عندما غزا الرجل الأبيض أرض أميركا، لم يكن رفض السكّان الأصليين له لأسباب استراتيجيّة أو عسكريّة أو سياسيّة، بل لاختلاف في النظرة إلى الأرض.
فبينما كان المستوطنون الجدد يتملّكون الأرض فيما بينهم لقاء المال، ويستصلحونَها ويزرعونَها وينهبون ثرواتِها الدفينة... ويلوّثونَها، كان الهنود- الأميركيون يقدّسونَها ويقبلون منها، بعرفان جميل بَنَوِيّ، كلّ ما تقدّمه لهم من غذاء وماء ومأوى وعناية. إنَّها، على حَدّ تعبيرهم، الأمّ التي منها وُلدوا وعلى صدرها استندوا وتمتّعوا بالحياة التي تهبها لهم بسخاء، وإلى رحمها يعودون.
ويرجّع لنا التاريخ صدى الفردوس حيث غرس الله في وسطه شجرة الحياة، وشجرة معرفة الخير والشرّ، وأمّن لِلإنسان كلّ وسائل العيش والرفاه. غير أنّ هذا الأخير أكل من الشجرة المحرَّمة، ظانّاً نفسه سيّد الأرض وليس ابنها، فاستبدّ وانتهك المحرّمات. وما تزال الأرض تئِنّ تحت وطأة أقدامه القاسية وتلهث وتكاد تختنق من الانبعاثات السامّة والنفايات التي تلوّث آبارها الجوفيّة وأنْهارها وبحارها وتقضي على كلّ مظاهر الحياة. فمنذ أن اكتشف الإنسان الزراعة في أواخر العصر الحجري الحديث بدأ يدخل في دوّامة قد لا يخرج منها إلاّ وقد أتلفت يداه كلّ ما رآه الله في خلقه جميلا. إذ اعتقد أنّ في وسعه التمييز بين الخير والشرّ، فأخذ يصلح ويرتّب ويشذّب «ما عجز الله عن صنعه»، وغفل عن محاولة فهم الأرض والإصغاء إليها والاستسلام البنوي إلى حضنها.
ولأنّه لم يُصغِ ولم يدرك، بالرغم من ادّعائه المعرفة، قضى بآلاته القاسية على توازن في عناصر الطبيعة، استغرقت الأرض ملايين السنين لتصل إليه. وهو ينشد الراحة والرفاه، أخرج بآلاته الحضَريّة أصواتاً نفرت منها الطيور وخدشت الآذان وسرّبت الضجيج إلى أعماق القلوب.
«فعندما تُقطع آخر شجرة، ويُسَمَّم آخر نَهر، وتُصطاد آخر سمكة، حينئذٍ ستكتشف أنّ المال لا يُؤكَل» (مثل هندي).
وَعَت الشعوب «البدائيّة» حقيقةً، عبّرت عنها في قصص ميثولوجيّة؛ أنّ الأرض هي «أمّ». وشعوب كثيرة اعتبرتها «أُمًّا عذراء». وأنشدَ مار أفرام السريانيّ للعذراء مريم قائلاً: «يا أرضاً غير محروثة!».
إنّها الأرض، العذراء، والكنيسة؛ من رحمها يولد الناس. يعبرون في المياه، لحياة جديدة. والمولود من الروح روح. والأرض-المادّة روحيّة هي، في بُعدِها الذي يغوص حتّى أعماق الحياة الأزليّة. فيها وُلِدنا ومنها أخذنا كلّ عناصر الحياة. ولم تعد، بنظر المؤمن، سلعة تُباع في سوق الرقيق. ففي أعماق وجدانه حنين إليها، يدفع به للثورة على مجتمع استهلاكيّ محدود الرؤيا، وعلى الآلة التي تنفث سمًّا وتلوّث الأرض والسماء وأعماق البحار. وبقدر ما يتصالح مع محيطه الحيوي، بقدر ذلك يمكنه الإصغاء إلى همسات الروح.
وليس المطلوب أعمالاً خارقة، بل ثقةً بالأرض واستسلاماً لقانون الحياة. إنّه خروج-خلاص، من جحيم صنعه الإنسان، نحو فردوس غرسه الله. هذا ما قام به يسوع (ابن الانسان) عندما أراد الصيام، فذهب إلى البريّة التي لم تغزها المدنية المتوحّشة، وأقام بين أشجارها ووحوشها أربعين يوماً. وعلى خُطاه سلك العديد من المسيحيين الذين عبروا حاجز العداوة بين الإنسان وأمّه الأرض، بعد مصالحة قام بِها آدم الجديد، يوم عُلِّق على الصليب وسقاها من دمه معيداً إليها خصبها الأوّل. وعاد هو إلى رحمها، حيث يرقد الموتى، من أجل حياة جديدة.