الأب إيلي القزي
مقالات/ 2018-11-03
مقدمة
صدر الإرشادر الرسوليّ "إفرحوا وابتهجوا" في 19 آذار 2018، عشيّة لقاء البابا فرنسيس مع الشبيبة ضمن اجتماع تمهيديّ لسينودوس الأساقفة الـمُزمَع عقده في تشرين الأول 2018، وهو بعنوان: "الشباب، الإيمان وتمييز الدعوات". إنّ انعقاد اجتماع تمهيديّ مماثل يدلّ على أمر واضح وهو أن وثيقة العمل التمهيديّة للمجمع (Lineamenta)، بما فيه من أسئلة يُفترض أن تجيب عليها الأبرشيّات والرهبانيّات والجمعيّات الكنسيّة، غير كافٍ، فقد أراد البابا أن يسمع للشباب مباشرة. كما أراد أن يصدر عنهم وثيقة تحمل همومهم وأفكارهم وتطّلعاتهم إلى المجمع. وقد اعتمدت وثيقة العمل النهائيّة للمجمع على هذا الملف كما على أجوبة الأبرشيّات.
إنطلاًقًا من هذه المعطيات كيف نفهم ماهيّة توجيه البابا رسالة مباشرة إلى شعب الله في 20 آب 2018. وليس إلى الأساقفة والكهنة والمؤمنين وإلى ذوي الإرادة الصالحة كما جرت عادة الباباوات أن يوجّهوا رسائلهم المعتادة؟
إنّ الذي يطالع نص هذا الإرشاد الرسوليّ "إفرحوا وابتهجوا" حول الدعوة إلى القداسة في العالم المعاصر، يلاحظ بوضوح أنّ لا يعالج البابا موضوعًا جديدًا في الكنيسة، فقد عالج المجمع الفاتيكانيّ الثاني، موضوع القداسة، بالأخصّ في دستور عقائديّ في الكنيسة. فخصّص الفصل الخامس من هذا الدستور لهذا الموضوع تحت عنوان: "في الدعوة الشاملة إلى القداسة في الكنيسة". وجاءت دعوة الكنيسة إلى شموليّة القداسة ضمن إطار تحديد مفهوم الكنيسة لذاتها، كونها شعب الله، ولعمل الله الخلاصيّ فيها بواسطة تجسّد الابن وموته وقيامته. فالقداسة هي هبة من الله، ودعوة منه لكل مَن أراد أن يتبعه. تتجلّى القداسة بسماع كلمة الله والعمل فيها، وبمحبّة الله ومحبّة القريب، حتى بذل الذات. ويضيف المجمع: "إنّه من الواضح للجميع أن الدعوة لكمال السيرة المسيحيّة، وكمال المحبّة لموجّهة إلى كلّ الذين يؤمنون بالمسيح أيّا كان وضعهم أو شكل حياتهم." (دستور عقائدي في الكنيسة عدد 40. ) ويفصّل المجمع الأشكال العديدة لممارسة القداسة (عدد 41)، وطرق القداسة ووسائلها (عدد 42).
إنّ هذا الإرشاد الرسوليّ لا يأتي ليفسّر أو يكمل ما كتبه المجمع الفاتيكاني الثاني، ولا ليعطي أبعادًا لاهوتيّة للقداسة ضمن الكنيسة. فمنذ مطلع الإرشاد الرسولي يحدّد البابا هدفه، يقول: "أن أُرَجِّع مرّة أخرى صدى صوت الدعوة إلى القداسة من خلال تجسيدها في السياق المعاصر، وعن مخاطرها وتحدّياتها، وفرصها". أي أنه يضع القداسة وسبل عيشها في إطارها الحاضر، الأمر الذي لم يعالجه المجمع الفاتيكاني الثاني.
يوضح البابا فرنسيس في مقابلته مع دومنيك فولتون أنّ للكنيسة سلطة معنويّة وخلقيّة في عالم اليوم، تعتمد هذه السلطة على شهادة المسيحيين. وهذه الشهادة هي ترجمة لعيشهم للقداسة. (فولتون ص. 73).
يختلف أسلوب البابا فرنسيس عن النهج التقليدي لأساقفة روما، فهو لا ينطلق من الكتاب المقدّس، وتعليم الآباء والكنيسة، ليصل إلى واقع عالم اليوم، إنّه يتبنّى منهجيّة معاكسة.
الفصل الأوّل الدعوة إلى القداسة
ينطلق البابا بكلامه عن القداسة (الفصل الأوّل: الدعوة إلى القداسة) من مثال القديسين الذين سبقونا. إنّ الذين سبقونا على درب القداسة "يحافظون على رابطة المحبة والشراكة معنا... إنّهم يقودوننا ويرشدونا" (مقطع 4). وفي كل تفصيل يقدمّه يعطي أنموذجًا من حياة قدّيس أو أكثر.
بنظره: إنّ القداسة هي فعل شراكة، لأنّ لا أحد يخلص لوحده (مقطع 6). لذلك فإنّ القداسة هي منوطة بأشخاص يعيشون بيننا ومعنا. من هنا يعطي البابا فرنسيس مثالًا في قداسة شعب الله الصبور: في الأمّهات والآباء، في المرضى، والراهبات المسنّات. هؤلاء هم انعكاس لحضور الله. ويؤكّد أن القداسة هي وجه الكنيسة الأجمل (مقطع 9).
بعد هذا التفصيل يقول البابا إن القداسة هي دعوة من الربّ (عنوان مقطع 10). والدعوة فريدة لكل واحد منّا، لذلك تبدأ القداسة من خلال الفرادة، وليس من خلال التشبّه بالآخرين أو تقليدهم. القداسة سيرة ذاتيّة مميزّة. (مقطع 11). تبدأ القداسة من خلال ممارسة أمور حياتيّة بسيطة جدّا، فتنمو وتزهر فيما بعد. (مقاطع 14-16)، وتُبنى القداسة بنعمة الله ومن خلال الممارسات البسيطة، وهذه هي رسالة المسيحيّ: مسيرة قداسة، أي يعكس جانب من الإنجيل (مقطع 19). تجد رسالة المسيحيّ ملأها في المسيح، لأنّها تنطلق منه، فيعيش المسيحيّ باتّحاده بموت وقيامة الربّ يسوع. (مقطع 20). إنّ تدبير الآب هو المسيح، ونحن فيه. والمسيح، في النهاية، هو الذي يحبُّ فينا، لأنّ القداسة ليست إلّا المحبّة المعاشة بملئها (مقطع 21).
إن أسلوب البابا فرنسيس عمليّ بسيط، فهو يعلّم تقنيات الأمور، وكيفيّة تطبيقها، وهو يوجّه كلامه بصيغة المخاطب، كأن القارئ شاخص أمامه ويسمعه: لنسمع ما يقول: "حاول أن تفهم حياتك كرسالة من خلال الإصغاء إلى الله في الصلاة، والتعرّف على العلامات التي يقدّمها لك. إسأل الروح القدس دائمًا ما ينتظره يسوع منك في كلّ لحظة من حياتك، وفي كلّ خيار عليك القيام به، لكي تميّز المكان الذي يختلّه هذا الأمر في رسالتك. واسمح له أن يصقل فيك هذا السرّ الشخصيّ الذي يمكنه أن يعكس يسوع المسيح في عالم اليوم." (مقطع 23-26). بعد تقديم تفاصيل عملية لعيش القداسة يتوقّف البابا برهة ليقول: لا تخف من القداسة: لن تسلبك القوة أو الحياة، أو الفرح (مقطع 32). لا تخف إنّ القداسة لا تقلّل من بشريّتك لأنّها اللقاء بين ضعفك وقوّة النعمة (مقطع 34).
الفصل الثاني: عدوّان ماكران للقداسة
يختلف أسلوب البابا في الفصل الثاني عن أسلوبه في الفصل الأوّل. تختفي صيغة المخاطب، ويتوقّف الأسلوب التعليميّ، ليحلّ مكانهما أسلوبًا عامًّا غير تخاطبي. وفي حين كان الخطاب في الفصل الأوّل بسيطًا وتعليميًّا، أصبح في الفصل الثاني وصفيًّا لحالات فكريّة معقدّة، تعبّر عن واقع بعض المسيحيين الكاثوليك، مسألة لا يفقهها البسطاء.
رأى البعض في هذا الفصل تهكّمًا يوجهّه البابا فرنسيس، بشكل مستتر، لبعض المعادين له والرافضين لمنهج فكره وعمله في الكنيسة. فمنذ استلامه مهامه كأسقف روما يردد ويكرّر باستمرار مقولات غير معتادة على سمع الكثيرين: واحتفاله بسنة الرحمة يوضح تمامًا مراده في الكنيسة، وبأسلوب يسوعيّ لم يوفّر رجالات الكنيسة من تعليم لم يعتادوا سماعه: (معايدة عيد الميلاد سنة 2014، وعرض أمراض الكوريا الرومانية)، كذلك دعوته الكنيسة إلى الخروج من ذاتها، الخروج إلى الضواحي (La périphérie s’oppose au centre) تدعو ضرورة هذا الخروج نحو شعب الله لاستنباط لاهوت يعمل على الثقافة القائمة .
كما لم يوفّر البابا فرنسيس بكلامه النابي والـمُلطّف الشباب والرهبان والراهبات، بدعوته رفض حضارة الكنبة، ورفضه ثقافة العنوسة عند الراهبات، والنظر في المرآة الخ... كلّ هذه الأمور التي يدعو إليها البابا ليست إلّا ثورة واضحة على واقع الكنيسة بدءًا من رأس هرميّتها.
في مقابلته مع دومنيك فولتون سنة 2017، تحدّث البابا عن نقطة ضعف في كنيسة عالم اليوم يقول: إني اعتبر نقطة ضعف "الروح الاكليريكيّة القاسية، القساوة. نرى كهنة شباب قاسون، يخافون من الانجيل ويفضّلون الحقّ القانوني. ويستدرك القول: هذا تشبيه كاريكاتوريّ." (دومنيك فولتون، صفحة 60).
وهو ثائر أيضًا على نمط كاثوليكيّ مطمئن لكثيرين، ويوضح هذا الأمر بإسهاب في الفصل الثاني من إرشاده الرسوليّ. يوضح المقطع 37 ما أقوله بإسهاب، ويدلّ بوضوح على محاربة البابا لما يسمّيه الروح الإكليريكيّة: أي تحويل تعليم يسوع إلى مجرّد منطق بارد وقاس بهدف السعي إلى السيطرة على كلّ شيء.(مقطع 39). والسعي إلى استعمال الدين للمصلحة الذاتيّة ولخدمة النزوات النفسيّة والعقليّة (مقطع 41). ويضيف إنّ مَن يرغب في أن يكون كلّ شيء واضحًا وأكيدًا، يدّعي السيطرة على سموّ الله (مقطع 41). ويضيف في مقطع 49 أنّ البيلاجيين الجدد يعتبرون أنفسهم أمناء بشكل حازم لأسلوب كاثوليكيّ معيّن. بالمختصر: إن البلاجيّة تضع القدرة الذاتيّة فوق نعمة الله وقدرتها. وتحجّم هذا القدرة عمل الله ليأتي مكانها عمل الإنسان، وذلك باسم الله. إن روّاد البلاجيّة الجديدة يكبتون نعمة الله لكنّهم يعظّموها بكلماتهم (مقطع 50). أي ثمّة فئة مقتدرة في الكنيسة تسيطر على كلّ شيء وتعتبر أن الآخرين غير قادرين على الخلاص دون سيطرة هذه الفئة . بينما في الفصل الأوّل يتحدّث البابا عن القداسة كنعمة موهوبة لكلّ الناس.
لا يتوقّف البابا عند هذا الحدّ بل يضيف في مقطع 57: إن بعض المسيحيين يلتزمون مسيرة التبرير بواسطة قواهم الشخصيّة وذلك من خلال: الهوس بالقانون، وسحر إظهار المكتسبات الاجتماعيّة والسياسيّة، والتباهي في العناية بالليتورجية، وبالعقيدة، وبهيبة الكنيسة، والغرور الناجم عن إدارة مسائل عمليّة الخ... هؤلاء لا يسمحون للروح القدس أن يقودهم في درب الحب، أو أن ينقلوا جمال وفرح الإنجيل. والوصف يطول في مقاطع 58-59.
ويدعم البابا تعليمه بالاستناد إلى تعليم الآباء والمجامع في الكنيسة (مقطع 52-55). يوحنّا فم الذهب، باسيليوس، أغوسطينوس، مجمع أورانج، المجمع التردنتيني، التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة... لكنّه لا يعتمد، إلّا قليلًا، على تعليم الباباوات السابقين (يعود بالأكثر إلى يوحنا بولس الثاني وبولس السادس). أعتقد أن البابا فرنسيس يريد أن يقول شيئًا للكنيسة يخرج نوعًا عن المألوف، وفي مقابلته مع دومنيك فولتون يردّد أنّه قال كلّ ما يريد قوله في رسالته العامّة: "لتكن مُسبّحًا"، و إرشاده الرسوليّ "فرح الانجيل"، وإرشاده الرسولي "فرح الحب". وقلّما يعود إلى رسالته العامّة الأولى "نور الإيمان" Lumen Fidei.
الفصل الثالث: في نور المعلّم
صرّح البابا فرنسيس في حديثه مع الصحافي الفرنسي دومنيك فولتون، قال: "الدعامتان لإيماننا وغنانا هما التطويبات، وإنجيل متى الفصل 25، حيث يفصّل لنا الانجيليّ طريقة الدينونة." (دومنيك فولتون، ص. 61-62). يعود البابا إلى نص التطويبات في إرشاده الرسوليّ كي يفصّل مفهومه للقداسة ودعوة الكاثوليك إلى اعتناقها:
في مطلع هذا الفصل يوضح البابا ماهيّة القداسة بالقول: ما من شيء يمكنه أن ينيرنا أكثر من العودة إلى كلمات يسوع وفهم أسلوبه في نقل الحقيقة. وذلك من خلال التطويبات. ويعتبر التطويبات كبطاقة هويّة شخصيّة بالنسبة للمسيحيّ ففي التطويبات يُرسم وجه المعلّم الذي دُعينا لنعكسه في حياتنا اليوميّة. (مقطع 63). عيش التطويبات في عالم اليوم معقول إنّ حلّ علينا الروح القدس بقوّته وحرّرنا من ضعف الأنانية والرفاهية والكبرياء. (مقطع 65).
طوبى للفقراء: عندما يشعر القلب أنّه غنّي يكتفي بذاته، ولا يملك فسحة لكلمة الله ومحبة الإخوة. (مقطع 68). أن نكون فقراء القلوب، هذه هي القداسة.
طوبى للودعاء: في هذا العالم نصنّف الآخرين باستمرار، حسب أفكارهم وعاداتهم وأسلوبهم في الكلام واللبس، هذا العالم هو مملكة الكبرياء والغرور، حيث يعتقد كلّ شخص أنّه يملك الحق في التعالي على الآخرين. أن نتصرّف بوداعة متواضعة، هذه هي القداسة.
طوبى للحزانى: عالم اليوم يرفض يدعو إلى اللذّة، والرفاهة، والتسلية باعتباره أنّ هذا ما يجعل الحياة جيّدة. ويتجاهل كلّ ما يعاكس هذه الأمور، مثل الحزن. العالم لا يريد أن يبكي. لا يريد العالم أن يرّ الصليب. أن نعرف أن نبكي مع الآخرين، هذه هي القداسة.
طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ: هاتان حاداتان أساسيّتان. إنّ البرّ أو العدالة عند يسوع ليس قائمًا على مصلحة خسيسة. سهل الدخول في حلقة الفساد وظلم الآخرين باسم العدالة. يمكن لكلمة عدالة أن تكون مرادفة لمشيئة الله في حياتنا. أن نبحث عن العدالة بجوع وعطش هذه هي القداسة.
طوبى للرحماء: للرحمة وجهان: أن نعطي ونساعد ونخدم الآخرين وأيضًا أن نغفر ونتفهّم. بهذا نجسّد اعكاسًا صغيرًا لكمال الله الذي يعطي ويغفر بوفرة. أن ننظر ونتصرّف للرحمة وجهان: أن نعطي ونساعد ونخدم الآخرين وأيضًا أن نغفر ونتفهّم. بهذا نجسّد اعكاسًا صغيرًا لكمال الله الذي يعطي ويغفر بوفرة. أن ننظر ونتصرّف برحمة هذه هي القداسة.
طوبى لأطهار القلوب: هذه التطويبة تخصّ ذوي القلوب التي تعرف أن تحبّ. القلب يشير إلى النوايا الحقيقيّة، والقلب الطاهر يرفض الخداع. عندما يحب القلب الله والقريب، وعندما تكون هذه نيّته الحقيقيّة وليست مجرّد كلماتفارغة، يكون هذا القلب طاهرًا.. أن نحافظ على قلبنا نقيًّا من كلّ ما يلطّخ المحبّة، هذه هي القداسة.
طوبى للساعين إلى السلام: إنّ عالم الإشاعات، الـمُكوّن من أشخاص يتكرّسون للنتقاد والتدمير، لا يبني السلام. الـمُسالمون هم مصدر سلام. أن نزرع السلام من حولنا هذه هي القداسة.
طوبى للـمُضطهَدين من أجل البرّ: يشدّد البابا على أن من يسلك بموجب هذه الطوبى يسير بعكس التيّار: إنّه يجعلنا أشخاصًا يضعون بحياتهم المجتمع في حال نقاش، ويضيف لا يمكن أن ننتظر، من أجل عيش الإنجيل أن يكون كلّ ما حولنا مناسبًا. إنّ الصليب هو، في المقام الأول التعب والشدائد التي نتحمّلها لعيش وصية المحبة ومسيرة العدالة. أن نقبل كلّ يوم درب الانجيل، هذه هي القداسة.
يختم البابا شرحه عن التطويبات بقاعدة سلوك كبيرة وهي ما يأتي في نصّ متى 25/25-36: "لأنّي جعت فأطعمتوني، وعطشت فسيقتموني الخ". القداسة هي أمانة للمعلّم (مقاطع 96-99). ويعلّق بالقول: أمام قوّة مطالب يسوع هذه، فإنّه من واجبي أن أطلب من المسيحيّيم أن يقبلوها بصدق وبدون تعليق... لأنّ الرحمة هي "القلب النابض للإنجيل". (مقطع 97.)
الإيديولوجيات التي تشوّه جوهر الانجيل
الإيديولوجية الأولى: اعتبار الكنيسة منظّمة غير حكومية، أي تُعنى بالفقير والمعوز الخ، لكنّها تفصل متطلّبات الانجيل عن العلاقة الشخصية مع الرب. عن الاتحاد الداخلي معه، عن النعمة. إنّ محبة الله ومحبة القريب لا ينفصلان. (مقطع 100).
من الإيديولوجيات التي تشوّه جوهر الإنجيل أيضًا: واقع خلقية الحياة والتعاطي مع بداية حياة الإنسان ونهايتها، وأيضًا التعاطي مع مسألة المهاجرين بهامشيّة، الرضوخ إلى ثقافة الاستهلاك التي توهم بالاسترخاء والرفاهية الأنانيّة دون الانتباه إلى وجود الآخر ومعاناته (مقطع 108)
هنا يكرّر البابا أن الرحمة هي الدعامة التي ترتكز إليها الكنيسة، يقول: "علينا قبل كلّ شيء أن نعلن أنّ الرحمة هي ملء العدالة، والإعلان المضيء عن حقيقة الله، الرحمة هي مفتاح السماء. (مقطع 105).
في ختام هذا الفصل يتمنى البابا على الجميع قراءة نص التطويبات ومتى 25، ومحاولة تجسيد مضمونهما. ويؤكّد أن سنطون سعداء حقًا.
الفصل الرابع: بعض ميزات القداسة
أراد البابا التوقّف عند ميزات للقداسة غير تلك التي نعرفها، النموذج الذي يريده للتعبير عن ميزات القداسة في عالم اليوم يختصره بخمسة مظاهر كبيرة من المحبة لله وللقريب، وتجيب على مخاطر ثقافة اليوم ومحدوديتها: القلق العصبيّ، السلبيّة والحزن، الكسل المريح، الاستهلاك الأنانيّ، والفردانيّة. ويضيف أن ثمّة روحانيًات خالية من اللقاء بالربّ وتسيطر على "السوق الدينيّ" الحاليّ (مقطع 111).
الميزة الأولى: التحمّل، الصبر والوداعة: يعود إلى تعليم بولس الرسول: لا تبادلوا أحدًا شرًا بشرّ، إغلبوا الشرّ بالخير، وينبّه البابا أن نناضل ونكون حذرين من ميولنا العدوانيّة والأنانيّة كيلا نسمح لها بالتجذّر (مقطع 114). ويضيف قد يشارك المسيحيون في شبكات العنف الكلاميّ عبر الانترنت، وعبر وسائل الإعلام الكاثوليكيّة، ويشهّرون ويفترون ولا يحترمون سمعة الآخرين. إذ يزعمون الدفاع عن وصايا أخرى متجاهلين الوصية: "لا تشهد بالزور". (مقطع 115). القدّيس لا يهدر طاقاته متذمّرا من عيوب الآخرين. (مقطع 116)، القديس هو الذي يتشبّه بالابن الذي لم يعدّ مساواته لله غنيمة، بل أخذ صورة عبد (مقطع 118).
الميزة الثانية: الفرح وروح الدعابة: بالفرح وروح الدعابة لا يفقد القدّيس واقعيّته، فإنّه ينير الآخرين بروج إيجابيّ وغنيّ بالرجاء (مقطع 122). الفرح يلازم المحبة. النكد ليس علامة للقداسة (مقطع 126). يشدّد البابا على أنّه لا يتحدّث عن الفرح الاستهلاكيّ، الاستهلاك يولّد إرهاقًا للقلب، ولا يمنح الفرح. الفرح يُعاش بشركة مع الآخرين. (مقطع 128)
الميزة الثالثة: جرأة وحماسة: الجرأة والحماس والصراحة والغيرة الرسوليّة هذه الصفات تدل على استعداد لخدمة الله والإخوة.(مقطع 129). كم من مرّة نشعر بأننا مدفوعين لنرسي على الضفّة المريحة، لكنّ الربّ يدعونا لنبحر في العرض ولنرمي الشبكة في المياه العميقة (مقطع 130). على غرار النبي يونان نميل إلى تجربة كامنة في داخلنا تميل بنا إلى الهروب إلى مكان آمن يحمل أسماء عدّة: الفرديّة، والروحانيّة، الانغلاق في عوالم صغيرة، التبعيّة، الاستقرار في مكان ما، تكرار خطط مسبقة، الغوغائيّة، والكآبة والتشاؤم، والاختباء وراء القوانين (مقطع 134). الله هو دائم التجدّد ويدفعنا إلى الانطلاق إلى مكان آخر بهدف تخطّي ما نعرفه، نحو الضواحي. الله لا يخاف ولا يهاب الضواحي، فإن تجرّأنا وذهبنا إلى الضواحي فسوف نجده هناك (مقطع 135). صحيح أن يسوع واقف في الخارج يقرع الباب، لكنّ البابا يخشى أن يكون يسوع في داخلنا يقرع بهدف الخروج ونحن لا نسمح له للتنفّس فنخنقه فينا (مقطع 136). إنّ العادات تغرينا، ولا ضرورة للتغيير، فالأمور تسير كما اعتادت أن تسير ولا يمكننا التغيير. بالعادات نحن لا نواجه الشرّ، لندع الربّ يأتي ويوقظنا، ويُنهضنا من تخدّرنا (مقطع 137).
"يحثّنا مثال الكثير من الكهنة والرهبان والراهبات والعلمانيين الذين يكرّسون أنفسهم للبشارة مجازفين بحياتهم وبراحتهم. تذكّرنا شهادتهم أن الكنيسة لا تحتاج إلى الكثير من البيروقراطيّين والموظّفين، إنّما إلى مرسلين شغوفين يلتهمهم الحماس للتبشير بالحياة الحقّة. القدّيسون يفاجئوننا، ويزعجوننا، لأنّ حياتهم تدعونا للخروج من ضعفنا المريح والـمُخّدِّر.
الميزة الرابعة: في وسط الجماعة. إن التقديس هو مسيرة جماعيّة (مقطع 141). فالمشاركة بالكلمة والاحتفال سويًّا بالإفخارستيا يزيدان من أخوّتنا وتحوّلانا شيئًا فشيئًا إلى جماعة مقدّسة ومبشّرة. (مقطع 142). الجماعة التي يدعونا إليها يسوع تنتبه إلى التفاصيل لبنيان الكلّ ( الخروف الضائع، الفلس الضائع، الخمرة الناقصة، الزيت للقاء العريس، الأرغفة لإطعام الناس) (مقطع 144).
الميزة الخامسة: صلاة مستمرّة: إنّ القداسة هي انفتاح على التسامي، الذي نعبّر عنه في الصلاة. القديس هو شخص مصلٍّ ويحتاج للتواصل مع الله. (مقطع 147). من الضروريّ لكل تلميذ أن يبقى مع المعلّم، والإصغاء إليه، والتعلّم منه دومًا (مقطع 150). إنّ القراءة المصليّة لكلمة الله تسمح لنا أن نبقى في إصغاء للمعلّم كيما يكون مصباحًا لخطانا ونورًا في سبيلنا (مقطع 156). إن اللقاء بيسوع في الكتاب المقدّس يقودنا إلى الافخارستيّا، حيث تبلغ هذه الكلمة ذروة فعاليتها (مقطع 157).
الفصل الخامس: الجهاد الروحيّ والتيقّظ المستمرّ
الجهاد والتيقظ: تدعونا كلمة الله: "تسلّحوا بسلاح الله لتستطيعوا مقاومة مكايد إبليس أفسس 6/11. إنّ مسيرتنا نحو القداسة هي نضال مستمرّ (مقطع 162). في هذه المسيرة يشكّل نموّ الصلاح والنضج الروحي والارتقاء في المحبّة، الثق الموازن في مواجهات الشرّ. لا أحد يستطيع المقاومة إذا اختار أن يتوقّف في طريق مسدود، وأن يكتفي بالقليل/ وأن يمتنع عن الحلم بتقديم تفان أجمل للرب. (مقطع 163).
الفساد الروحي: الفساد هو نيجة فتور، وانجراف وسبات، إن الذين يمتلكون هذه الصفات لا يجدون شيئًا خطيرًا يلومون أنفسهم عليه، فينتهون إلى الفتور والفساد الروحيّ. (مقطع 164). إن الفساد سيء جدًا لأنّه عمى مريح ومكتف ذاتيًّا، حيث يبدو كلّ شيء في النهاية جائزًا: الخداع، الافتراء، الأنانيّة الخ. (مقطع 165). في إحدى عظاته في بيت القديسة مارتا حذّر البابا في 13 تشرين الأوّل 2018 من الشياطين المؤدبّة والديبلوماسيّة: "فالشيطان إما يدمِّر مباشرة بواسطة الرذائل والحروب وأعمال الظلم أو يدمِّر بطريقة مؤدَّبة ودبلوماسيّة: فيصبح صديقك ويستدرجك فتفتر وتسير على درب روح العالم".
التمييز: تأتي ضرورة التمييز في عالم اليوم لأن اساليبه خدّاعة: "يتّضح لنا هذا الأمر عندما يحصل شيء جديد في حياتنا، فيجب التمييز إن كان هذا الخمرة الجيدة الآتية من الله أم جديدا خادعا من العالم وروح الشرير. تقودنا قوّة الشرير إلى عدم التغيير، إلى ترك الأمور على حالها، إلى اختيار الجمود والصلابة، فنمنع بالتالي روح الله أن يعمل فينا. (مقطع 168). يفيدنا التمييز على الدوام كيما نستطيع أن ندرك أوقات الله ونعمه، كي لا نهدر إلهام الربّ وكي لا نتخلّى عن دعوته للنمو. إنّ التمييز المصلّي يتطلّب الانطلاق من الاستعداد للإصغاء لله وللآخرين. وحده الشخص المصغي لديه الحرية في التخلّي عن وجهة نظره الجظئيّة وغير الكافية، وعن عاداته ومشاريعه. لذا فهو مستعدّ لقبول دعوة تهدّم ضماناته ولكنها تقوده إلى حياة أفضل (مقطع 172). هذا الإصغاء يعني الطاعة للإنجيل باعتباره المعيار النهائي. يستدرك البابا ويكمل بالقول: لكن أيضًا (الطاعة) لسلطة الكنيسة التعليميّة التي تحافظ على الإنجيل، بمحاولة لإيجاد في كنز الكنيسة ما قد يكون أكثر خصبًا لآنيّة الخلاص. (مقطع 173)
منطق العطاء والصليب: هناك شرط أساسيّ للنموّ في التمييز وهو أن نمرّن أنفسنا على صبر الله وأوقاته. (مقطع 174).
مريم: أرغب أن تتوّجُ مريم هذه التأملات، لأنّه ما من أحد عاش تطويبات يسوع كما عاشتها هي. (مقطع 176)
خاتمة
بعد هذه القراءة الشاملة للإرشاد الرسوليّ يتبيّن لي أن البابا يدعو إلى القداسة من خلال تبنّي ثقافة غير الثقافة القائمة إن في العالم وإن في الكنيسة. فالبابا ينفي روح العالم القائم على السلطة والمال، وينفي روح الإكليريكيّة في الكنيسة. فالقداسة إذًا قبل أن تكون ممارسات هي تطبيع ثقافة إنسان اليوم بتعليم يسوع ومنطق الإنجيل. يختصر المطران جان بيار دالفيل البلجيكي، أسقف لياج، هذا الإرشاد الرسوليّ بفصوله الخمسة، بخمسة أسئلة:
1* القداسة لمن؟ هي لك أنت، يخاطب البابا كلّ بمفرده، ولكنها تُعاش في الجماعة ومعها ولأجلها.
2* القداسة لماذا؟ مقابل العدّوين للقداسة يقترح البابا نقطتين إيجابيّتين: بواسطة القداسة تصحي حياة المؤمن طريق للاكتشاف، والعيش بموجب النعمة وشكر الله عليها.
3* ما هي القداسة؟ هي عيش التطويبات
4* كيفيّة عيش القداسة؟ التحمّل بصبر ووداعة، روح الفرج الدعابة، جرأة، في وسط الجماعة، وفي الصلاة.
5* متى تُعاش القداسة؟ منذ الآن، وفي كلّ حين، لذلك وجب الجهاد والتمييز.
رأي آخرون أنّ الدعوة إلى القداسة شيء هام وأساسيّ في حياة الكنيسة، إنّما يرفضون نهج البابا وطريقته اللذين لا يخلوان من انتقاد طريقة جامدة في فهم الإنجيل وعيشه. وانتقاده أيضًا نمط حياة رفاهي عند البعض المتمسّك بتعليم الكنيسة وتقليدها، ويحملّ الناس أثقالًا دون أن يمسّها بإصبعه. دعا هذا الأمر البعض إلى انتقاد البابا وطريقته في قيادة الكنيسة وانتقاد مضمون تصريحاته أو مقابلاته المنشورة والتي تناقض صحّة الإيمان.
يعتبر بعض النقّاد الكاثوليك أن البابا الحالي لا يولي أهميّة كبرى للعقيدة، لا بل ينتقد المتمسّكين بالعقيدة بتسميتهم الغنوصيون والبيلاجيون الجدد. بينما تبقى دار الصحافة الفاتيكانية مُحرجة في تصحيح مقولات أطلقها البابا وتناقض العقيدة والإيمان وتعليم الكنيسة.
لا أحد ينكر أهمية القداسة، إنّها هدف كلّ مسيحيّ ولكن طريقة التعليم التي يتبنّاها البابا، يعتبرها البعض أنّها غير مقبولة وغير موافقة للمقاربة الكاثوليكيّة الرسميّة في الكنيسة.