روحانيّة المطران كميل زيدان: السعي الدائم للدخول في منطق الله وعيشه

روحانيّة المطران كميل زيدان:  السعي الدائم للدخول في منطق الله وعيشه

" وشيوخُ الكنيسةِ الّذينَ يُحسنون القِيامَ بعَمَلِهِم يَستَحِقّون إكرامًا مُضاعَفًا، وخصوصًا الّذين يَتعَبونَ في التبشيرِ والتّعليم" (1 طيم 5: 17). 

أمام الرغبةِ العميقةِ في التعبير عن الشكر والعرفان بالجميل لِمَنْ لهُ الفضلُ الكبيرُ عليكَ، تسقُطُ الكلماتُ وتصمُتُ الصُورُ وتبقى كلمةُ الله أفضلَ تعبيرٍ عمّا في داخلِك. هذا العمل الذي أقدّمه لكم اليوم يا صاحب السيادة، ليس سوى غيضٌ من فيض النِعم والمواهبِ التي اكتسبتُها مِنكم ومن روحانيّتِكم المميّزة. أن تتحدّثَ عن روحانيّة أبيكَ الروحيّ وراعيكَ الوديع ومدبّركَ الحكيم لَهُوَ أمرٌ صعبٌ جدًا. ولكن سأسمح لنفسي أن أغوصَ بها ولو قليلاً انطلاقا من هاتين السنتين اللتين قضيتُهما بقربِكم كأمينِ سرّكم الشخصيّ. 

إذا قرأنا عظاتِ المطران كميل زيدان السامي الإحترام وكلماتِه، نلاحظ مفتاحًا يجعلنا ندخلُ في غور هذه الروحانيّة الرائعة وهي كلمة منطق. سأحاول في البدايةِ أن أشرحَ بحسب رأيي الشخصيّ، الأسباب التي دفعتْ راعي الأبرشيّة أن يختارَ هذه الكلمة بالذات كمحورٍ لروحانيّتِه ثمّ سأتوسّع بالمواضيعِ الأساسيّةِ التي يتطرّقُ إليها في كلماتِه وعظاتِه: 

أوّلاً: تأثّرهُ الكبيرُ بروحانيّةِ القدّيس بولس الرسول: يميّز القدّيس بولس في العديدِ من رسائِله وبنوعٍ خاص في رسائله إلى أهل روما، أهل غلاطية والأولى إلى أهل قورنتس بين الإنسان الجسديّ والإنسان الروحيّ، بين منطق البشر ومنطق الله.  

ثانيًا: دراساته الفلسفيّة المعمّقة: من الكلماتِ المهمّةِ في الفلسفة هي كلمة منطق وهو علمٌ بحدّ ذاته وقد علّم راعي الأبرشيّة هذه المادّة في جامعة الروح القدس الكسليك. من دون أن ننسى أنّ فلسفة أحد أعظم الفلاسفة على مرّ التاريخ وهو أفلاطون مبنيّة على ثنائيّة العالَمين: العالمُ الأوّل المحسوس المحدود، عالمُ البشر والعالمُ اللامحسوس الحقيقيّ الذي فيه المُثُل والمعرفة. 

ثالثًا: شغفه الكبير بالرياضيّات: في مقابلته مع طلاّب مدرسة مار يوسف قرنة شهوان السنة الماضية، أفصحَ المطران كميل إنّه كان من الأوائل في صفّه في المدرسة وخصوصًا في مادّة الرياضيّات، وحتّى اليوم، يتعامل بسهولةٍ مع الأرقام بالإضافة إلى سعةِ معرفتِهِ بعلمِ الهندسة. من هنا نفهم لماذا تتسربلُ عظاته بطرقٍ منطقيّةٍ بعيدًا عن الارتجال والكلام العاطفي الفارغ. كما نلاحظ استخدام صاحب السيادة لكلماتٍ مرتبطة مباشرة باللغة العلميّة منها: الحسابات (الرياضيات)، البوصلة والمعيار (الجغرافيا)، الأفق البعيد والأبعد (الهندسة). تجدر الإشارة إلى استخدامه المكثّف للأسلوب الاستنتاجي في العديد من كلماته: إذا... فلا، لذلك...

رابعًا: محبّتُه للقطيعِ الموكلِ إليه وقدرتُه بقوّةِ الله على قراءةِ وتمييزِ علامات الأزمنة: من الأمورِ المميّزةِ التي يجب أن يتحلّى بها راعي القطيع هي القدرة على رؤية المخاطرِ والتجاربِ التي تهدّدُ الخراف ومساعدتهم وإرشادِهم لتجنّبِها. من هنا، يُظهر المطران كميل في عظاتِه مغريات العالم التي تنتشر أكثر فأكثر في قلب العالم والتي تبعده عن منطق الله الذي تدعونا كلمة الله إلى اتباعه. 


إنطلاقًا من هذا المفتاح والأسباب التي أدّت إلى اختياره، سنقرأ خمسَ عشرة موضوعًا مهمًّا في روحانيّة المطران كميل زيدان: 

الموضوع الأوّل: "كلمة الله هي النور والمصباح للدخول في منطق الله"

من المواضيع الأساسيّة في روحانيّة المطران كميل هي كلمة الله. فكلام الرب هو المقياس والمرجع لكلّ إنسانٍ مسيحيّ، فالمؤمن الحقيقيّ هو الذي يصغي إلى كلمة الرب، يفتح أذنه، فكره وقلبه عليها. ولا يكتفي فقط بالإصغاء إليها بل يلتزم بها ويعمل بموجبها. من هنا سؤالٌ يحبّ راعي الأبرشيّة أن يطرحه دائمًا على نفسه وعلى المؤمنين: "إذا كان المسيح مكاني في هذا الظرف بالذات الذي أعيشه، ماذا كان فعل؟" وعندما أجيب على هذا السؤال، أجعل ضميري متيقظًا لأنّه يحكم على الأمورِ التي تعترضُ حياتي في ضوءِ كلام الله. 

من جهةٍ أخرى، من المخاطرِ التي يحذّرُنا منها راعي الأبرشيّة في قراءة الكتاب المقدّس هو الكبرياء أي أن نظنّ أنّنا أهمّ من كلمة الله، ننصّب أنفسنا مكانها، قيّمين عليها، وندّعي أنّنا نفهَمُها أكثر من كلّ الناس. بدل أن نصغي إلى كلمةِ الله ونلتمس الأنوار لنفقه ما تقوله لنا، نضع في كلمة الله الأمورَ التي نريدُها نحن، أي إنّنا نفسّر كلمة الله بحسب مصلحتِنا ونظرتنا وأهوائنا. عندها، بدل أن تقول كلمة الله لنا شيئًا في حياتنا، نعكس عليها تطلعاتِنا ومشاكلِنا ورغباتِنا.  

كلمةُ الله بحسب راعي الأبرشيّة ليست كلمةٌ ميتةٌ بل هي كلمةٌ موجهّة لكلّ واحدٍ وواحدةٍ منّا تطالُ حياتَهُ فيما يؤول إلى خلاصِه، من هنا أهميّة التمسّك بها كمقياس لحياتنا ولجماعتنا المسيحيّة لأنّها تساعدنا على الانتقال من منطق العالم إلى منطق الله الذي هو حياةٌ وسلامٌ وفرح. دعوة المطران كميل هي لنكون هذه الأرض الجيّدة التي تحلّ فيها كلمة الله فتعطي ثمارًا ونكون شهودًا لها أينما كنّا. 


الموضوع الثاني: الإيمانُ: "ينظر المؤمنُ إلى الأفق البعيدِ من خلال منطقَ الله وحقيقةَ السماء" 

المصدرُ الأساسيّ والوحيدُ لإيمانِنا لا يأتي من أقوالِ الناس أو ما يتفقونَ عليه بل من الله وحدَه. وبما أنّ الله هو مصدر الإيمان، فالإيمان يدعونا لنفتح عيون قلبنا على حقيقة حضوره في حياتنا فنتكلَّ عليه ولا يعودُ شيءٌ مستحيلٌ بالنسبة إلينا. المؤمنُ الحقيقيّ يقرأ الأحداثَ التي يعيشها بنظرةٍ إيمانيّة، في الإصغاء إلى إلهامات الروح القدس. 

الايمان، بالنسبة للمطران كميل، لا يكتمل إذا كنّا فقط نريد الأمور الحسيّة أي أن نقيس الأمور انطلاقًا من منطقنا ومقاييسنا البشريّة، فهو يجعل من الإنسان أهمّ وأبعد وأكبر ممّا هو جسديٌّ فيه، فلا يعيش لذاته بل للربّ يسوع ويرى وجهه من خلال الآخرين. عندئذٍ يستطيع أن يتخطّى حاجات كلّ يومٍ فيسعى إلى نشر ملكوت الله. 

سأتوقف هنا عند مقطعينِ عزيزينِ على قلب راعي الأبرشيّة من رسائل القدّيس بولس ويكرّرهما دائمًا في عظاته عن الإيمان: 

المقطع الأوّل: " لقد صلبتُ مع المسيح، فلَسْتُ بَعْدُ أَنَا الحَيّ، بَلِ الـمَسِيحُ هُوَ الْحَيُّ فِيَّ" (غل 19:2 -20). 

بما أنّ المؤمن الحقيقي هو غصنٌ ملتصقٌ بالكرمة، بالمسيح يسوع الذي منه يستمدّ الحياة، لا تعود حياته هي الأساس بل حياة المسيح فيه لذلك تكثر الثمار والأعمال القديرة التي يقوم بها الله من خلاله وهذا ما نراه جليًّا في حياة القدّيسين. 

المقطع الثاني: " إِذَا كَانَ اللهُ مَعَنَا، فَمَنْ عَلَيْنَا؟ ... مَنْ يَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ الـمَسِيح؟ أَضِيقٌ، أَمْ شِدَّةٌ، أَمِ اضْطِهَادٌ، أَمْ جُوعٌ، أَمْ عُرْيٌ، أَمْ خَطَرٌ، أَمْ سَيْف؟ ...  فإِنِّي لَوَاثِقٌ أَنَّهُ لا مَوْتَ ولا حَيَاة، ولا ملائِكَةَ ولا رِئَاسَات، ولا حَاضِرَ ولا مُسْتَقْبَل، ولا قُوَّات، ولا عُلْوَ ولا عُمْق، ولا أَيَّ خَلِيقَةٍ أُخْرَى تقْدِرُ أَنْ تَفْصِلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ اللهِ الَّتي في الـمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا (رو 8: 31-39). 

الإيمانُ يمنحُ المؤمنَ الشجاعةَ للدفاعِ عن إيمانِه، فهو يخضع لله وحده ولا يهابُ إلّا الله. يدركُ المؤمنُ بعمقِ كيانِه، أنّ المسيح هو المثال الأعلى لحياة كلِّ إنسان، وهو مستعدّ من أجلِهِ أن يضحّيَ بحياته على مثال معلّمه فيصبح شريكًا في الفداء على خطى الشهداء المسيحيّين. 

من جهةٍ أخرى، صحيحٌ أنّ للإيمانِ بعدٌ شخصيٌّ ولكنّ له في الوقت نفسه بعدٌ جماعيٌ يجب علينا أن نعلنَه ونحتفلَ به في قلب الجماعةِ المؤمنة أي في الكنيسة. والجماعة المؤمنةُ تساعد المؤمنَ على الثبات في الإيمان والمحافظة عليه في وجهِ التحديات والصعوبات. من هنا، بالنسبة لراعي الأبرشيّة أهميّة فحص الضمير ومراجعة الذات: أين نحنُ من مسيرتنا الإيمانيّة؟ هل نحنُ نتقدّمُ في علاقتنا مع الرب ومع إخوتنا أم أنّنا نتراجع؟ 


الموضوع الثالث: المحبّة "في النهاية، سنُدان بمنطق المحبة" 

ينطلقُ راعي الأبرشيّة من حقيقةَ أنّ " الله أحبّنا أوّلًا" (1 يو4: 20) وينتظرُ منّا أن نبادَله هذا الحبّ. وإذا دخلنا في مبادلةِ الحبّ، لا نستطيعُ أن نبقى في مكانِنا، بل ننطلقُ نحو الآخرين كي نعبّر لهم عن هذه المحبّة. فالإيمانُ بالله يكتملُ بالأعمال أيّ بخدمةِ المحتاج والمريض وكلِّ الذين نبذهُم المجتمع. من هنا أهميّة التمرّس على محبّةِ القريب لأنّنا إذا لم نفعل ذلكْ، فلن ينفتح فكرنا وقلبنا على حاجة الإنسان البعيد ولن نستطيع الإنطلاق إلى الأطراف كما يدعونا إلى ذلك البابا فرنسيس. 

من أجل الغوص في روحانيّة المطران كميل زيدان بشأنِ المحبّة، سنتوقّف على ثلاثة نصوص يركّز عليها راعي الأبرشيّة: 

النص الأوّل: مثلُ السامري الصالح (لو 10: 25-37). بالنسبة للمطران كميل، لم يستطعْ اللاوي وعالمُ التوراة أن يتخطّيا منطق الشريعة والعدالة فينظرا إلى حاجة الانسان التي لها الأولويّة قبل الأنظمة والحسابات الصغيرة. لقد أسكتا ضميرهما وأقفلا إمكانيّة المحبّة التي بداخلهما. أمّا السامري الصالح التي كانت عيناه منفتحةً على حاجة الآخر، رأى الرجل المتألّم وعاملُه بالرحمة. وهذه الرحمة تجلّت خصوصًا من خلال المتابعة: "وقال لَهُ: إِعْتَنِ بِهِ، وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ فَأَنَا أُوفِيكَ عِنْدَ عَوْدَتي" (لو 10: 35)، فالمحبة لا تعرف وقتًا ولا حدودًا. 

النص الثاني: مثلُ الغني ولعازر (لو 16: 19- 31). بالرغم من أنّ لعازر المسكين كان مُلقى على باب الغني، ولكنّ هذا الأخير لم يشعر بوجودِه. بالنسبة لراعي الأبرشيّة، لن نرى وجه المسيح في الآخر، إذا بقينا قابعين في أنانيّتنا ولامبالاتنا، وفي البحث المفرط عن كلّ ما هو زائلٌ، وإذا ما تناسينا دعوة المسيح لنبذل ذواتنا في سبيل الآخرين. 

النص الثالث: الدينونة العظمى (مت 25: 31-46). المقياس الأساسي للدينونة هو عمل الخير، فوجه الله قد تماهى مع وجه الإنسان الذي هو إلى جانبنا لاسيّما الإنسان الضعيف والمحتاج. دعوة المطران كميل هي أن نترجم إيماننا بسلوكيّات حياتنا، بممارسات يوميّة بديهيّة وصغيرة، فنضع قدراتنا الجسديّة والماليّة والفكريّة في خدمةِ الأكثرِ حاجة. 

انطلاقًا من هذه الأفكار المميّزة، نستنتج أنّ المشكلة التي تهدّد محبّتنا بحسب المطران كميل هي ألّا نعود قادرين أن نرى وجه الله في الإنسان مهما كان وضع هذا الانسان، فلا نعود نجسّد حضوره ومحبّته من خلال محبّة القريب. من هنا أهميّة أن نطبّق وصيّة المسيح: "أحبّوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم" (يو 13: 34) أي أن يبقى مقياس محبّتنا هو الله وليس محدوديّتنا، فلا نخاف لأنّ "الله ما أعطانا روح الخوف بل روح القوّة والمحبّة والفطنة" (2 تي 1: 7). 


الموضوع الرابع: للكنيسة "هدفٌ واحد ومنطقٌ واحد، بنيان جسد المسيح" 

بحكم مرافقته لمعظم مشاريع بناء الكنائس والصالات الرعويّة، للمطران كميل خبرة كبيرة في بناء الحجر. ولكنّه لطالما ردّد على مسامعِ المؤمنين: بناءُ البشرِ ثمّ بناءُ الحجر، لأنَّ بناء الحجر هدفُه البشر والحجرُ بدون البشرِ لا معنى له. هدفُ الكنيسة والقاعةُ الرعويّة أن يجتمع فيهما كلّ أبناء وبنات الرعيّة كي يتعاضدوا ويتساندوا ويعاون الواحدُ الآخر في سعيهم إلى الكمال. عندها يرمزُ الحجر لبناء الجماعةِ كحجارةٍ حيّةٍ في بناء هيكل الله، ولبركة الله على سخاءِ المؤمنين. من هنا وصيّة القدّيس بولس التي يحبّ راعي الأبرشيّة أن يكرّرها على مسامع المؤمنين: " فَلِذلِكَ شَجِّعُوا بَعضُكُم بَعْضًا، وَلْيَبْنِ الوَاحِدُ الآخَر، كَمَا أَنْتُم فَاعِلُون" (1 تس5: 11). 

من جهةٍ أخرى، يشدّد راعي الأبرشيّة في شرحه لنص الكرمة والأغصان في إنجيل يوحنّا في الفصل الخامس عشر، ونص الجسد والأعضاء في رسالة القدّيس بولس لأهل قورنتس في الفصل الثاني عشر، على أهميّةِ ثبات المؤمنينَ في المسيح الكرمة، متضامنين بعضهم مع بعض، بعيدًا عن التنافر وتهديم سمعة الآخر حتّى يستطيعوا أن يثمروا ثمارًا حقيقيةً ترضي قلب الربّ، فيساهموا في بنيان جسد المسيح. 


الموضوع الخامس: الصليب والألم "حمل الصليب هو السبيل لفهم منطق الله"

"المجد الحقيقي هو في الصليب وليس في مكانٍ آخر، ولا يستطيع أحدٌ أن يكتشفَ مجد الصليب إلّا إذا كان مؤمنًا حقًّا". يركّز راعي الأبرشيّة لاسيّما في عيد ارتفاع الصليب أنّ الله يتمجّد بالإنسان الذي يحقّق الإنسانيّة فيه. ولا يستطيع الإنسان أن يصلَ إلى ملءِ إنسانيّتِه إلّا عندما يتخطّى ذاته ويخرج من أنانيّتِه ويحمل صليبَه فيصبح قادرًا على العطاء والإهتمام بالآخر. وفي هذا الموضوع بالذات، تظهرُ روحانيّة المطران كميل بأبهى حللها في حديثه عن الإنسان المتألّم. ينطلق راعي الأبرشيّة من الفصل التاسع من إنجيل يوحنّا الذي يتحدث عن الأعمى منذ ولادتِه، فيظهر كيف أعطى المسيح معنىً جديدًا لاختبار الألم لأنّه وراء كلّ ذلك، عملٌ يُمَجَّد الله من خلاله. يُمَجَّد الله بقدر ما يكون العذابُ والموتُ شهادةً لمحبّة الله، وبذلاً للذاتِ في سبيل من نحبّ، وخلاصًا للبشر. 

المؤمنُ الذي يعاني الآلام لا يدَعْ صليبَه يسحقُه بل يعرفُ كيف يتخطّى ذاته ومحدوديّته لينفتح فكره على حاجة الآخرِ فيشارك بصليبه في خلاص الآخر. الألم في عين البشر أمرٌ مكروهٌ ومرفوضٌ ولكنّه قد يكون لكبارِ النفوسِ طريقًا إلى حريّتهم وحريّة الآخرين. 

ويبقى النص الأحبّ على قلب راعي الأبرشيّة في هذا الموضوع هو مثل حبّة القمح الذي أراد المسيح، من خلاله أن يعلّمنا أنّ مسيرة المؤمن الحقيقيّة لا تصحّ إلّا بالصليب. هناك يتخطّى الانسان ذاته ليتماهى مع المسيح ليصبح صورةً حقيقيةً له.


الموضوع السادس: القيامة " منطق القيامة هو منطق السلام والثقة بالرب" 

القيامة هي أساسُ إيماننا، لذلك ليس هناكَ حياةٌ مسيحيّة ولا إيمانٌ مسيحيّ ولا معنى لكلّ ما نقوم به من دون حدثِ القيامة. من هنا، يشدّد راعي الأبرشيّة أنّ حدث القيامة يطال حياة كلّ واحدٍ وواحدةٍ منّا. فإذا لم يغيّر حدث القيامة شيئًا في حياتنا، فلن نكون أهلًا أن نُدعى أبناء وبنات القيامة. ما هي مفاعيلها إذًا بالنسبة إلينا؟ 

أوّلًا: القيامة هي سلام لأننا مدعوون كأبناء وبنات القيامة ان نعيش المصالحة أي أن نعيش السلام مع ذواتنا، مع الآخر ومع الله. عندها تصبح القيامة حدثًا يغيّر في مجرى حياتنا نحن المؤمنين.

ثانيًا: القيامة هي ثقة بمواعيد الربّ. نحن نؤمن أنّه مهما كان الحجر كبيرٌ في حياتنا، فهناك قدرةٌ لزحزحته لأنّنا نؤمن أنّ لا شيء مستحيلٌ عند الله. فبالرغم من كلّ شيء، نحن نؤمن أنّ قدرة الله ومنطقه حاضرٌ في حياتنا وأنّه مهما كان القبر مظلمًا، سيُدحرج الحجر في النهاية. لذلك، لا داعي للخوف والإحباط، لاسيّما أمام الألم والموت. لنكن على قلبٍ واحدٍ وفكرٍ واحد، على قلب المسيح وفكره، فالمسيح قد قام وانتصر على الموت وهو معنا ليقيمنا معه. 

إذًا، بالنسبة للمطران كميل، لقد أعطانا المسيح بقيامته فهمًا جديدًا لحياتنا، قدرةً قادرة أنّ تحوّل كلّ شيءٍ لخيرنا، إذا عرفنا أن نقبل هذه القدرة في حياتنا. 


الموضوع السابع: الحريّة "الحريّة هي منطق رجل الله وفضيلته" 

أرادنا المسيح أحرارًا، والحريّة الحقيقيّة هي أن نعيش بتناغمٍ مع إرادة الرب. ولذلك، عندما علّمنا المسيح أن نصلّي، من الطلبات الأساسيّة التي ذكرها هي: لتكن مشيئتكَ أي أن تنسجم إرادتنا مع إرادة الرب. ولكنّ هذه الحريّة معرّضةٌ دائمًا أن تُكبّل بسلاسل الخطيئة، من هنا يشدّد راعي الأبرشيّة على ضرورة بناء الحريّة. ولكن كيف تُبنى حريتنا؟ تُبنى في الحوار مع الله، بواسطة الضمير النقيّ. فالمسيحيّ الذي لا يعرف التكلّم مع الله، ولا يعرف الإصغاء لله في مخدع ضميره، لن يذوق طعم الحريّة الحقّة! أن أصغي لصوت ضميري لا يعني أن أتبع "الأنا"، وأن أفعل ما يناسبني، وما أحب... الضمير النقيّ هو الفسحة الداخليّة حيث يصغي المرء لصوت الحقيقة والخير، لصوت الله؛ إنه المكان الباطني حيث يكلّم الله قلبي ويساعدني على التميِّيز وعلى الأمانة لحبّه ووصاياه. مستقيمُ الضمير، لا يخشى مقاومة الإنحرافات التي تسود المجتمع! 

وكي نكون أحرارًا يجب أن نعيش بنوّتنا للآب على مثال الإبن الوحيد يسوع المسيح. يدعونا راعي الأبرشيّة أن نتنبّه إلى التجارب الثلاثة التي جُرّبَ بها المسيح والتي نحن معُرّضين أن نقع فيها في أيّ لحظة: أوّلًا: تجربة الجسد وحبّ البقاء والامتلاك: "إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ قُلْ كَلِمَةً فَتَصِيرَ هـذِهِ الـحِجَارَةُ أَرْغِفَة" (مت 4: 3)؛ ثانيًا: تجربة حبّ الشهرة والنجاح السهل: "إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَأَلْقِ بِنَفْسِكَ إِلى الأَسْفَل، لأَنَّهُ مَكْتُوب: يُوصِي مَلائِكتَهُ  بِكَ فَيَحْمِلُونَكَ عَلى أَيْدِيهِم، لِئَلاَّ تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ" (مت 4: 6)؛ وثالثًا: تجربة السلطة وحبّ المراكز: "أُعْطِيكَ هذَا كُلَّهُ إِنْ جَثَوْتَ لي سَاجِدًا" (مت 4: 9). 

مسيرة الحياة، لاسيّما مسيرة الصوم، هي حتّى يصبحَ كلّ واحدٍ منّا قادرًا على التمييز بوضوح بين إرادة الله وتجربة الشرّ. وحتّى لا نقع في التجربة يجب أن نتسلّح بقوّة الله لاسيّما بواسطة الصوم والصدقة والصلاة. من هنا دعوة راعي الأبرشيّة لكلّ واحدٍ منّا: "قاوم، لا تتكاسل، ولا تتهاون بالتعاطي مع التجارب". 


الموضوع الثامن: أمّنا مريم العذراء " منطق العذراء هو إفعلوا ما يأمركم به" 
وصيّةُ راعي الأبرشيّة في رتبةِ الإكليل للمتزوجين هي نفسها وصيّة العذراء مريم للخدم في عرس قانا الجليل: "إفعلوا ما يأمركم به" (يو 2: 5). مريم هي الساهرة على حاجاتنا كي لا نفقد الفرح الحقيقي، وهي تقودنا دائمًا إلى مصدر فرحنا، إلى ابنها يسوع المسيح، لكي نحقّق إرادته ومشيئته في حياتنا. فإذا أرادت العائلة أن يبقى حبّها ويثبت إلى الأبد وأن يكون مسيحيًّا حقيقيًّا، عليها أن تجعل المسيح حاضرًا في وسطها. 
من جهةٍ أخرى من الألقاب العزيزة على قلب راعي الأبرشيّة لأمّنا مريم العذراء هي سلطانة السلام: "الأهمّ من أن نستجدي من مريم السلام، أو أن نطلب السلام، هو أن نصلّي طالبين شفاعتها حتى نبدأ نحن أيضًا في عيش حضور الله بعمقٍ فينا فيحلّ السلام". وأمّ المراحم: " نستنير بوجه مريم، أمّ المراحم، التي بقولها في حدث البشارة ها أنذا أمةُ الرب فليكن لي بحسبِ قولِكَ، حملت إلينا رحمة الآب، وأعطتنا نهجاً في الحياة إذا أردنا أن نصير رحماء كالآب. إستسلام مريم لإرادة الرب لم يجعلها فقط رحيمةً بل أمّ المراحم".

الموضوع التاسع: الروح القدس "الروح القدس زارع منطق الله فينا" 
بالنسبة لراعي الأبرشيّة، في عيد العنصرة، عيد حلول الروح القدس، أربعِ دعوات أساسيّة: 
أوّلًا: العنصرة دعوةٌ لأن ننبذَ الكبرياءَ فينا ونعيشَ التواضع ونقبلَ روح الربّ، فالإنسان بكبريائِه لا يستطيعُ أن يقبل روحَ الله. وهنا يقارن راعي الأبرشيّة في عظاته بين حدث برج بابل في سفر التكوين وحدث العنصرة، بين كبرياء الإنسان الذي لا يرى إلّا ذاته وبين جماعة الرسل التي توحّدت حول المسيح بقوّة الروح. الذي يوحّد هو روح الله، وبقدر ما يكون قلبنا صافٍ وذهننا مصغٍ لإلهامات الروح، نساهم في نموّ الكنيسةَ على حسب قلبِ الربّ. 
ثانيًا: العنصرة دعوةٌ لكي نتذكر عمادنا أي أنّنا جميعنا قبلنا الروح القدس وهو معنا ويقيم فينا. من هنا سؤال المطران كميل على نفسه وعلى المؤمنين: ماذا فعلنا بعطيّة الروح التي قبلناها في سرَّي العماد والتثبيت؟
ثالثًا: العنصرة دعوةٌ لنعيش وصيّة القديّس بولس الرسول التي يحبّ المطران كميل أن يكرّرها على مسامعِنا: "لا تُطْفِئُوا الرُّوح" (1تس 5: 19). الشعلة التي يشعلها الروحُ في قلبِ الإنسان وفي قلب الجماعة، على الكنيسة أن تشجّعَها وتنمّيَها كي تبقى مشتعلةً ومضيئةً لا أن تُطفئَها. 
رابعًا: العنصرة دعوةٌ لنَعي أكثر أنّ بشارة الإنجيل موجهةٌ لجميع الناس دونَ استثناءٍ، لا فرق بين يهودي ووثني، فالجميع مدعوون وقادرون أن يسمعوا كلام الرب. عند حلول الروح القدس عليهم، بدأ التلاميذ يتكلمون بلغاتِ جميع البشر ويشهدون للمسيح فالشهادة الحقيقيّة هي عندما نصبح لسنا نحنُ المتكلّمين، بل روح الله المتكلّم فينا.

الموضوع العاشر: الزواج والعائلة "معًا لاكتشاف منطق الله وعيش إرادته في قلب عائلتنا" 
"لا خوف على العائلة ما دام المسيح حاضرٌ فيها"! هذا ما يركّز عليه راعي الأبرشيّة في عظاته لاسيّما في سرّ الزواج المقدّس. فقد وضع العائلة كأولويّة في خدمته الأسقفيّة ويسعى بالتعاون مع المسؤولين عن مكتب الزواج والعائلة لتأمين أفضل إعدادٍ للذين يريدون التقدّم من سرّ الزواج ومراكز إصغاء لمن يواجهون الصعوبات في حياتهم الزوجيّة. 
من هنا، سننطلق من نصيّن يحبّ راعي الأبرشيّة التأمّل بهما في رتبة الإكليل لنكتشف روحانيّته في موضوع الزواج والعائلة: 
النص الأوّل: الخضوع بتقوى المسيح (أف 5: 21-33) وفي هذا النص ثلاثة أفكارٍ أساسيّةٍ يركّز عليها راعي الأبرشيّة: 
الفكرة الأولى: " ليخضع بعضكم لبعضٍ بتقوى المسيح" (أف 5: 21) أي أنّ المقياس الذي يحكم العلاقةَ بين المؤمنين والمؤمنات هي كلمة الله، وإذا كانت هذه الكلمة حاضرة فعلاً في العائلة، فلا خوف عليها. فبالنسبة لراعي الأبرشيّة، إذا كانت بركة الله موجودة في العائلة، فلا خوف على العائلة مهما كانت العواصف قويّةً، فالعروسان يبنيان عندها بيتهما على الصخرة، على الربّ يسوع. 
الفكرة الثانية: "فَلِذلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وأُمَّهُ، ويَلْزَمُ امْرَأَتَهُ، فيَصِيرُ الاثْنَانِ جَسَدًا وَاحِدًا" (أف 5: 31). الربّ يذكرنا بأنّ العروسان يصبحان جسدًا واحدًا ليس بالمعنى الفيزيولوجي بل بالمعنى الكتابي أي أنّ الاثنان يصبحان في تفكيرٍ واحد، وروحٍ واحد، ولهم هدفٌ واحد. لذلك عندما يقول القديس بولس أنّنا أعضاءٌ في جسد المسيح، هذا لا يعني أنّنا أعضاءٌ بالمعنى الفيزيولوجي بل إنّنا تبنيّنا تعليم المسيح وكلمته وروحه وبذلك تتحقّق الوحدة. 
الفكرة الثالثة: " إِنَّ هذَا السِّرَّ لَعَظِيم. وإِنِّي أَقُولُ هذَا بِالنَّظَرِ إِلى المَسِيحِ والكَنِيسَة" (أف 5: 32). سرّ الاكليل هو سرٌّ عظيم، سرّ علاقة المسيح بالكنيسة. ويشرح المطران كميل انطلاقًا من القدّيس بولس جوهر هذه العلاقة كيف تأسّست الكنيسة بموت المسيح على الصليب وقيامته من بين الأموات. فَليس الموضوع في تحديد من هو صاحب السلطة، الأساس هو في عيش حبٍّ يضحّي ويبذل ذاته من أجل الآخر. وكلمة المسيح عن هذا الحبّ واضحة: " ما من حب أعظم من أن يبذل الانسان نفسه من أجل أحبّائه" (يو 15: 13). مشروع الزوجين يجب أن يكون على هذا المستوى من العلاقة طوال أيّام حياتهما. المسيح يذكّرنا أنّ لا حياة ولا سلام ولا فرح في الحياة إلا بقدر ما يضحّي الواحد من أجل الآخر، فالفردانيّة التي تسود اليوم في عالمِنا هي طريقٌ لهلاك الفرد والمجتمع وتشتّت العائلة. 
النص الثاني عرس قانا الجليل (يو 2: 1-12). فكرتان أساسيّتان يشدّد عليهما راعي الأبرشيّة: 
الفكرة الأولى: الحبّ الحقيقي الذي يدوم إلى الأبد لا بدّ أن يكون من الله. يجتمع شابٌ وصبيّة لأنّ ظروف الحياة تجمعهما، ويتفاهمان على العلاقة مع بعضهما، ولكنّ هذه العلاقة لن تدوم إلى الأبد إلّا إذا كانتْ هناك قوّةٌ أخرى تجعلها تدوم لأنّ الانسان كما تكلّم رئيس المتكأ له منطق مختلف عن منطق الله. رئيس المتكأ قال للعريس: " إنّ الناس يقدّمون الخمر الجيّد أوّلًا ومتى سَكِرَ المدعوون يقدّمُ الأقلّ جودةً" (يو 2: 10). هذا منطق البشر الذي فيه الكثير من الغش والاحتيال. أمّا منطق الله فيختلف كليًّا، بمنطق الله يتحوّل الماء إلى خمرٍ جيّدةٍ، جيّدة. والمسيح، كما في قانا الجليل، هو قادرٌ أن يحوّل تفاصيل حياة العائلة، حتّى التافهة منها، إلى خمرةٍ جيّدةٍ.
الفكرة الثانية: بقدر ما تتردّد في بيت العروسين وصيّة العذراء "إفعلوا ما يأمركم به" (يو2: 5)، بقدر ما تصفو المحبة بينهما. على العائلة أن تكون مستعدّة دائمًا لتأتي إلى المسيح وتسمع كلامه، فهناك تجد البوصلة الحقيقيّة لحياتها، فلكي تُكْمِل المسيرة معًا ويبقى الفرح فيها، هي بحاجة دائمًا إلى التوبة، فلا مجال لحياةٍ فيها فرحٌ وسلامٌ بدون مصالحةٍ وتوبة. إستشهد راعي الأبرشيّة في إحدى عظاته بخبرةٍ أخبره عنها المثلّث الرحمة المطران الياس فرح الذي كان كلّما أتتْ إليه عائلةٌ وفيها صعوباتٌ ومشاكلٌ ويفكّرون بالإنفصال، كان يقول لهم: " يا ابني، يا ابنتي، قبل أن نتكلّم معًا، لندخلْ إلى الكنيسة ونصلّي معًا فيفحصَ كلّ منكم ضميرَه ويتقدّم إلى سرّ التوبة وبعد ذلك نتحدّثُ بالباقي". وكان في أكثر الأحيان عندما يعود كلّ واحدٍ إلى ذاته، أمام ضميره وأمام الله ويعترف بضعفه وخطاياه، تُحلّ المشاكلُ بأكثرِها. 

الموضوع الحادي عشر: التربية " التربية على منطق الله منذ الصغر، كالنقش على الحجر"
‭" كثيرون يقولونَ لي أن لخريجي مدرسة مار يوسف شخصيّة مميّزة، وهذا أمرٌ ضروري‭. ‬المطلوب أن يسعى تلاميذ مدرسة مار يوسف إلى تنمية شخصيّة متكاملة إنسانيّاً وفكريّاً وروحيّاً، لها حضورها إجتماعيّاً ووطنيّاً وكنسيّاً؛ وإثبات الوجود يكون أوّلاً من خلال الإهتمام بالضعيف، واحترام الآخر، والمحبة والحفاظ على الخير العام". لا شكّ، أنّ موضوع التربية يأخذ حيّزًا كبيرًا من فكر المطران كميل وروحانيّته. كيف لا، وهو المربّي بامتياز، مخرّج الأجيال الكثيرة، لاسيّما في مدرسة مار يوسف قرنة شهوان التي ترأّس إدارتها لسنين طويلة. لقد شاءت العناية أن يُولد في عيد المعلّم وأن تعيش الأمانة العامة للمدارس الكاثوليكيّة عصرها الذهبيّ في زمن خدمته فيها كأمينٍ عام.  ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
"ليست المدرسة مكانًا فقط للتعلّم، بل هي أوّلًا احتضانٌ، تربيةٌ، نموٌّ للإنسان بكلّ أبعادِه وليس فقط بفكرِه. ليست المدرسة لتوزّع معلوماتٍ فقط، هي لتربّي على القيم والعطاء، وليكون كلّ إنسانٍ يتخرّج منها، إنسانٌ من أجل الآخر، وليس من أجل ذاته". هذا هو الهدف الأوّل والأخير للعمل التربوي. ولطالما كانت كلمة راعي الأبرشيّة في حفلات تخرّج مدارس الأبرشيّة ملهمةً للطلّاب، لكي يشقّوا طريقهم بنجاحٍ في ميادين الحياة. وكم يفخرُ بهم عند رؤيتهم بعد فترةٍ، روّادًا للعلم والمعرفة في المجتمع اللبناني والدولي. 
ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، دعا المطران كميل في عظاته للأساتذة، للتحلّي بالفضائل الإنسانيّة والروحيّة ومنها: الروحانيّة النقيّة، التنبّه إلى الشكوك، المحبة في الحقيقة، الحزم والامتناع عن الأذى، الصدق، الثقة والقناعة والاحترام والتواضع. كما دعا الأهل إلى تحمّل مسؤوليّاتهم تجاه أولادهم، فالهيئة التعليميّة في المدرسة ليستْ أوّل من تؤدّب وتعلّم وتربّي بل العائلة. دورُ المدرسة أن تكمّل العائلة وألّا تحلّ مكانها.
وكم جرحتِ المشاكل التي يعاني منها القطاع التربوي اليوم في لبنان قلبَه الغيور على التربية ومصلحة الطلّاب ولكن بالرغم من ذلك، ظلّ يضع إصبعه على الجرح الذي يسبّب نزفًا في هذا القطاع محاولًا أن يداويه بخبرته وبقوّة الله: " المشكلة عندما لا يفكّر كلّ مُكوّنٍ للأسرةِ التربويّة إلّا بذاته. في هذه الحال، تتفكّكُ مكوّناتُ الأسرةِ التربويّةِ كما في برجِ بابل! لا أحد يفهم على الآخر، ويَتّهم الواحد الآخر، ويشوّه الواحد سمعةَ الآخر، ولن يبقى إلّا برجًا متروكًا، مُهدّمًا. يجب أن يبقى التلميذ فعلاً، وليس فقط بالقول، محور تفكيرِ مكوّنات الأسرة التربويّة! أن يكون الولدُ وتربيته قيمةً تجمعنا وتشدّنا، كما يجمع الولد الأهل في العائلةِ بحبّهم وعطائهم وتضحيتِهم". 
الحلّ بالنسبة للمطران كميل، هو في تضامن مكوّنات الأسرة التربويّة، لتبقى عائلةً تتخطّى أنانيّاتها، وتساهم في تأمين الجوّ السليم لنموّ الزرع في كرم التربية. 
رسالة المطران كميل واضحةً وضوح الشمس في قلب الأزمة التي نعيشها: "بالرغم من كلّ الصعوبات، نحن ماضون في الرسالةِ حتّى النهاية، ومهما كانتِ التحديّات. من لا يريدُ أن يكون شريكاً، فهذه مشيئتُه! لن يثنينا ذلكَ عن متابعةِ الرسالة، والبناءِ المُحكم". 

الموضوع الثاني عشر: البيئة "واقع البيئة صراعٌ بين منطق الله وكبرياء الانسان" 
"أُحبّ رياضة المشي في الطبيعة لأنّ الطبيعة تُعتَبر ملاذاً للإنسان الذي عليه أن يحميها لأنّها هي تحميه. ‬‬‬‬‬الطبيعة جميلة، فأنا أقول لكلّ انسانٍ، إذا أردت أن تتصالحَ مع ذاتك ومع الآخرين يجب أن تتصالح أوّلاً مع الطبيعة، لأنّها تعطينا هدوءً وسلاماً وتفتح أمامنا الآفاق الواسعة وفرصاً لتمجيد الله. ‬هذه الهواية قديمة وتطوّرت عندي منذ سنيّ الجامعة". هذا ما عبّر عنه راعي الأبرشيّة في مقابلته مع بعضٍ من تلاميذ مدرسة مار يوسف قرنة شهوان. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬موضوع البيئة له حيّزٌ مهمّ في روحانيّة المطران كميل زيدان وهو يسعى بكلّ الطرق الممكنة للمحافظة على الطبيعة وتربية أبناء الأبرشية على محبّتها وحمايتها: " نحن مسؤولون الى حدّ بعيدٍ عن سلامة البيئة وخلاصها ومدعوون كمؤمنين أن تصبح هذه المسؤولية من ضمن رسالتنا وهمِّنا اليوميّ". من هنا، ينطلق المطران كميل لشرح أهميّة البيئة من نص الخلق في سفر التكوين. لقد خلق الله الكونَ ونظمّه وأخرجه من الفوضى، وخلق الإنسان على صورته ومثاله قمّةً لهذا الخلق، وأعطاه مسؤولية الحفاظ على جمال الخلق وعلى نظامه. ولكنّ خطيئة الانسان خرّبت هذا النظام وزعزعت التوازن بين الإنسان والطبيعة. مشكلة البيئة تكمن في طمع الانسان وفي أوهامه بأنّه يستطيعُ الوصولَ إلى ملء رغباته، إلى السعادة، بواسطة العلوم والتكنولوجيا.  
"ومن أجل حبٍّ صحيح للخليقة"، قدّم راعي الأبرشيّة في إحدى المؤتمرات مشروعًا تربويًا بيئيًّا في ضوء الرسالة العامة التي وجّهها البابا فرنسيس سنة 2015 "كُنْ مُسبّحاً" لكي نعيد للخليقة بهاءها، وننقذ بيتنا المشترك. وقد ركّز في هذا المؤتمر على ضرورة التوبة الإيكولوجيّة التي هي وحدها تخلق ديناميّة تغيير مستدام. وبما أنّ الردّ على المشاكل الاجتماعية لن يكون فاعلاً إذا اقتصر على مبادراتٍ فرديّة، فينبغي أن تكون هذه التوبة جماعيّة (عدد 219 من كنّ مسبّحًا). وقد دقّ راعي الأبرشيّة ناقوس الخطر أكثر من مرّة مردّدًا ما قاله مدير الأونيسكو منذ حوالي عشرين سنة في هذا الموضوع: "إذا لم تبدّل البشريّة بسلوكها، فهي توقّع على حكم إعدامها قريبًا".
إستنادًا إلى هذه التوجيهات وإيمانًا منها بأهميّة البيئة، تسعى أبرشيّة أنطلياس المارونيّة بإرشادات راعي الأبرشيّة أن تساهم في حماية البيئة من خلال  حملات التشجير التي تقوم بها لجنة البيئة في الأبرشيّة ومن خلال القدّاس الذي يحتفل به راعي الأبرشيّة سنويًّا في عيد البيئة في الأحد الأوّل من شهر آذار أي في إطار عيد القدّيس يوحنّا مارون البطريرك المارونيّ الأوّل (عيده  في 2 آذار) كي يذكّر دائمًا أنّ في الروحانيّة المارونيّة دعوةُ إلى القرب من الطبيعة، وللعمل على الحفاظ على البيت المشترك لأنّ هناك أخطارٌ وتحديّات كبيرة تواجه استمراريّته. وقد درجت هذه العادة منذ سنة 2000.

الموضوع الثالث عشر: الروحانيّة المارونيّة "تعتمد الروحانيّة المارونيّة منطق حبّة القمح" 
من أهمّ المناسبات التي يتكلّم فيها راعي الأبرشيّة عن الروحانيّة المارونيّة هي في عيد القدّيس مارون في 9 شباط. وفي هذه العظات، يتطرّق المطران زيدان إلى ثلاثة أفكارٍ رئيسيّةٍ: 
الفكرة الأولى: الروحانيّة المارونيّة ليست بلاغةً في الكلام، بل مثلُ حياةٍ واقتداءُ التلميذِ بمعلّمه. فما يميّز الروحانيّة المارونيّة هي أنّ انتقالها يتمّ بالقدوة، فالقدّيس مارون لم يترك لنا كتبًا أو نصوصًا بل مثلَ حياة. وإذا كانت الروحانيّة المارونيّة، بالرغم من صغرِ الجماعة، بقيت ناشطةً عبر الاجيال، لأنّ هناك دومًا أشخاصًا كانوا قدوةً لغيرهم. والقدوةُ لا تكون لساعاتٍ أو لأيّامٍ بل هي نموذجٌ دائم في الحياة.  
الفكرة الثانية: نموذج القدّيس مارون هو نموذجٌ اختارت كنيستنا أن ترى فيه عيشٌ لمثل حبّة القمح: هو الانسان الذي بذل ذاته في سبيل الله والآخرين فأعطى ثمارًا كثيرة. وهذه مسؤوليتنا: بقدر ما نكون نموذجًا، شهودًا وشهداء من أجل المسيح، بقدر ما نكون حبّة قمح تبذل ذاتها من أجل الآخرين، تكون لنا ضمانةٌ لحضورنا ووجودنا في هذه المنطقة وهذا الشرق. من هنا نفهم البُعد النسكي الذي يشكّل عنصراً من العناصر الأساسيّة في روحانيّة الكنيسة المارونيّة. فحياة النسك لا تقتصر على الصومعة وعلى قمم الجبال بل على إيمانٍ عميق بأنّ الله هو الكنز الحقيقي، هو كلّ شيء، هو الدائم والثابت وكلّ ما سواه زائلٌ ولا قيمة له.
الفكرة الثالثة: من صفات أبناء وبنات مارون هي الثباتُ في الايمان وهذا ما ميّز الكنيسة المارونيّة. ولذلك، عندما ننظر إلى تاريخ كنيستنا المارونيّة، نرى أنّها الكنيسة الوحيدة التي بقيت واحدة والتي لم تنقسم بالرغم من كلّ الظروفِ والصعوباتِ التي عاشتها. وعندما ننظر إلى تاريخ كنيستنا، نرى فيه حقباتٍ وكأنّ كنيستنا كادت تضمحلّ من الوجود، ولكنّ بما أنّ لها الثبات على كلمة الله، نرى في الوقت ذاته نورَ القيامة يسطعُ فيها فتتجدّدُ وتنمو وتنتشرُ.
ويبقى السؤال الذي طرحه شارل مالك ويطرحه راعي الأبرشيّة على نفسه وعلى المؤمنين: أٌعطي الموارنة عطايا كثيرة ولكن هل موارنة اليوم ما زالوا موارنة؟ هل نحن اليوم لا نزال موارنة بحسب تراث القدّيس مارون وبحسب قلب الله؟

الموضوع الرابع عشر: التكرّس "التكرّس هو موتٌ عن منطق العالم للولادة في منطق الله وقلبه" 
تبرزُ روحانيّة المطران كميل زيدان في موضوع التكرّسِ للربّ في عظاتِه في السيامات الكهنوتيّة وفي أحاديثه للمكرّسين والمكرّسات. سنتوقّف على خمسِ صفاتٍ أساسيّةٍ يدعو راعي الأبرشيّة المكرّس للتحلّي بها: 
الصفة الأولى: التآلفُ مع كلمة الله. الذي يتآلف مع كلمة الله، بالنسبة لراعي الأبرشيّة، لا يعلّم ذاته، بل يعلّم كلمة الله صافيةً، وليس بالكلام فقط بل بالأخصّ بالمثَل. كما أنّ الذي يتآلف مع كلمة الله يعلم جيّداً أنّه لا يمتلك كلمة الله بل هي تتملّكه، فتدعوه إلى تحوّلٍ ونموٍّ دائمين في قلب الدعوة. من هنا يحبّ راعي الأبرشيّة أن يكرّر دائمًا على مسامعِ المكرّسين سؤالاً كان القدّيس برنردوس يطرحه على ذاته يوميًّا: "لماذا دخلتَ الدير يا برنردوس؟". فحصُ الضمير الدائم يساعدُ المكرّسَ كي لا يعود إلى منطقِه ومحدوديّتِه، إنّه يسمح لكلمةِ الله وقوّتِها أن تدحرجَ كلّ الصعوبات في الحياة المكرّسة مهما كانت كثيرة وكبيرة. 
الصفة الثانية: التواضع وبذل الذات. بالنسبة لراعي الأبرشيّة، ليس هناك دعوةٌ حقيقيّة لتكريس الذات ولخدمة ملكوت الله بدون الصليب، والبعد السلوكي ليس أن نَحمِل صليبنا ونُصلَب على خشبة بل أن ندخل باب التواضع. أكبر خطيئةٍ تهدّد حياة المكرّس هي الكبرياء، لذلك عليه أن يعي دائمًا أن لا دعوة حقيقيّة ولا قوة له إلّا بالنعمةِ التي هي بالربِّ يسوع. لذلك يقول القدّيس بولس لتلميذه طيموتاوس: "تقوّى بالنعمةِ التي هي بالربِّ يسوع"(2طيم 1:2). من هنا نفهم معنى التفرّغ الكامل للربّ أي البتوليّة. فالتفرّغ ليس تفرّغ في الوقت فقط بل أن يكون قلبنا وفكرنا موحّدان، أي أن يبقى كلام يسوع ومثل يسوع البوصلة الحقيقيّة في كلّ حياتنا وكلّ خياراتنا. وهذا لا يتمّ بدون عيش مَثلِ حبّة القمح، أي مجد يسوع من خلال حمل الصليب. وكي لا ننسى ذلك أبدًا، يدعونا راعي الأبرشيّة لنردّد هذه الصلاة الرائعة: "علّمنا ربّي، أنّنا عمّالٌ، لا أسياد!  أنّنا لسنا الله بل خدّامه!  أنّنا أنبياء مستقبلٍ ليس ملكًا لنا!"
الصفة الثالثة: المحبّة. يحضّنا راعي الأبرشيّة للتأمّل الدائم بالسؤال الذي طرحه الربّ يسوع على بطرس بعد القيامة، والذي نسمعه في معظمِ السيامات الكهنوتيّة والمكرسّة: "يا سمعان بنَ يونا، أتحبّني أكثر ممّا يُحبّني هؤلاءِ؟" (يو 21: 15). فعل التكرّس لا يكون حقيقيًّا إلا إذا كان مبنيًّا على حبٍّ ليسوع القائم من الموت أقوى من حبّ سائر الناس له. وكيف يتمّ ذلك؟ عندما نقبل روح الله وندعه يقود حياتنا، أي أن نصل لحالة الإستسلام الكليّ لله ولمشيئته. كلّما بقيَت فينا مقاومةٌ شرسة لما هي إرادة الرب في حياتنا، فلن نكون بعدُ قد وصلنا إلى الحبّ الذي يسأل عنه المسيح. 
الصفة الرابعة: الحكمة. من أُقيم مسؤولاً على الآخرين ليعطيهم الطعام في حينه، لا يستطيع أن يكون جاهلاً، عبثيًا، مهملاً، لا يُدرك متطلّبات الخدمة المدعوّ لها. ولذلك، عليه أن يسهر ويتطلّع إلى البعيد، أي أن يرى خير الناس وخير الجماعة التي اؤتمن عليها. لذلك يدعونا راعي الأبرشيّة لطلب الحكمة من الله الذي هو مصدر كلّ الحكمة، وذلك كما طلب الملك سليمان في بداية حكمه الحكمة قبل كلّ شيء.  
الصفة الخامسة: الأمانة. الأمانة هي من الصفات الأساسيّة لله، فهو الأمين حتّى لو خنّاه، لأنّه لا يستطيع أن يخون، ولأنّه لا يستطيع أن ينكرَ ذاتَهُ، كما يقول القدّيس بولس في رسالته الثانية إلى تلميذه طيموتاوس (2 طيم 2: 13). الله هو الامانة بالذات. ومن يطمح لخدمة الله عليه أن يتشبّه بالله، أي أن يكون أمينًا لوصيّة الرب، لكلمتِهِ وللرسالة الموكلة إليه. ولذلك يُعطي الربّ مثل العبد الشرّير (مت 24: 45-51) الذي بدلَ أن يحافظ على الأمانة، يتلهّى بملذّاته وأمور هذه الدنيا وينسى المسؤوليّة الأساسيّة الملقاة على عاتقه. على كلّ إنسان أن يتحمّل مسؤوليّة الرسالة التي أُلقيت على عاتقه. فمن أُعطي كثيرًا يُطلب منه الكثير، ومن سمع صوت المعلّم ووضع يده على المحراث، لا يستطيع أن ينظر إلى الوراء.
ومن يتحلّى بهذه الصفات الخمس، لا يحمل وجه المأتم كما يقول البابا فرنسيس بل وجهاً مبتسمًا فرحًا يجذبُ الناسَ إلى المسيح. 

الموضوع الخامس عشر: شفاعة القدّيسين "القدّيسون هم مثالٌ في عيش منطق الله" 
"أن نختار في رعيّةٍ شفيعًا لنا، هو أوّلًا وبدون شك حتى نطلب شفاعتَه ونحتمي بصلاته     ونلتجئ إليه ليكون حافظًا لهذه الرعية وجميع أبنائها وبناتها. ولكن في الوقت عينه، أن نختار شفيعًا لرعيتنا، هي ان نأخذه كمثالٍ لنا وقدوةً في الحياة". هذا ما يركّز عليه راعي الأبرشيّة في أعياد القدّيسين. "فعندما نحتفل معًا في رعيّةٍ بمناسبة عيد شفيعها، نصلّي أوّلًا حتّى يكون شفيع هذه الرعيّة ليس فقط إسمًا نلتجئ إليه في الشدّة بل نورًا يخطّ لنا الطريق، به نتمثّل ونسعى أن نحقّق في حياة الرعيّة وفي حياة كلّ واحدٍ وواحدةٍ منّا المثال الذي يمثّله هذا الشفيع". 
أمام الصعوبات والتجارب في الحياة، يدعونا راعي الابرشيّة للتحلّي بميزات القدّيسين والتمثّل بهم، هم الذين واجهوا الصعوبات نفسها ولكنّهم تغلّبوا عليها بمحبّتهم للمسيح والتمثّل به وتسليم ذاتهم كلّيًا له. فالقدّيس ضومط مثلًا هو نموذجٌ للناس الذين يمضون جزءًا من حياتهم في الخطيئة ويسعون للخروج من سلاسلها، والقدّيس يوسف هو نموذجٌ للذين يحاولون تجنّب النميمة والتشهير بالآخرين، والنبيّ إيليّا هو مثالٌ للذين يسعون ليعبدوا الربّ الإله الحيّ والتخلّي عن كلّ آلهة البعال. من خلال حياة القدّيسين، نتعلّم السير في طريق القداسة: فبقدر ما نتشبّه بالربّ يسوع بقدر ما نسير في طريق القداسة لأنّ كلّ قداسة هي منه وبه إليه. 
من جهة أخرى، يشرح المطران كميل شفاعة القدّيسين بطريقة مميّزة جدًا من خلال مثل الكرمة والأغصان الذي أعطاه الربّ يسوع في إنجيل يوحنّا الفصل الخامس عشر. فالمسيح الكرمة يفيض ثماره في العالم بواسطة الأغصان الحيّة (القديسين)، الذين يقتربون منه أكثر ويثبتون فيه، فيدخلهم في هذا السرّ العظيم، سرّ عمل الله الشفائي والخلاصي المستمرّ بيننا، وفي تاريخ شعب الله. الشفاعة، إذًا، هي الطريقة الّتي من خلالها يمنحنا الربّ الثمار. وهكذا، عندما نطلب شفاعة القديّسين، نطلب منهم كأغصانٍ أثمرت بوفرة، أن يحملونا إلى الحياة بيسوع المسيح، كما حمل الأربعة المخلّع، فنصبح بدورنا ثابتين بالمسيح، وأغصانًا تحمل ثمارًا وافرة، تنقل بدورها الحياة لآخرين، ونصبح طريقًا يسلكها الآخرون نحو الله. 
ويبقى كلام راعي الأبرشيّة في عظته في عيد القدّيس شربل في إحدى الرعايا أجمل تعبيرٍعن مفهوم العجائب التي تتمّ بشفاعة القدّيسين: "إذا كان نور قداسة القدّيس شربل قد شعّ حول العالم، وله في كلّ أقطار العالم كنائس وعبادات وليس فقط في لبنان، فذلك لأنّه استطاع أن يرتفع، أن يرتقي فوق مغريات هذه الحياة، فوق أوهام هذه الحياة، وبذلك أصبح غصنًا ملتصقًا بالكرمة، بالمسيح يسوع، الذي منه يستمدّ الحياة والقدرة على اجتراح العجائب، فكثرت ثماره، وكثرت الشفاءات على يده. لأنّه صار غصناً تقيض منه الحياة التي في الكرمة، لأنّه لم تعد حياته هي الأساس بل المسيح. وكما قال القدّيس بولس عن ذاته: "لم أعد أنا أحيا، بل المسيح حيّ فيّ (غل 2: 20). ليس القدّيس هو بحدِّ ذاتِه الذي يقومُ بالعجائب بل هو ذلك الغصن في الكرمة الذي بالتحامِه بالكرمة ينقل إلينا حياة الله.

خلاصة: "شعار راعي الأبرشيّة في الأسقفيّة: روحانيّة نقيّة، شفافيّة، احتراف، أعمدةٌ ثلاث لفهم منطق الله وعيشه" 
شعارُ راعي الأبرشيّة في أسقفيّته يحدّدُ بشكلٍ واضحٍ رغبته في فهم منطق الله وعيشه: 

1- روحانيّة نقيّة: تتجلّى الروحانيّة النقيّة عندما تكون كلمة الله وحدها مقياس حياتنا، والحضور المحبّ الذي يبني الآخر هو معيار نجاح أعمالنا، فلا نستسلم إلى جسديّتنا وضعفنا وخطيئتنا. الروحانيّة النقيّة تغذّي هذا السلوك وتسنده وتحميه من الضعف البشري والتجارب اليوميّة، وهي تنعكس بالضرورة في علاقاتنا وجهًا إنسانيًّا. 
2- الشفافيّة: الشفافيّة هي الصدق: الصدق مع الذات أوّلًا والصدق مع الله ثانيًا والصدق مع الآخر ثالثًا. الضعيف هو الذي لا يَصدُق. الصدقُ هو أن يعمل الانسان بانسجامٍ مع إرادة الله. فالشخص الصادق لا يتصرّف باستقامة فقط عندما يراه الآخرون بل في كلّ حالٍ ومكانٍ. الشفافيّة تساعدني كي أمشي في النور، في طريق الله وليس في الظلمة أي في طريق الشرّير. 
3- الاحتراف: "النبتة لا تزهر إلا إذا تآلفت مع المكان الذي زُرعت فيه وأحبّته. لقد أخذت هذا شعاراً لي منذ زمن: Bloom wherever you are planted". هذا ما كشفَه راعي الأبرشيّة لطلّاب مدرسة مار يوسف قرنة شهوان. في مجتمع يشجّع على التهاون والتكاسل، يشجعنا المطران زيدان على الاحتراف في كلّ مكانٍ تضعنا فيه عناية الربّ. هو الذي يعلن دائمًا أنّه لم يسعَ يومًا لمركزٍ أو وظيفةٍ معيّنة. الاحتراف ليس هدفاً بحدّ ذاته، إنّه وسيلةٌ لتمجيد الله بالأمانة لما يسلّمنا من مسؤوليّات، ولخدمة شعبه بالطريقة الأفضل. من هنا الحاجة إلى التعلّم الدائم، وأهميّة الاتقان في التعلّم والتثقّفِ على مختلف الأصعدة.