الشدياق مارون شمعون
مقالات/ 2018-08-28
تعيشُ كنيستُنا في قلب العالم: تفرحُ بانتصاراتِه، تفتخرُ بتطوّراتِهِ، تتأذّى إثرَ تعدّياتِهِ وتتألّمُ في ظلّ حروبِهِ. كنيستُنا متجذّرةٌ في العالم وتمتدُّ نحو السّماء، تعملُ في العالم وتتطلّع نحو مجدِ المسيح الآتي في آنٍ معًا.
يُعاني عالمنا اليوم من مشاكلٍ كثيرة، تتآكله البطالة وينهشه الفقر. الهوّة الإجتماعيّة تكبُر، والإنسان أمسى مُعرًّى ومُهجّرًا ومُنتهكًا ومُهمّشًا ومَقتولا.
في ظلّ هذا المشهد العالميّ الحالي، ما هو دور الشّباب في الكنيسة وفي العالم؟
يتوجّه البابا القدّيس يوحنّا بولس الثّاني إلى الشّباب في 14 أيّار 1985 في أمرسفورت، ويحمّلهم دور "الوعي النّقدي" في قلب الكنيسة والعالم. هذا الوعي النّقديّ يتطلّبُ جرأةً في التّفكير وطاقةً ومثابرةً لا يمتلكها إلّا الشّباب. الشّبابُ يتوقُ إلى التّغييرِ ولديه القوّة والعزم للوصول إلى مبتغاه.
وفي هذا السياق كتب يوحنا الرسول:"كتبتُ إليكم أيّها الشّبّان، إنّكم أقوياء وكلمة الله مقيمةً فيكم، فقد غلبتُم الشّرير" (1يو 2/14). هذه الطّاقة الّتي يمتلكُها الشّباب، إن استُثمِرَت وطُوّرَت ووُجِّهَت جيّدًا، قادرةٌ أن تُحدثَ التغيير. ويُضيف البابا القدّيس يوحنا بولس الثّاني أنّ الكنيسة بدورِها مدعوّةٌ أن تكونَ دومًا شابّةً ، أي أن تكون متجدّدةً وقويّةً ومندفِعَةً نحو التطوّر. وهذا التّجدّد تَستَقيِه من شبيبتها المؤمنة الفاعلة في المجتمع. أقول "فاعلة" لأنّ التّجدّد يأتي في العمل وفي الحراكِ وفي عيشِ المبادئِ والقيم الإنجيليّة.
اليوم، يرتبطُ العمل الفاعل في الكنيسة وفي العالم بِبُعدَين من المهمّ العمل عليهما مع الشّبيبة، هما المواطَنة والحرّيّة الدّاخليّة. من ناحيةٍ أولى، التنّشئة على المواطَنة الحقيقيّة هي أفضلُ سبيلٍ لعيشِ الإيمان بفعاليّةٍ في المجتمع وفي العالم، ومن ناحيةٍ ثانية، التّمرّس على اكتسابِ الحرّيّة الدّاخليّة يُحصّنُ الفرد ضدّ كلّ التّأثيراتِ الخارجيّة ويَدَع روح الله تعمل في الإنسان.
أوّلًا، تخلق التنشئة على المواطنة عند الشّباب الحسَّ بالآخر والمسؤوليّة تجاه كلّ ما هو مشترك، وتزرع احترام كلّ ما هو خاصّ. والمواطنة الّتي نتكلّم عنها هنا تنطلق من بلدٍ ما، وتصبو إلى "مواطنةٍ عالميّةٍ"، حيث تصبح كلّ قضيّةٍ في العالم مسؤوليّةَ كلّ فردٍ أينما يكن. حينئذٍ يرى الشابّ نفسه جزءًا من كلِّ مشكلةٍ ومفتاحًا لكلِّ حلٍّ، فتنبعُ رغبته في التّغيير من داخله. عندها، يشعر بالمسؤولية تجاه العاطل عن العمل والمهمّش والمضطهد في السّجون والفقير والمعنّف، ويشعر بالمسؤوليّة تجاه البيئة المتدهورة والتّلوّث المدمّر، ويرى نفسه مسؤولًا عن تفكّك العائلات وعن اجتياح عالم المعلومات، ويبدأ بالعمل.
ثانيّا، إنّ التّمرّس على الحرّية الدّاخليّة يساعدُ الشّبابَ في رسالتهم في قلب الكنيسة والعالم. قال الرّبّ لإبراهيم: "اتْرُكْ أَرْضَكَ وعَشِيرَتَكَ وَبَيْتَ أَبِيكَ وَاذْهَبْ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُرِيكَ، فَأَجْعَلَ مِنْكَ أُمَّةً كَبِيرَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ اسْمَكَ"(تك 12، 1-2) ف"ارتحل أبرام"(تك 12، 4). يطلبُ منّا الرّب أحيانًا أن نتركَ جذورنا الأرضيّة وأصولنا البيولوجيّة الّتي هي حَسَنةٌ بحدِّ ذاتها لكي يُرينا ما هو أفضل لنا وللجماعة. إنّ الحرّيّة الدّاخليّة التّي يجب اكتسابها بالتّمرّس، معناها في هذا السّياق، عدم الإنحياز لأيّ أمورٍ أرضيّة. أي البقاء على مسافةٍ موحّدة من جميع الأشياء كي نكون مستعدّين أن نسمع الرّب ونلبّي دعوتَهُ وننطلق للخدمة.
باختصار، إنّ التّنشئة على المواطنة تُطوّرُ عند الإنسان الوعيَ لتمييزِ ما هو خيرٌ للفرد وللجماعة، وتُنمّي عنده حسّ المسؤوليّة، فيصبح مؤهّلًا لرَصد التّعدّيات والانتهاكات ومستعدًّا للعمل الفاعل في العالم. أمّا الحرّيّة الدّاخليّة عند الإنسان فتُعطيه جهوزيّةً لاستقبال كلمة اللّه وروحه الّذي هو أساسُ كلِّ حركةٍ وعملٍ وحياة.