ونراها عند متّى: في سلسلة النسب، وفي البيان ليوسف، في زيارة المجوس، وفي الهرب إلى مصر والعودة منها، وفي البحث عن يسوع.
ولكنّ للإنجيل الرابع نكهة مميّزة، فهو "قدس أقداس الكتاب المقدّس"، كما يشبّهه مكسيموس المعترف، "وهو البكر بين الأناجيل، الّتي هي بدورها بكر الكتب المقدّسة"، كما يقول أوريجانوس، "ولا يُدرِك معنى هذا الإنجيل، إلّا من اتّكأ على صدر يسوع، وقَبِلَ منه مريم كأمّ له وأخذها إلى خاصّته. مثل هذا يكون يوحنّا آخر، ويظهر له يسوع ذاته كما فعل مع يوحنّا".
لم يقبل التلميذ أمّ يسوع ليأويها فقط، ويؤمّن لها المسكن والمأكل، إنّما أخذها إلى خاصّته كثروة روحيّة أيضًا. أخذ مريم إلى خاصّتنا يعني الدخول في مدرستها الروحيّة والتتلمذ لابنها يسوع.
• يسمّي الإنجيليّ مريم "أمّ يسوع"، ولا يذكر اسمها بتاتًا. وهذا اللقب يتوافق مع التقليد الشرقيّ الّذي يربط الأمّ باسم ابنها البكر. ولكنّ يوحنّا الإنجيليّ يذهب في التسمية إلى أبعد من ذلك. فعندما لا يذكر الاسم مباشرة، فغايته أن يعطي للمتأمّل في النصّ دورًا شخصيًّا، وكأنّه يقول لنا: "باستطاعتك أنت أن تكون أمّ يسوع". وتتقارب هذه الفكرة مع ما قاله الربّ يسوع عند الإزائيّين، عندما جاءت أمّه وإخوته يسألون عنه، "إنّ أمّي وإخوتي هم هؤلاء الّذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها" (لو 8: 21). والنتيجة أنّ كلّ مؤمن يسمع كلمة الله ويعمل بها، كلّ من يفعل ما يقوله له يسوع، هو أمّ يسوع وتلميذ يسوع وخادم يسوع.
عند الصليب: أمّ يسوع ستصبح "الأمّ" أيّ "أمّ الناس" أجمعين عند الصليب.
• ويسمّيها يسوع "امرأة"، وهي ليست تسمية عاديّة من ابن لأمّه. ولمعرفة سبب هذه التسمية، نعود إلى سفر التكوين حيث تُذكر المرأة الأولى مع شرح لاسمها "لأنّها من امرئٍ أُخذت" (تك 2: 23). قبل السقطة الأولى، كانت المرأة في حالة النعمة، مخلوقة كآدم على صورة الله كمثاله (تك 1: 26-27)، بعد السقطة أصبح اسمها حوّاء (تك 3: 20). إذًا، يسوع يجعل من أمّه مثال المرأة الجديدة، وباب النعمة.
• الساعة: إنّها ساعة الموت، ساعة الانتقال الكبير، ولكنّها أيضًا ساعة العودة إلى أبيه، ساعة التمجيد الأخير. لقد أظهر المسيح "مجده" في عرس قانا الجليل، وأظهر مجده أيضًا بموته على الصليب. وفي كلتا الحادثتين نجد مريم شاهدة "للساعة" الّتي بدأت والّتي أتت.
لقد اشتركت مريم في ساعة العرس ولكنّها ستشارك في آلام يسوع على طريق الجلجلة حتّى الصليب والقبر، في انتظار أن يشركها في مجده السماويّ.
على غرار "ساعة" ابنها يسوع، كانت "الساعة" منعطفًا هامًّا في حياة مريم كما يقول يوحنّا: "منذ تلك الساعة أخذها التلميذ إلى خاصّته".
3- عَدا مَشهدَي عرس قانا الجليل (يو 2: 1-12) والصليب (يو 19: 25-27)، تُذكرُ الأُمُّ على وجهِ السرعةِ في خطبةِ الإفخرستيّا (يو 6: 42)، وهي لو لم تُذكَرْ صراحةً في نشيدِ الكلمةِ المتجسّد (يو 1: 1-18)، وفي ظهورِ يسوعَ القائمِ من الموتِ للتلاميذِ في العلّيّة (يو 20: 19-29)، إلاّ أنَّ دورَها الخفيَّ بارزٌ جدًّا في الحدثَين: فمريمُ هي سُكنى الكلمةِ الّذي صارَ بشرًا (يو 1: 14)، هي الّتي من ملئه أخذت نعمة تلو نعمة (يو 1: 16)، وهي الّتي ولدته لا من دم ولا من رغبة جسد ولا من مشيئة رجل، بل من الله (يو 1: 13)، وهذا إشارة إلى بتوليّتها الدائمة، وهي العلّيّةُ الروحيّةُ المغلَقةُ الأبواب (يو 20: 19)، الّتي ظهرَ في وسطِها الربُّ يسوع، كما يرى القدّيسان إيرونيموس وأغوسطينوس. وتبقى آيةُ المرأةِ في سِفرِ الرؤيا (رؤ 12: 1-18) صورةً عن العذراءِ القدّيسةِ أُمِّ الفادي وحوّاءِ الجديدة.
4- يذكر يوحنّا الإنجيليّ سبع نساء وهُنَّ: أمّ يسوع، أخت أمّه، مريم الّتي لكلوبا، مريم المجدليّة، مريم أخت لعازر، مرتا والسامريّة. أمّا المرأة الزانية (يو 8: 1-11)، فإنَّ حدث إعفاء يسوع عنها هو لوقانيّ لا يوحنّوي، مبنًى ومعنًى. (راجع شروحات الكتاب المقدّس، يو 7: 53 – 8: 11).
5- سبعٌ هي الصفاتُ المريميّةُ في النصوصِ الّتي تأتي على ذكرِ أُمِّ يسوع، المرأةِ الجديدةِ، في الإنجيلِ بحسب يوحنّا:
من حيث هي الأُمّ
1- أُمُّ يسوعَ المسيحِ ابنِ الله، الكلمةِ الإلهِ المولودِ من الآبِ منذُ الأزل، والمولودِ فيها في مِلءِ الزمن، لا من دمٍ، ولا من رغبةِ جسدٍ، ولا من مشيئةِ رَجُلٍ، إنّما من الروحِ القُدُس (يو 1: 1-14). هي الأُمُّ الدائمةُ بتوليّتُها.
2- أُمُّ الكنيسة، جسدِ يسوعَ السِرّيّ، أُمُّ كلِّ تلميذٍ يُحبُّهُ يسوعُ ويأخذُها إلى خاصّتِهِ (يو 19: 27) وأُمُّ جميعِ المؤمنين.
من حيث هي المرأة
3- المرأةُ الجديدةُ الّتي أخذَتْ مِن مِلءِ يسوعَ نعمةً تِلوَ نعمة (يو 1: 16). موقِفُها نقيضٌ لموقفِ حوّاءَ الّتي لم تفعلْ كما قالَ الربُّ.
4- المرأةُ الخادِمَة، أَمَةُ الربِّ الحكيمة، العذراءُ الساهرةُ دومًا على فرحِ أهلِ البيت، تنتظرُ مَعَهُم مجيءَ يسوعَ العريسِ الحقيقيّ (يو 2: 1-2).
5- المرأةُ الإفخرستيّة، الواقفةُ بالقربِ من صليبِ ٱبنِها (يو 19: 25)، قرّبت حشاها البتوليّ لتجسّد كلمة الله، واتّحدَت مع ٱبنها في الآلام، ورَجَتْ فداءَه، وآمَنَت بقيامته.
6- المرأةُ المُصَلِّية، الشفيعةُ والمُرشدة، ترفعُ شقاءَ أهلِ الأرضِ أمامَ ٱبنِها، وتحملُ إليهم علاماتِ الرجاء (يو 2: 3-5).
7- المرأةُ التلميذة، الّتي تتبعُ ٱبنَها في مسيرتِهِ التبشيريّة، وتختفي ليظهرَ عَمَلُ ٱبنِها (يو 2: 12).
6- كيف يمكنني أنا اليوم أن أقف إلى جانب مريم أمّ يسوع، وأن آخذها إلى خاصّتي؟
يقولُ يوحنّا الإنجيليّ: "فلمّا رأى يسوعُ أُمَّهُ، والتلميذَ الّذي كان يُحبُّهُ واقفًا إلى جانبِها، قالَ لأُمِّهِ: يا امرأة، ها هوَ ٱبنُكِ!". ثمّ قالَ للتلميذ: "ها هي أُمُّكَ!"" (يو 19: 26-27). وأنا، إذا كنتُ أسعى فعلاً لأن أكونَ التلميذَ الحبيبَ ليسوع، أقبَلُ مريمَ كأُمٍّ لي، كثروةٍ روحيَّةٍ في مسيرَتي الإيمانيّة، وأكونُ ٱبنَها، وأَتشبَّهُ بها.
وإذا كان الابنُ يُكرِّمُ أباهُ وأُمَّهُ بحسبِ الوصيّة، فبكَوني ابنًا لمريمَ أُكرِّمُها الإكرامَ الفائق:
- فأَقفُ إلى جانِبِها في وجهِ كلِّ التعاليمِ المُضَلِّلةِ وأستشفِعُها في مسيرةِ نُمُوِّي بالنعمةِ والحكمةِ حتّى أبلغَ مِلءَ قامةِ الربِّ يسوع.
- وآخذُها إلى خاصَّتي كثروةٍ روحيّةٍ وغِنًى عظيم، وأصيرُ أنا من خاصَّتِها وأدخلُ في مدرستِها الروحيّة:
1- أؤمنُ أنَّ يسوعَ المولودَ منها هو المسيحُ ٱبنُ الله، فتكونُ ليَ الحياةُ بِاسمِهِ.
2- ألتزمُ تعاليمَ الأُمِّ الكنيسةِ الواحدةِ الجامعةِ المقدّسةِ الرسوليّةِ وقوانينَها وطقوسَها.
3- أحرصُ على ديمومةِ النعمةِ الّتي أنالُها من خلالِ الإنجيلِ والأسرارِ وأعمالِ المحبّةِ وأتفاعلُ معها.
4- أسهرُ على فرحِ أهلِ البيتِ وأكونُ لَهُمُ الخادمَ الأمينَ الحكيم.
5- أُقدِّمُ آلامي معَ آلامِ يسوع، فأتقدَّسُ بها وأُقدِّسُ الآخرينَ وأشكرُ الربَّ على كلِّ شيء.
6- أرتقي بصلاتي إلى مستوى المشيئةِ الإلهيّةِ وأُتمِّمُها في حياتِي.
7- أكونُ التلميذَ الدائمَ ليسوع، فأنقُصُ أنا لينمُوَ فيَّ يسوع.
المراجع:
1- المعلومات الواردة في الكتاب المقدّس، العهد الجديد، الإنجيل وأعمال الرسل، جامعة الروح القدس- الكسليك- لبنان 1987.
2- دليل علّيّة مرانا تا –هويّة ورسالة، 2016.
3- ميشو جان بول، مريم بحسب الأناجيل، دار المشرق- بيروت، عدد 29، طبعة أولى، 1998.
4- بشاره يوسف والفغالي بولس، العذراء مريم، منشورات الرابطة الكهنوتيّة، الطبعة الأولى، 1979.
5- بسترس كيرلّس سليم، اللاهوت المسيحيّ والإنسان المعاصر، الجزء الرابع، مريم العذراء أمّ ربّنا يسوع المسيح، طبعة أولى، 1993.
6- ملطى تادروس يعقوب، الإنجيل بحسب يوحنّا، الجزءان الأوّل والثاني، 2002.
7- محفوظ هادي، على مائدة الكلمة 3، زمن الصوم الكبير، جامعة الروح القدس- الكسليك، 2006.
8- مهنّا توما، ربّي املأني منك، منشورات جامعة الروح القدس- الكسليك، 2009، عدد 5 و6.
9- الفغالي بولس، إنجيل يوحنّا، الرابطة الكتابيّة، ١٩٩٢.
١٠- ملّا دوناسيان اليسوعيّ، قراءات في إنجيل يوحنّا، دار المشرق، ١٩٩٣.
١١- توريان ماكس، مريم أمّ الربّ ورمز الكنيسة، دار المشرق، ١٩٨٧.
١٢- دوبره لاتور أوغسطين، دار المشرق، ١٩٩١.
١٣- أثناسيو متري هاجي، الموسوعة المريميّة، ١٩٨٢.
١٤- صابو لاديسلاس، المواضيع المريميّة في الكتاب المقدّس، المجلّة الكهنوتيّة، تمّوز ١٩٨٨.
لمشاهدة الحلقة الرابعة من برنامج "أرِنا خلاصك" مع الخوري شادي بو حبيب يمكنكم الضغط على الرابط التالي: