الخوري شادي بو حبيب
مقالات/ 2020-05-22
من هو إيليا؟ "الواقف أمام وجه الله"
إيليا النبي أو مار الياس الحيّ أو "إلياهو" (ومعنى الإسم: "إلهي هو يهوه")، هو من أعظم أنبياء العهد الأوّل. مسقط رأسه تشبة في جلعاد (1 ملوك 17، 1 أ)، وقد ظهر في مملكة الشمال أيام حكم الملك آحاب (875- 853)، والملك أحزيا (853- 852). هو الواقف أمام وجه الله كما عرّف عن نفسه (1ملوك 17، 1 ب)، ليس الوقوف الجغرافي طبعًا، إنما الحضور الدائم أمام إلهٍ حيّ، أصبح وإياهُ واحداً. إيليا هو شخص "سرّي"، يظهر فجأةً ويختفي فجأةً، إذ ينقله "روح الربّ إلى حيث لا يعلم أحد" (راجع 1ملوك 18، 12). له سلطان على عناصر الطبيعة وعلى نار السماء، فقد أوقف المطر بأمرٍ منهُ (راجع 1 ملوك 17، 2)، وأنزل نار الربّ من السماء مراتٍ عدّة (1 ملوك 18، 38؛ 2 ملوك 1، 10+)، وقد أطعمته الغربان بأمر من الربّ (1 ملوك 17، 4). إجترح المعجزات العديدة: معجزة الدقيق والزيت: 1 ملوك 17، 7+؛ إحياء إبن الأرملة: 17، 17+؛ ذبيحة الكرمل: 1ملوك 18، 20+؛ إعادة المطر وإنتهاء الجفاف: 1ملوك 18، 41+؛ إنشقاق مياه نهر الأردن: 2ملوك 2، 8.
دلَّ إيليا على قدرة الله الفاعلة في عالم مليء بالعبادات الوثنية، وكان متعبّداً للربّ. فلم يَهَب الملوك ولا كهنة البعل العديدين، بل تحدَّاهم على جبل الكرمل (راجع 1ملوك 18) مُظهراً أن "الربّ هو الإله". ولكن هذا البطل المدافع عن حقوق الله في شعبه، خاف من إيزابيل زوجة الملك آحاب، فمضى على وجهه (راجع 1ملوك 19، 3) وتقدَّم في البرية مُلتمساً لنفسه الموت قائلاً: "حسبي الآن يا رب، فخذ نفسي، فإني لست خيراً من آبائي" (1ملوك 19، 4). بعد نوم عميق، أعطاه الله طعاماً وكلّمهُ من خلال " صوت صمتٍ عميق" [1] (راجع 1ملوك 19، 12)، فعادت إليه قواه، وشرع في رسالته من جديد يعمل عمل الرب في شعبه: مسح "حزائيل" ملكاً على آرام (1ملوك 19، 15)، و"ياهو" ملكاً على إسرائيل، واختار "أليشاع" نبياً يسير على خطاه (راجع 1ملوك 19، 16). دافع عن الضعفاء بوجه الملك، كما فعل مع نابوت اليزرعيلي الذي سلبه آحابُ أرضَه وحياته (راجع 1ملوك 21). نُقِلَ إلى السماء في "مركبة خيلٍ ناريّة" (2ملوك 2، 11)، وبقي يعمل عمل الله مع الشعب حتّى بعد انتقاله (2 أخبار 21، 12-15).
ذُكِرَ إيليا في سفر المكابيين الأوّل (2، 58)، وأشار إلى عمله سفر زكريا (4، 11-14)، ومدحه سفر يشوع بن سيراخ (48، 1-11). تاق اليهود إلى مجيئه، الذي يحضِّر لمجيء المخلّص، وجعلوا منهُ قدوةً مُنتظرة "قبل يوم الربّ العظيم الرهيب، فيردّ قلوب الآباء إلى البنين، وقلوب البنين إلى آبائهم" (راجع ملاخي 3، 23-24). علماً أننا نجد قصّته الكاملة في سفري الملوك (1 مل 17 - 2 مل 2).
إيليا، عابر الجبال "وينطلقون من قوّةٍ إلى قوّةٍ"
يلفت نظرنا في المسيرة التي عبر فيها إيليا حياته على الأرض، الانتقال من جبل إلى آخر، واختبار حضور الله الفاعل في كلّ مرحلة بصورة مميّزة. وهو يستحقّ أن نُعطيه لقب "عابر الجبال"، فقد أضحت صورتهُ مثالاً لنا ومسيرتهُ قدوةً يُحتذى بها، فننتقل معهُ من "جبلٍ إلى جبل"، و "من قوّةٍ إلى قوّة" (مزمور84، 8):
فمن تشبة جلعاد في جبال عجلون، مسقط رأس إيليا، (حيث تلّ مار الياس، وتُعرف المنطقة اليوم بــــ"لستِب"، وهي من أهمّ الأماكن المقدّسة في الأردنّ)، إلى جبل الكرمل في الجليل (حيث المكان التقليدي لذبيحة الكرمل ونزول نار الربّ من السماء). ثمّ إلى جبل حوريب (حيث جبل سيناء ومكان تجلّي الربّ لإيليا بعد مسيرة الصوم والصلاة). وأخيراً، وليس آخراً، إلى جبل الانتقال في مركبة خيلٍ ناريّة (حيث تلّ مار الياس اليوم قرب منطقة المغطس في نهر الأردنّ). ولكنّ إيليا سيعود ويُكلّل عبوره على جبل التجلّي حيثُ اللقاء بينه وبين الربّ يسوع حين "تجلّى على جبلٍ عالٍ" (راجع متى 17، 1).
وذبحهم هناك "لي الانتقام، يقول الربّ، وأنا الذي يُجازي"
من أهمّ الأحداث التي طبعت ذاكرة المؤمنين بما يخصّ عظمة إيليا النبي، هو الفتك بكهنة "بعل" على جبل الكرمل، لذا ينبغي أن نوضح ما حدَثَ على هذا الجبل، مُحلّلين النصّ البيبلي، ومُظهرين ما جرى حقيقةً، بناءً على أحدث الدراسات الكتابيّة.
إنّ دراسة حياة إيليا بمجملها، وتحليل شخصيته، والتأمّل بتوقه إلى العدالة الدينيّة والاجتماعيّة، جعلنا نتعجّب من أن يكون إيليا "قاتلاً". لذا نرى الكثير من الكتّاب يغفلون عن ذكر هذا الحدث محاولين إعطاءه معنًى رمزياً، أو جعله حقبةً غامضة. علماً أنّ هدف النبيّ ظاهرٌ في صلاته قبل المعجزة الكبيرة، وهو أن يعرف الجميع قدرة الله ومحبّته، وليس القتل و"رشاش الدماء": "إستجبني يا ربّ، استجبني، ليعلم هذا الشعب أنّكَ أنتَ الإله" (1 ملوك 18، 37).
الآية الوحيدة التي تدلّ على أنّ إيليا قتل الأنبياء هي التالية: "فأنزلهم إيليا إلى نهر قيشون وذبحهم هناك" (1ملوك 18، 40). إذا عدنا إلى النصّ العبري الذي كُتِبَ فيه الكتاب المقدّس نجد أنّ كلمة "شَحَطْ" العبريّة والتي تُترجم عادةً بـ"ذبح"، لا تعني القتل الجسديّ بالتحديد! فبحسب القاموس العبري-العربي [2] نجد أن فعل "شَحَط" يعني "ذبح (الحيوان حسب الشرائع الدينيّة اليهوديّة)، طرّق، ضرب (بمطرقةٍ)، أفسد، خرّبَ". فــــ"شَحَط" تعني "أفنى" الحيوان المقدّم كذبيحة بهدف دينيّ [3]، وليس ذبحَ إنساناً أو قتلهُ؛ إذ أنّ هذا الفعل لهُ استعمال آخر في اللغة العبريّة وهو "ذَبَحْ" أي ذبحَ [4].
إنّ ما يهمّنا أيضاً، هو انتقال فعل "شَحَطْ" إلى اللغة العربيّة المحكيّة، وهو يحمل معانٍ عديدة [5]، فنقول مثلاً: "انشحط (أي طُرِدَ) التلميذ من المدرسة" أو شحطوا (أي أخرِجوا) هالزلمة لبرّا!"، أو "شحاط (أي أُنقُل) الصندوق إلى الغرفة الأخرى"...
ثمّ إنّ تتابع النصّ يُظهر أنّ إيليا قال للشعب: "إقبضوا على أنبياء البعل ولا يفلت منهم أحد" (1 ملوك 18، 40) ولم يقل إن الشعب قتلهم، ويُتابع "وأنزلهم إلى نهر قيشون، وذبحهم (شَحَطْ) هناك". فهل يُعقل أنّ النصّ البيبلي يجعل رجلاً واحداً يقتل 450 كاهناً لبعل، و400 كاهناً لعشتاروت؟ هو الذي أعطى الحريّة منذ بداية المواجهة قائلاً "إن كان الرب هو الإله فاتبعوه، وإن كان البعل اياه فاتبعوه" (1 ملوك 18، 21). لقد كان مُتساهلاً مع شعب الله الذي ينبغي عليه هو نفسه أن يُطيع ربَّهُ، ألا يكون كذلك مع من لم يعرفوا أصلاً عبادة القدّوس؟ ثمّ ينبغي أن نرى نزولهُ والكهنة إلى نهر قيشون بوجهة رمزيّة، فالنهر في العهد القديم، يعني الحدود الجغرافيّة لمنطقة معيّنة. إنهُ يُنزل الأنبياء ويطردهم خارج الأرض المقدّسة، ليعودوا إلى ديارهم. إنه يبعدهم خارج الحدود ليحرّر الأرض المقدّسة من ضلالهم وهذا أهمّ من القتل والانتقام!
ماذا فعل إيليا؟ "إلى متى تعرجون بين الجانبين"
إنّ القراءة المتأنية للنص، تجعلنا نتأكّد من أن إيليا قام بعملٍ عظيمٍ جدًا، وهو "طرد" الأنبياء الكذبة خارج "ديار الربّ" خارج جبل "الكرمل" ومعناه "كرم إيل" أي "كرم الله". ليجعل الأرض مقدّسةً بأهلها الذين يعرفون القدوس. وقد قيل إنه "بدون موسى لما كان ولد الإيمان الحقيقي بالله، وبدون إيليا، لكان مات هذا الإيمان" [6]. إيليا قام بعملٍ أعظم من القتل، وهو إنهاء التمرّد على الله. لقد جعل الشعب الذي كان "يعرج بين الجانبين" (1 ملوك 18، 21) يُدرك أنه عليه أن يتبع مخلّصهُ، أو يسير وراء كهنة "الهوان" ويترك الأرض "لقدّيسيها"، ذاهباً خارج الحدود، لأن الربّ قدّس الأرض ومن فيها، وعلى الشعب أن يحترم وعوده التي قطعها مع الربّ "الرب إلهنا نعبد ولصوته نسمع" (يشوع 24، 24).
لقد انتقم إيليا! ولكن انتقامه كان من نوعٍ آخر!
انتقم أولاً من خطيئة الملك آحاب وزوجته إيزابيل، وأصبح هو المرجع للشعب فقاده إلى الحقيقة. لذا نرى الملك صامتاً على جبل الكرمل ولم يقم بأي عمل. لقد انتهى دوره!
انتقم إيليا ثانياً من انحراف الشعب وبعده عن خالقه، فرمّم المذبح الذي كان صورةً لإيمان إسرائيل المهدّم. لذا نرى الشعب يصرخ بأعلى صوته: الربّ هو الله، الربّ هو الله!
انتقم إيليا ثالثاً من ضلال الوثنيّة، فبيّن عجز البعل وعدم مقدرته على أن يخلّص ويستجيب. لذا ظهرت عظمة القدّوس أمام ذلّ الآلهة التي "لها عيونٌ ولا تبصر، ولها آذانٌ ولا تسمع...".
انتقم إيليا أخيراً من خداع كهنة الهوان الذين طالما "أكلوا على مائدة إيزابيل"، فأظهر سطحيّة تفكيرهم، لذا أصبحوا محطّ استهزاء وازدراء.
أعجوبة مزدوجة "عجيبةٌ أعمالك يا ربّ"
من المعلوم أن الربّ استجاب صلاة إيليا المتواضعة، وأرسل ناره من السماء، فأكلت الذبيحة والحطب والمذبح. لطالما انتظر الشعب أن ينزل المطر فكانت لهم النار. وهذه ربما صورة عمّا كان الناسُ بحاجةٍ إليه يومها! فقلوبهم بحاجة إلى أن تتنقى بالنار فتحترق الخطيئة التي جعلتها يابسة، قبل أن يأتي المطر ويأتي بغزارة (راجع 1 ملوك 18، 45)، فيروي القلوب الظمأى، وينعش الأرض ويجدّدها. إنّ الربّ وحده القادر على أن يُنزل المطر والنار من السماء وليس البعل الذي كان يُدعى إله النار والمطر عن غير استحقاق!
ثمّ إن الربّ لم يُجرِ فقط أعجوبة إنزال النار من السماء، إنما أيضاً أعجوبة منع النار الكاذبة من الظهور! وهنا علينا أن نعود إلى شرح القديس يوحنا الذهبي الفم الذي تكلّم عن حيلةٍ كان يقوم بها الكهنة الوثنيون، إذ يحفرون نفقاً تحت الأرض يصل إلى المذبح بطريقة غير مرئيّة ويجعلون "طبقة سفلى سريّة ذات خروق نافذة إلى الطبقة العليا" [7]، ويُدخلون رجلاً دون علم الشعب لينفخ ناراً من داخل هذا النفق، فيظنّ الجميع أن الآلهة أرسلت ناراً من السماء. وهنا نعود إلى تقليدٍ يهوديٍّ قديم، يتكلّم عن شخصٍ يُدعى "هِييال"، أُنزل إلى النفق، وقبل أن يناديه الكهنة لينفخ بالنار، أتت حيّة سامّة ولسعته، فسقط ميتاً على الفور، وهكذا فشلت خطّتهم. وهذا ما يفسِّر طلب إيليا بأن يضعوا ماءً فوق محرقته لعدّة مرات، فينفي بذلك كلّ اتهامٍ بوجود قناةٍ تهرّب النار من الداخل [8]!
"طوبى للرجل الذي يتقي الربّ ويهوى وصاياهُ جداً"
إيليا هو رجل الله بامتياز، ولكنه رجل الجماعة أيضاً. فرسالته كانت تهدف إلى جمع شمل الشعب ليعبد ربّه بأمانة. إيليا هو نبي نار الربّ وقد كانت حياته محاطةً بهذه النار المقدّسة منذ بدء رسالته وحتى غيابه في مركبة خيلٍ ناريّة. إيليا هو نبي كلمة الله الذي جعل من أقواله سيفاً ذو حدّين "تردُّ قلوب الآباء إلى البنين...". إيليا هو نبيّ التوبة والرجوع إلى العليّ وقد أنّب الشعب وأعاده إلى راعيه الحقيقي. إيليا هو رجل العهد الذي سيُجدّد علاقة الإنسان بخالقه فيبني مذبحاً من اثني عشر حجراً مذكراً بالعهد مع إبراهيم واسحق ويعقوب.
إيليا أخيراً هو رجل زماننا الحاضر، فهو الذي حضّر لمجيء المسيح، وكان ذكره حاضراً منذ البشارة بيوحنا وحتى الصليب. لقد كان قدوةً في الأمانة والزهد والخدمة الصادقة، فهل نتأمّل اليوم بصورته الصادقة ونتمثّل بها؟
ألا نسمع اليوم نبيّنا يهتف بنا "إلى متى تعرجون بين الجانبين؟" ألسنا بحاجة لمن ينبّه خَدَمَة العليّ ليفحصوا رسالتهم بأمانة هل هي للربّ أم لبعل هذا الدهر؟ أخيراً ألسنا بحاجةٍ إلى من يرفع نظرنا إلى ما هو سماويّ، فندرك حقيقة الخلاص التي تجلّت بالربّ يسوع المسيح، لهُ المجدُ إلى الأبد.