتأليف الكوريا الأسقفيَّة والمجالس الكهنوتيَّة والإداريَّة والرَّعويَّة، واللِّجان على تنوُّعِها، وأسَّس مجلَّة "كنيستنا". وكان الأوَّل في عقد مجمعٍ أبرشيّ تطبيقيّ للمجمع البطريركيّ المارونيّ، دام ثلاث سنوات. وأولى اهتمامًا خاصًّا بالإكليريكيِّين والكهنة، وبإدراج العلمانيِّين في حياة الأبرشيَّة. ووضع دليل الكاهن الرَّاعويّ ليكون مرجعًا له في خدمته. وواصلَ ما دأبت عليه المطرانيَّة من تدابير بشأن مدارسها وهي: تحديد ولاية المدراء أو الرُّؤساء بتسع سنوات، وإرسال كهنة يتخصَّصون بالتَّربية والإدارة المدرسيَّة في الولايات المتَّحدة الأميركيَّة وأوروبا.
8. أمَّا نشاطاته خارج إطار الأبرشيَّة، فقام بها بجدارةٍ وروح مسؤوليَّة سواء في سينودس أساقفة كنيستنا المارونيَّة المقدَّس، أم في لجان مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، أم في إعداد الجمعيَّة الخاصَّة بسينودس الأساقفة من أجل لبنان، أم في لجان المركز المارونيّ للتَّوثيق والأبحاث، أم في تنمية التَّوأمة مع أبرشيَّة ليون بفرنسا. هذا فضلاً عمَّا كان البطريرك يُسنِد إليه من مهمَّات.
ومِن نشاطاته على الصَّعيد الوطنيّ، لا بدَّ من أن نذكر لقاء قرنة شهوان الذي كوَّنَ الصَّدى لصوت البطريرك بدءًا من سنة 1977، والذي جمعَ شخصيَّاتٍ مارونيَّةً وغير مارونيَّة، معنيَّة بتحرير لبنان من السَّيطرة السُّورية، وحماية سيادته، واستعادة قراره السِّياسيّ الحرّ. فتحمَّل المطران يوسف هذه المسؤوليَّة بالرُّغم من الانتقادات الدَّاخليَّة والخارجيَّة، والتَّهديدات والمحاربة المعنويَّة والكلامية والفكريَّة والعمليَّة. فصمَدَ حبًّا بلبنان حتَّى النِّهاية. وكانت بياناتُ هذا اللِّقاء جريئةً وموجِّهةً، ذكَّرَتنا "بالجبهة اللُّبنانيَّة" التي قادت المقاومة اللُّبنانيَّة الشَّعبيَّة في حرب السَّنتين 1975 و 1976، وأمَّنت خلاص لبنان.
9. ولئن طال الكلام عن هذا الأسقف المميَّز، ولو لمامًا، فلا بدَّ من أن نذكر نشاطاته العمرانيَّة، وأهمَّها: التَّرميم الواسع وزيادة أبنية جديدة وتنظيم أجنحة هنا في كرسي المطرانيَّة بقرنة شهوان. وكذلك في مقرّ المطرانيَّة بأنطلياس، مع إعادة تكوينه، وتخصيص الطَّابق السُّفليّ لنشاط عائلة قلب يسوع التي توزِّع وجبات طعام أسبوعيَّة للعائلات المستورة.
وأنشأ المركز الرَّاعويّ في أنطلياس ليكون مركزا للتعليم الدِّينيّ العالي، ومكاتب اللِّجان، ومركز الإعداد للزَّواج، وبنَى مركز ترشيش الصَّيفيّ لتمضية فترة من فصل الصَّيف، واستقبال الرِّياضات الكهنوتيَّة. وتملَّكت المطرانيَّة بناءً سمَّته "بيت الفتاة في حارة صادر" لاستقبال الفتيات اللَّواتي يتابعن دروسهنَّ الجامعيَّة أو يعملن. وتولَّت إدارتَه راهبات القلبين الأقدسين. ورمَّم دير بحردق الأثريّ ليكون مع المساحات الخضراء المحيطة مكانًا للنَّشاطات الرُّوحيَّة والثَّقافيَّة والشَّبابيَّة وسواها.
هذا بالإضافة إلى بناء 24 مسكنًا للمهجَّرين بالتَّعاون مع كاريتاس لبنان، وإنشاء مركز لحركة الفوكولاري على قطعة أرض من أملاك دير بحردق، وترميم دير مار يوحنَّا زكريت مع شركة فندقيَّة سياحيَّة لاستقبال الحفلات المتنوِّعة وبخاصَّة الأعراس.
10. ستٌّ وعشرون سنةً من حياته الأسقفيَّة الزَّاخرة بالعطاءات، سبقتها ثلاث وعشرون سنة من حياةٍ كهنوتيَّة أرست أسس الأسقفيَّة، قضاها المثلَّث الرَّحمة المطران يوسف بصمتٍ وتواضعٍ بعيدًا عن الضَّجيج والاعتداد. بهذه الرُّوح عاش، وكان سرُّ القربان وقدَّاسُه اليوميّ، محور حياته، منه استمد ثقافة المحبَّة المتفانية والعطاء من دون مقابل.
فكم هي ناطقةٌ طريقة موته ووداعه! فمنذ أقلَّ من أسبوع، وبعد أن أنهى الكلام الجوهريّ في قدَّاسه واستدعاء حلول الرُّوح القدس على القرابين وعليه، سقطَ أرضًا مغشيًا عليه. فذكَّرَنا بميتة القدِّيس شربل. واليوم في وداعه، ومن دون صدفة، هو عيد القربان المقدَّس. ما يعني أنَّه عاش متماهيًا مع المسيح الكاهن والذَّبيح. ونحن نصلِّي ونرجو أن يشركه في مجد ملكوته.
11. بهذا الرَّجاء وباسمكم جميعًا أرفع تعازيَّ القلبيَّة إلى إخواني السَّادة المطارنة، أعضاء سينودس كنيستنا المقدَّس، والمدبِّرِ البطريركيّ لأبرشيَّة أنطلياس العزيزة وكهنتِها ورهبانِها وراهباتها وسائر مؤمنيها، وإلى أرملة شقيقه المرحوم الياس، وأشقَّائه بشير وأنطوان وجان وعائلاتهم وسائر أنسبائهم في الوطن والمهجر.
رحِمه الله وعوَّضَ على كنيستنا برعاةٍ قدِّيسين لمجد الثَّالوث القدُّوس، الآب والابن والرُّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.