الخوري جان الجرماني
مقالات/ 2020-02-24
زَمَنُ الصَّوْمِ الكَبيرِ، وَكَما يُشَبِّهُهُ آباؤنا القِدّيسونَ، هُوَ كَالرِّحْلَةِ البَحْرِيَّةِ، حَيْثُ نُبْحِرُ عَلى مَتْنِ سَفينَةِ الكَنيسَةِ – الجَماعَةِ المُؤْمِنَةِ. نُجاهِدُ بِمَجاذيفِ الصَّلاةِ وَالصَّوْمِ وَالصَّدَقَةِ، وَنُقاوِمُ جَميعَ عَواصِفِ التَّحَدِّياتِ وَالضّيقاتِ وَالتَّجارِبِ. وَفي نِهايَةِ الرِّحْلَةِ، نَصِلُ إلى ميناءِ أُسْبوعِ الآلامِ، حَيْثُ نَغْطُسُ مَعَ آلامِ رَبِّنا يَسوعَ المَسيحِ الّذي غَطَسَ في واقِعِ يَوْمِيّاتِ حَياتِنا، لِيُنَقِّيَنا وَيُخَلِّصَنا وَيَرْفَعَنا، فَنَقومَ مَعَهُ وَنَحْيا إلى الأَبَدِ.
نُبْحِرُ بِمَحَبَّةِ اللهِ الآبِ، الّذي أَحَبَّنا فَخَلَقَنا كَما يُخْبِرُنا سِفْرُ التَّكْوينِ: " فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسانَ عَلى صورَتِهِ، عَلى صورَةِ اللهِ خَلَقَهُ ذكَرًا وَأُنْثى خَلَقَهُمْ " (تك 1 / 27)، وَدَبَّرَ كُلَّ شَيْءٍ لِخَلاصِنا.
نُبْحِرُ بِنِعْمَةِ الإِبْنِ الوَحيدِ يَسوعَ المَسيحِ، الّذي تَجَسَّدَ لِيُحَقِّقَ تَدبيرَ اللهِ الخَلاصِيَّ وَ" لِيَهَبَ حَياةً أَبَدِيَّةً لِكُلِّ مَنْ وَهَبْتَهُمْ لَهُ. وَالحَياةُ الأَبَدِيَّةُ هِيَ أَنْ يَعْرِفوكَ أَنْتَ الإِلهَ الواحِدَ الحَقَّ، وَيَعْرِفُوا الّذي أَرْسَلْتَهُ، يَسوعَ المَسيحَ " (يو 17 / 2ب – 3).
نُبْحِرُ بِشَرِكَةِ الرّوحِ القُدُسِ المُحْيي، الّذي يَجْمَعُنا وَيُوَحِّدُنا لِنَكونَ عائِلَةً بَشَرِيَّةً واحِدَةً، وَيُدْخِلُنا في شَرِكَةِ مَحَبَّةِ الثّالوثِ الإلهِيَّةِ الواحِدَةِ. " ألحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكَ، لا أَحَدَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلكوتَ اللهِ ما لَمْ يولَدْ مِنَ الماءِ وَالرّوحِ " (يو 3 / 5).
إنَّ مَسيرَةَ الصَّوْمِ الّتي هِيَ " بَدْءُ طَريقِ اللهِ المُقَدَّسِ، وَصَديقٌ مُلازِمٌ لِكُلِّ الفَضائِل" (إسحق السّريانيّ)، تَتَطَلَّبُ مِنّا أَنْ نَفْتَقِرَ عَنْ ذَواتِنا وَنَخْرُجَ مِنَ الـ " أَنا " الّتي تُكَبِّلُّنا، وَتَجْعَلُنا نَتَقَوْقَعُ عَلى ذَواتِنا، وَتَمْنَعُنا مِنْ مُلاقاةِ الرَّبِّ، وَالمُبادَرَةِ نَحْوَ قَريبِنا. إِنَّ الصَّوْمَ الكَبيرَ لَمُناسَبَةٌ لِكَيْ نَخْتَبِرَ غِنى اللهِ، وَفَرَحَ لِقاءِ الآخَرِ.
إِنَّ مَسيرَةَ الصَّوْمِ الّتي نَعيشُها بِـ " الإِمْساكِ عَنْ جَميعِ الرَّذائِلِ وَالتَّمَسُّكِ بِجَميعِ الفَضائِلِ" (يُوحنّا الذّهبيّ الفَم)، تَجْعَلُنا نَشْعُرُ بِقيمَتِنا الإِنْسانِيَّةِ، وَنُدْرِكُ دَعْوَتَنا الإلهِيَّةَ. فَالصَّوْمُ يَجِدُ مَعْناهُ الحَقيقِيَّ في الحُبِّ؛ حُبِّ اللهِ وَحُبِّ القَريبِ، وَهذا ما يُعَبِّرُ عَنْهُ مار يَعقوب السّروجي عِنْدَما يَقولُ: " أَرْضَ البَيْتِ افْرُشْها بِبِساطِ الحُبِّ الصّافي، لِأَنَّ الرَّبَّ يُريدُ أَنْ يَرى الحُبَّ أَيْنَما حَلَّ". هذِهِ دَعْوَتُنا أَنْ نَعيشَ عَلاقاتِنا البَشَرِيَّةَ بِحُبٍّ، وَنَسْعى لِلْحَياةِ الإلهِيَّةِ بِالحُبِّ.
نَفْتَتِحُ زَمَنَ الصَّوْمِ بِأَحَدِ المَرْفَعِ وَإِنْجيلِ عُرْس قانا الجَليل: "تِلْكَ كانَتْ أولى آياتِ يَسوعَ، صَنَعَها في قانا الجَليل، فَأَظْهَرَ مَجْدَهُ، وَآمَنَ بِهِ تَلاميذُهُ" (يو 2 / 11). وَلِهذا الأَحَدِ دَلالَةٌ خاصَّةٌ، فَالكَنيسَةُ تَقولُ لَنا أَنَّ مَسيرَتَنا الصَّوْمِيَّةَ هِيَ مَسيرَةُ فَرَحٍ، مَسيرَةُ عُرْسٍ لِلقاءِ العَريسِ في عُرْسِ الصَّليبِ، يَوْمَ الجُمعَةِ العَظيمَةِ. إِنَّها مَسيرَةُ تَحَوُّلٍ، فَكَما تَحَوَّلَ الماءُ إِلى خَمْرٍ الّذي بِدَوْرِهِ سَيَتَحَوَّلُ، عَلى الصَّليبِ، إلى دَمِ المَسيحِ، هكَذا حَياتُنا يَجِبُ أَنْ تَتَحَوَّلَ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، بِفَضْلِ زَمَنِ الصَّوْمِ وَخَمْرَةِ الحُبِّ الإلهِيِّ، لِتَصِلَ إِلى مَجْدِ القِيامَةِ بِالرَّبِّ يَسوعَ المَسيحِ.
يَوْمَ إِثْنَيْنِ الرَّمادِ، نَضَعُ الرَّمادَ عَلى الجِباهِ عَلامَةً أَنَّنا داخِلونَ الصَّوْمَ بِروحِ النَّدامَةِ وَالتَّوْبَةِ، وَمُدْرِكونَ أَنَّ حَياتَنا الأَرْضِيَّةَ هَباء، " أُذْكُرْ يا إنْسان أَنَّكَ مِنَ التُّرابِ، وَإِلى التُّرابِ تَعودُ "، وَالغايَةُ هِيَ أَنْ نَرْبَحَ الجَوْهَرَةَ؛ جَوْهَرَةَ المَلكوتِ وَالحَياةَ الأَبَدِيَّةَ في شَرِكَةِ الثّالوثِ الأَقْدَسِ، وَصُحْبَةِ مَرْيَمَ العَذْراءِ وَالرُّسُلِ وَالقِدّيسينَ، الأَبْرارِ وَالصِّدّيقينَ. تَنْطَلِقُ الكَنيسَةُ في رِحْلَةِ الصَّوْمِ كَجَماعَةٍ تُشَجِّعُ بَعْضُها بَعْضًا عَلى الصَّلاةِ وَالصَّوْمِ وَالصَّدَقَةِ. تَسيرُ بِروحِ الجَماعَةِ السّائِرَةِ نَحْوَ المَلكوتِ بِعَزْمٍ وَفَرَحٍ وَشَوْقٍ.
ثُمَّ تَتَوالى آحادُ الصَّوْمِ المُتَنَوِّعَةُ وَالغَنِيَّةُ بِالمَعاني. نَبْدَأُ بِأَحَدِ الأَبْرَصِ الّذي يَأْتي إِلى يَسوعَ مُتَحَدِّيًا الشَّريعَةَ وَالنّاسَ، وَيَصِلُ إلى المَسيحِ الطّاهِرِ لِيَطْلُبَ التَّطْهيرَ: "وَأَتاهُ أَبْرَصُ يَتَوَسَّلُ إِلَيْهِ، فَجَثا وَقالَ لَهُ: "إِنْ شِئْتَ فَأْنْتَ قادِرٌ أَنْ تُطَهِّرَني!" (مر 1 / 40). يُبْرِئُهُ يَسوعُ وَيَخْلُقُهُ مِنْ جَديدٍ، بَعْدَ أَنْ غابَ عَنِ الوُجودِ بِسَبَبِ نَظْرَةِ الشَّريعَةِ اليَهودِيَّةِ القاسِيَةِ الّتي هَمَّشَتْهُ وَأَبْعَدَتُهُ عَنِ الحَياةِ الدّينِيَّةِ وَالإجْتِماعِيَّةِ، وَجَعَلَتْهُ يَذْهَبُ إلى العَدَمِ. يَسْتَعيدُ الأَبْرَصُ إِنْسانِيَّتَهُ وَكَرامَتَهُ وَوُجودَهُ، وَيَعودُ إلى حَياتِهِ الطَّبيعِيَّةِ وَمَسيرَتِهِ في طَريقِ الرَّبِّ. وَهذا ما يَفْعَلُهُ بِنا زَمَنُ الصَّوْمِ، يُطَهِّرُنا وَيُنَقّينا وَيُعيدُنا إلى الوُجودِ، وَيَضَعُنا في الطَّريقِ مَعَ الكَنيسَةِ السّائِرَةِ وَراءَ مُعَلِّمِها يَسوعَ المَسيحِ.
أَحَدُ المَنْزوفَةِ الّتي أَصَرَّتْ عَلى لَمْسِ يَسوعَ لِأَنَّهُ سَبَقَ أَنْ لَمَسَ قَلْبَها. تَخَطَّتْ خَوْفَها وَتَحَدَّتِ الشَّريعَةَ وَعَبَرَتْ وَسْطَ الجُموعِ وَلَمَسَتْهُ وَشُفِيَتْ عَلى الحالِ: " دَنَتْ مِنْ وَراءِ يَسوعَ، وَلَمَسَتْ طَرَفَ رِدائِهِ، وَفَجْأَةً وَقَفَ نَزْفُ دَمِها" (لو 8 / 44). وَأَنْتَ ماذا تَنْتَظِرُ؟ هذا هُوَ الزَّمَنُ المُقُدَّسُ، زَمَنُ الصَّوْمِ الّذي يَجْعَلُكَ تَخْرُجُ مِنْ ذاتِكَ وَتُبادِرُ نَحْوَ اللهِ وَالآخَرِ، وَتَلْمُسُ حُضورَ يَسوعَ في حَياتِكَ فَتُشْفى مِنْ نَزيفِ حَياتِكَ، وَتَسْتَعيدُ قيمَتَكَ وَتَسْتَطيعُ أَنْ تَحْيا وَتُحْيِيَ مَعَكَ الآخَرينَ.
في الأَحَدِ الثّالِثِ مِنْ زَمَنِ الصَّوْمِ، نَتَوَقَّفُ عِنْدَ إِنْجيلِ مَثَلِ الإبْنِ الشّاطِر. تَقَصَّدَتِ الكَنيسَةُ وَضْعَ هذا الإنْجيلِ في وَسَطِ مَسيرَتِنا الصَّوْمِيَّةِ لِكَيْ تُذَكِّرَنا بِغايَةِ صَوْمِنا، وَهِيَ أَنْ نَكونَ في البَيْتِ الأَبَوِيِّ حَيْثُ نَكونُ أَبْناءَ الآبِ بِنِعْمَةِ الإبْنِ الوَحيدِ وَشَرِكَةِ الرّوحِ القُدُسِ: "فَقالَ الأَبُ لِعَبيدِهِ: أَسْرِعُوا وَأَخْرِجُوا أَفْخَرَ حُلَّةٍ وَأَلْبِسوهُ، وَاجْعَلُوا في يَدِهِ خاتَمًا، وَفي رِجْلَيهِ حِذاءً، وَأُتوا بِالعِجْلِ المُسَمَّنِ وَاذْبَحُوهُ، وَلْنَأْكُلْ وَنَتَنَعَّمْ!" (لو 15 / 22 – 23). وَلِكَيْ نَتَأَكَّدَ أَيْضًا مِنْ أَنَّ مَسيرَتَنا الصَّوْمِيَّةَ تَسيرُ كَما يَجِبُ، بِحَسَبِ مَشيئَةِ اللهِ، فَنَتوبَ، وَنَتَحَوَّلَ وَنَتَجَدَّدَ وَنُتابِعَ مَسيرَتَنا الصَّوْمِيَّةَ نَحْوَ الحَياةِ الحَقيقِيَّةِ.
يُطِلُّ عَلَيْنا في الأَحَدِ الرّابِعِ مِنْ زَمَنِ الصَّوْمِ، إِنْجيلُ المُخَلَّعِ حَيْثُ نَرى إيمانَ الجَماعَةِ الّتي تَحْمِلُ المُخَلَّعَ وَتُصِرُّ عَلى إيصالِهِ إِلى المَسيحِ بِالرُّغْمِ مِنَ العَقَباتِ الّتي واجَهَتْها: " وَرَأى يَسوعُ إيمانَهُمْ، فَقالَ لِلْمُخَلَّعِ: "يا ابْني، مَغْفورَةٌ لَكَ خَطاياكَ!" (مر 2 / 5). هذِهِ هِيَ جَماعَتُنا الكَنَسِيَّةُ الّتي تُجاهِدُ في مَسيرَتِها الصَّوْمِيَّةِ وَتُساعِدُ بَعْضُها بَعْضًا لِكَيْ نَبْلُغَ جَميعًا الغايَةَ الّتي مِنْ أَجْلِها نَصومُ وَهِيَ أَنْ نَكونَ مَعَ المَسيحِ وَبِالمَسيحِ وَمِنْ أَجْلِ المَسيحِ.
في الأَحَدِ الأَخيرِ مِنْ زَمَنِ الصَّوْمِ، نَتَأَمَّلُ في إنْجيلِ الأَعْمى الّذي يَصْرُخُ مِنْ أَعْماقِ قَلْبِهِ، وَيَطْلُبُ رَحْمَةَ يَسوعَ، ابْنِ داودَ: " فَلَمّا سَمِعَ أَنَّهُ يَسوعُ النّاصِرِيُّ، بَدَأَ يَصْرُخُ وَيَقولُ: "يا يَسوعُ ابْنَ داودَ ارْحَمْني!" (مر 10 / 47). صَرْخَةُ الأَعْمى أَوْقَفَتْ يَسوعَ عَنْ مُتابَعَةِ سَيْرِه نَحْوَ أورَشَليمَ لِكَيْ يُحَقِّقَ مُسْبَقًا مَعَ الأَعْمى ما يَنْوي تَحْقيقَهُ في المَدينَةِ المُقَدَّسَةِ وَخُصوصًا عَلى الجُلْجُلَةِ. فَالمَسيحُ أَتى لِكَيْ يُظِهِرَ حُبَّ اللهِ لَنا، وَيُخَلِّصَنا، وَهذا ما فَعَلَهُ مَعَ الأَعْمى حَيْثُ كَشَفَ لَهُ رَحْمَةَ الآبِ وَأَعادَ إلَيْهِ النَّظَرَ، فَراحَ يَتْبَعُ يَسوعَ في الطَّريق.
تَنْتَهي مَسيرَةُ الصَّوْمِ الأَرْبَعينِيِّ الكَبيرِ، بِرتْبَةِ الوُصولِ إِلى الميناءِ الّتي نَحْتَفِلُ بِها مَساءَ أَحَدِ الشَّعانين. بَعْدَ الجِهادِ الّذي عِشْناهُ في الكَنيسَةِ وَمَعَها، وَحَقَّقْنا مَقاصِدَ صَوْمِنا. نَصِلُ إلى ميناءِ أُسْبوعِ الآلامِ لِنَغْطُسَ مَعَ يَسوعَ في مَسيرَةِ آلامِهِ الخَلاصِيَّةِ وَنَصِلَ مَعَهُ إِلى مَجْدِ القِيامَةِ.