خلقتنا لك يا ربّ، وقلبنا لا يزال قلقًا حتّى يرتاح فيك

خلقتنا لك يا ربّ، وقلبنا لا يزال قلقًا حتّى يرتاح فيك

أيّها الشباب والشابات الأحبّاء،

حاول القديس أغسطينوس من خلال هذه العبارة أن يستبق الشعار الّذي اخترتموه لهذا اللقاء: "عَ قلبي شوفك"، ووضع الأسس العميقة له لاهوتيًّا وفكريًّا وفلسفيًّا.

قد خلقنا الله، وبات في عطشٍ دائم ليقيم حواراً معنا، ألم ينهي المسيح حياته على الأرض بتلك الصرخة: "أنا عطشان"؟ وبخلقه لنا وضع في قلوبنا هذا العطش كي نسعى نحن بدورنا لإقامة حوارٍ معه. لذلك، لا يمكن أن ترتاح قلوبنا إلّا إذا ارتاحت بالله. 

وإذا أردنا التفكير بمسيرة المسيح معنا، نرى أنّه هو الذي يُرجع بناء هذا الحوار الحقيقي بين الله والانسان، إذ أنّه كان قد انقطع وتشوّه بسبب خطيئة الانسان، خطيئة آدم وحوّاء، تلك الخطيئة الأولى، التي أراد فيها الانسان أن يحلّ مكان الله. ولا تزال هذه التجربة قائمة في حياة وقلب كلّ إنسان. ففي الحياة إغراءات كثيرة تحاول إقناعنا أنّنا من خلالها نحن قادرون أن نحقّق ذواتنا وسعادتنا من دون الله. ويركّز البابا فرنسيس في كتاباته على خطر الوقوع بتجربة عالم الاستهلاك الّذي يجرفنا جميعًا. 

فمَن منّا مثلاً لا يستسلم لوسائل التواصل الإجتماعي، وكم من بيننا يُمضون وقتهم في التلهّي بهذه الوسائل؛ إنّها دون شكّ نعمة كبيرة، ووسيلة رائعة للاتّصال والتّواصل، ولكنّها، حين تتحوّل من وسيلة إلى صنمٍ نعبده، تصبح خطرًا كبيرًا. وكم تحمل هذه الوسائل من الإغراءات والأكاذيب التي تُضِلّ وتُبعد عن الحقيقة، ولن يمكننا أن نتخطّى هذه الإغراءات كلّها، إلّا إذا التقينا بالمسيح وأعطيناه من وقتنا.

يُحكى في إطار السينودوس من أجل الشبيبة عن التمييز. وما هو هذا التمييز سوى أن يطرح كلٌّ منّا على ذاته سؤال: ما معنى وجودي؟ ما معنى حياتي؟

هذا القلق الّذي في داخل كلٍّ منّا، وهذا البحث الدائم عن السعادة والنجاح، لن نجد له جواباً إلّا حين نهتدي إلى النبع الحقيقي الّذي هو يسوع المسيح ونعيش لقاءً حقيقيًّا معه. 

هذا ما حصل مع التلميذين الأولين الّلذين تبعا المسيح ( يو 1/ 35-42)، فسألهما ماذا تريدان، عمّا تبحثان؟ فأجاباه بسؤالهما إيّاه: أين تُقيم؟ وأجابهما: تعاليا وانظرا. وعندما أمضيا وقتاً معه تمّت الأعجوبة في حياتهما. لا يأتي النصّ على ذكر أعجوبة التبدل في حياتهما، بل ذكر لتا ثمرة هذا التبدّل. بقرب المسيح، ميّزا واكتشفا أنّه هو مُروي عطشهما الحقيقي. ولم يستطيعا بعد ذلك الإبقاء على اكتشافهما هذا لنفسهما فقط، لا بل حملا هذا الإكتشاف للآخرين. إلتقيا بسمعان فأتيا به إلى المسيح، الذي بدّل إسمه وسّماه "الصخرة"، وفي ذلك دلالة على مشروع الله لكلّ إنسانٍ منّا دون استثناء. والمسيح ينظر إلى كلّ وجهٍ من وجوهكم ويقول: إذا أردتم فعلًا إرواء عطشكم والوصول إلى الفرح والسعادة الحقيقيّة، أنا أرسم لكم المسيرة المطلوبة، مسيرة اللقاء بمن خلقنا وتحقيق الغاية التي من أجلها خُلقنا.

 والمسيرة لا تكون إلّا جماعيّة! فما الذي يجمع الناس ببعضهم وبالله؟ رباط الجماعة ورباط الكمل، على حدّ قول القديس بولس، هي المحبة.

يصف القدّيس يوحنّا الله في رسالته الأولى فيقول: إنّ الله محبّة. وفي 1كور 13  يُنهي بولس  نشيد المحبّة بقوله أنّنا حين كنّا أطفالاً كنّا نفكّر كالطفل، وكلّما كبرنا يكبر معنا تفكيرنا وتنضج نظرتنا للحياة فنراها بشكلٍ مختلف. والاكتشاف الحقيقي، هو حين نكتشف أنّ المحبّة هي الأساس، وأنّ لا معنى لكلّ ما هو من دون محبّة، أي من دون الله، بما أنّ الله محبّة. وسيظلّ قلبنا قلقًا، ولن نجد الراحة الحقيقيّة إلّا حين نرتاح بالمحبة، بالله.

وهكذا، إنّ شعار هذا اللقاء: "عَ قلبي شوفك"، يعبّر عن صرخة يطلقها الله باتجاه كلّ واحدٍ منّا، كما يمثّل صرختنا التي نعبّر من خلالها عن عطشنا للقائنا بالله. وهذا البحث والسعي المُتبادل هو مكان اللقاء حيث تتجلّى المحبّة. 

وإذا كنّا اليوم قد اجتمعنا فهذا لأنّ هناك عطش حقيقي يحرّك شبيبتنا ويحرّكنا من الدّاخل، ويدفعنا للبحث عن اللقاء بالله، بالرغم من كلّ الصعوبات والتحديات والإغراءات الّتي نتعرّض لها. وهذا العطش يدفعنا لنصرخ للربّ: ع قلبي شوفك... أين تُقيم؟ فيأتي الجواب: تعالوا وانظروا.

في الكلمة التي ألقاها في افتتاح السينودوس من أجل الشبيبة، يقول البابا فرنسيس، أنّه حينما دخل قاعة السينودوس، قد شعر بقوّة حضور الشبيبة، تلك القوّة التي تبعث الإيجابيّة والحماس، وتفرض جوّاً من البهجة والفرح ليس في هذا المكان فقط بل في كلّ الكنيسة وحول العالم. 

ومن الكلمات الّتي أُحبّ أنّ أردّدها، قولي أنّ الشبيبة ليست مستقبل الكنيسة، بل هي حاضرها. فأنتم أيّها الشباب حاضرُ الكنيسة، أنتم نبضها، وأملها ورجاؤها وهذا ما عليكم أن تتذكّروه. 

وبما أنّنا اجتمعنا اليوم، والمسيح حاضر في وسطنا، فلا يمكننا الخروج من هذا اللقاء، والعودة إلى بيوتنا ورعايانا وكأنّ شيءً لم يكن. علينا أن نكون كهذين التلميذين فنخبر عن اختبارنا الرائع الذي اختبرناه اليوم، وندعو الناس بدورنا لأن يعيشوا اختباراً مماثلاً.


نصلّي اليوم معكم جميعًا على نواياكم ونوايا عائلاتكم التّي نشكر الله من أجلها، ومن أجل رعاياكم وكهنة رعاياكم الذين يبذلون ذواتهم كي يبقى فرح الإنجيل متجلٍّ فيما بينكم. كما نشكر الله على كلّ الطلّاب الإكليريكيّين في الأبرشيّة، والذّين يتهيّأون كي يحملوا يومًا بدورهم مشعل الخدمة الكهنوتيّة الرعويّة، ويرافقوا شبيبة الأبرشيّة ويتكلّمون بلغتها.

لكن لا تنسوا أنّه كما للشبيبة طاقة، فكذلك للمتقدّمين في السن طاقةٌ أيضًا، وإذا أردنا اللقاء بالمسيح، فعلينا أن ننفتح على الآخر، أيًّا كان الآخر لنتجنّب الوقوع في الإنعزاليّة والأنانيّة، وهكذا يكون الشباب حاضر الكنيسة ومستقبلها، وهكذا نعبّر فعلًا عن أنه: على قلبنا نشوف الله. وعندها فقط ترتاح قلوبنا فعلاً بالله. له المجد إلى الأبد. آمين


 2018 قرنة شهوان، اللقاء الأبرشي للشبيبة