تحت قبّة الصّرح البطريركي في بكركي، وبوضع يد صاحب الغبطة والنّيافة البطريرك مار بشارة بطرس الرّاعي، سيم بعد ظهر الجمعة ٩ نيسان ٢٠٢١ الخوري أنطوان فارس بو نجم مطراناً على أبرشيّة أنطلياس المارونيّة.
القدّاس الاحتفالي حضره لفيف من الأساقفة والكهنة والفاعليات الرّوحية والاجتماعية والسّياسية، إضافةً إلى عائلة بو نجم وأهل قريته هرهريّا والقطّين وجمع من المؤمنين.
عظة الرّاعي
البطريرك الرّاعي قال في عظته: "نجتمع بفرح لنصلّي من أجل أخينا المطران المنتخب لأبرشيّة أنطلياس العزيزة، أنطوان فارس بونجم، فيما يعطي جوابه من القلب ليسوع الذي يسأله، كما سأل سمعان-بطرس: "يا إنطوان بن فارس أتحبّني حبًّا شديدًا مميّزًا؟ وهو يجيب من دون خوف ولكن مع إدراك لضعفه وسقطاته: "يا ربّ أنت تعلم كلّ شيء، وأنت تعلم أنّي أحبّك".
أضاف: "أيّها الأخ العزيز أنطوان المطران المنتخب، أنت تدرك حجم المغامرة التي تخوضها بأن تكون محبًّا للمسيح بشيء من البطولة. هذا تحدٍّ كبير أخذتَه على نفسكَ عندما قبلت إنتخابك من سينودس أساقفة كنيستنا المقدّس، بإلهام من الروح القدس، والشركة الكنسيّة الممنوحة لك من قداسة البابا فرنسيس.
كان يسوع يعرف تمامًا أنّ سمعانَ-بطرس يحبّه من كلّ قلبه، من خلال علامات ومبادرات ظهرت في ظروف مختلفة. فكان السؤال ثلاثًا: "أتحبّني حبًّا شديدًا؟" ليؤكّد هذه المعرفة، وليعلن أنّ كلّ سلطة في الكنيسة والمجتمع والدولة تستمدّ روحها ومعناها وديناميّتها من محبّة الله حبًّا شديدًا ومميّزًا. بفضل حبّ سمعان-بطرس هذا ليسوع حبًّا سابقًا وحاضرًا، إختاره يسوع رأسًا للكنيسة وراعيًا للنفوس التي إقتناها بدمه على الصليب.
هكذا أنت أيّها الأخ العزيز. فالمسيح العارف بجوهر نفسك، ومكنونات قلبك، وأفعالك، دعاك واختارك بنعمةٍ خاصّة لتكون أسقفًا لأبرشيّة أنطلياس العزيزة وأنت إبنها. هذا ما نعلنه في بداية الرسامة: "النعمة الإلهيّة وموهبة ربّنا يسوع المسيح السماويّة تدعو وتختار أنطوان لترفعه من الدرجة الكهنوتيّة إلى درجة الأسقفيّة على كرسيّ أبرشيّة أنطلياس".
هذه "النعمة التي تدعو وتختار" هي مجّانيّة ونابعة من قلب المسيح" الكاهن الأزلي وراعي الرعاة" (1 بطرس 5: 4). ما يعني أنّ الأسقفيّة ليست حقًّا مكتسبًا لأحد، ولا هي هدف في سبيله تنصبّ المساعي.
أجل، عرفك المسيح الربّ منذ دعاك لدخول إكليريكيّة غزير، وأثناء متابعة دروسك الفلسفيّة واللاهوتيّة في كليّة اللاهوت الحبريّة بجامعة الروح القدس الكسليك ثمّ خلال سنوات إختصاصاتك العليا في كلّ من لوبيانو بإيطاليا لمتابعة دورة حول روحانيّة الكاهن مع حركة الفوكولاري، والمعهد الكاثوليكيّ بباريس، حيث حزت على ماجستير في اللاهوت الرعائيّ مع إختصاص في الحوار المسيحيّ الإسلاميّ. وكنتَ في كلّ ذلك تتهيّأ من كلّ قلبك وفكرك وقوّتك، لتكون كاهنًا على صورة المسيح و"وفق قلبه" (إرميا 3: 15).
بهذه الروح إنطلقت في خدمتك الكهنوتيّة والرعويّة في كلّ مكان ومهمّة ومسؤوليّة أُسندت إليك تباعًا من راعيي الأبرشيّة المثلّثي الرحمة المطران يوسف بشارة والمطران كميل زيدان، وواصلتها مع سيادة أخينا المطران أنطوان عوكر الذي تولّى بكلّ تفانٍ رعاية الأبرشيّة مدّة سنةٍ ونصف كمدبّرٍ بطريركيّ.
لقد شملت خدمتك الكهنوتيّة أربعة قطاعات: الخدمة الرعويّة في كلّ من رعيّة مار الياس-ديك المحدي، ومار يوسف العطشانة، وسيّدة النجاة-عين علق، ومار جرجس-الشاوية، ومار روحانا-القنيطرة، فمار الياس-عين عار.
والتعليم المسيحيّ في كلّ من مدرسة مار يوسف قرنة شهوان، وثانويّة بكفيّا الرسميّة.
ومسؤوليّات إداريّة، على مستوى الأبرشيّة منها: رئاسة دير مار جرجس بحردق، ونائب أسقفيّ للتعليم والرسالة، ومسؤوليّة التعليم المسيحيّ في المدارس الرسميّة، ومشرف على راعويّة الشبيبة، ومنسّق للكهنة المتطوّعين في حركة الفوكولاري في لبنان.
ومرشديّات: للطلّاب الثانويّين في مدرسة مار يوسف-قرنة شهوان، ولكشّافة لبنان في المدرسة عينها، ولفريق السيدة في عين عار، وفرقة العائلات الجديدة في الرعيّة إيّاها، ولجماعة الإخوة المريميّين في مدرسة شانفيل-ديك المحديّ.
لقد أعطيتَ، أيّها الأخ العزيز، في كلّ هذه القطاعات، من كلّ قلبك فكسبت محبّة الناس كبارًا وشبيبةً وصغارًا. وهم اليوم يفرحون معك لدعوتك الجديدة، ويعتبرون أنّك مستحقّها ومستاهلها، وهم على الأخصّ يصلّون من أجلك، كما أنت ستحملهم وكلّ الأبرشيّة في صلواتك وقدّاسك اليوميّ الذي تستمدّ منه القوّة والهداية والتعزية.
في رتبة رسامتك عنصران مكوّنان لأسقفيّتك: وضع اليد، ومسحة الميرون.
بوضع اليد، يمتلكك الله ويقول لك: إنّك خاصّتي. أنت تحت حماية يديّ، تحت حماية قلبي. أنت محفوظ في عمق يديّ، وفي متّسع حبّي. فأمكث في مساحة يديّ، وأعطني يديك. ستمرّ في صعوبات متنوّعة في خدمتك الأسقفيّة، ربّما تحملك على شيء من اليأس والتراجع في الحماس. لكن لا تنسى أنّ المسيح يمدّ يده وينتشلك ويعيد إليك الثقة والشجاعة. تذكّر كيف مدّ يده إلى سمعان بطرس، عندما صدمه الصيد العجيب وخرّ على قدمي يسوع قائلًا: "تباعد عنّي أنا رجلٌ خاطئ" كيف أخذه بيده وقال: "لا تخف! سأجعلك صيّاد بشر" (لو 5: 8). بعد كلّ إعتراف بالخطأ والضعف، يضاعف الله مسؤوليّاتنا. تذكّر أيضًا كيف مدّ يسوع يده إلى بطرس وانتشله عندما مشى على مياه البحيرة وأحسّ أنّه يغرق، وصرخ "يا ربّ نجّني!" فأمسك يسوع بيده وانتشله وقال: يا قليل الإيمان، لماذا شككت؟" (متى 14: 39-41). سرّ ويد الرب معك وهي تنتشلك.
أمّا مسحة اليدين بالميرون فهي علامة الروح القدس وقوّته. تُمسحُ اليدان، لأنّ اليد هي أداة العمل، ورمز القدرة على مواجهة العالم؛ وتُمسحان لتكونا في خدمة محبّة الله ولتنقلا عمله الخلاصيّ بواسطة الأسرار المقدّسة. إنّهما بذلك علامة القدرة على العطاء والإبداع عبر المحبّة.
بهذين الفعلين يقيمك المسيح الربّ في مصاف خلفاء الرسل الإثني عشر. وبهذه الصفة أنت موضوعٌ في خدمة الجماعة مع معاونيك الكهنة والشمامسة راعيًا لقطيع المسيح، وباسمه وبشخصه، معلّمًا للعقيدة، وكاهنًا للعبادة المقدّسة، ومدبّرًا للكنيسة (الدستور العقائديّ في الكنيسة، 20). إنّك تسير أمام شعبك كقدوة، ووسط شعبك كواحد منه، ووراء شعبك لتحميه من الضياع والذئاب.
ونختم رتبة الرسامة بإعلانك أسقفًا لأبرشيّة أنطلياس، وبتسليمك شاراتها الحاملة رموز سلطتك وخدمتك".
وختم: "إنّا إذ نهنّئ أبرشيّة أنطلياس العزيزة براعيها الجديد، والسيدة الوالدة والشقيق والشقيقة وعائلتيهما، والمرحوم الوالد الذي يشاركنا من سمائه، وكل الأنسباء، وإخواننا السادة المطارنة أعضاء سينودس كنيستنا المقدّس، نصلّي إلى الله كي يعضد الأسقف الجديد في رسالته، فتكون لخلاصه الشخصيّ، وخير الأبرشيّة، وتمجيد الله الواحد والثالوث الآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين"
كلمة بو نجم
وفي نهاية الاحتفال كانت للمطران الجديد أنطوان بو نجم كلمة جاء فيها:
"وَمَنْ أنا يا ربُّ لتختارَني عنْ غيرِ استحقاقٍ لأكونَ رسولَكَ في وطنٍ عالقٍ في عُنقِ الزُّجاجةِ في أصعبِ مرحلةٍ من تاريخِهِ؟؟...
من أنا؟ وما زلتُ أتَهَجَّأُ طريقَكَ وأَسْتَكْشِفُ ملامِحَ وجهِكَ في الوجودِ؟؟
إخوتي في الرَّبِّ...
لقد عِشْتُ خبُراتي مع اللهِ في أكثرِ من مجالٍ: خَدَمْتُ رعيَّةَ مار الياس عين عار منذ حوالي عشرينَ سنةً، كما علَّمْتُ التَّعليمَ المسيحيَّ في مدرسةِ مار يوسف قُرنةِ شهوان، وكنْتُ مُنَسِّقًا لدائرةِ التَّعليمِ المسيحيِّ فيها، فمُرشداً لفوجِ الكشّافةِ، ومُرشداً عامًّا في جمعيّةِ كشّافةِ لبنانَ ولكنَّني لم أُفكّرْ يومًا بأنّني سأصيرُ أُسقُفاً في كنيستي المارونيَّةِ الحبيبةِ.
لا بل كنْتُ أتوقُ الى الحياةِ الرَّهبانيّةِ وأحلُمُ بارتداءِ الإسكيمِ الرَّهبانيِّ الّذي لطالما شدَّني إليه القدِّيسُ شربل. ولم يَدُرْ في بالي أنَّ الرَّبَّ يدعوني لارتداءِ الإسكيمِ الأسقفيِّ لأكونَ أسقفًا راهبًا متجرّدًا لا يهمُّه سوى بِناءِ ملكوتِ اللهِ؛ لرُبَّما كانَ تفكيري بالدَّعوةِ الرَّهبانيّةِ هروبًا منَ الواقعِ المُشَوَّشِ الأليمِ وبحثًا عنِ الرَّاحةِ والسَّلامِ خلفَ أسوارِ ديرٍ، بعيدًا عن ضوضاءِ المجتمعِ وفسادِه.. وإذا بالرّبِّ يسألُني: Quo Vadis الى أين أنتَ ذاهبٌ؟ أُريدُكَ مع شعبي، أُريدُك راعياً لشعبي...
وها أنا اليومَ أقِفُ بينَكُم أُسقُفاً مستعِدًّا لخوضِ مغامرةِ الحبِّ حتّى بذْلِ الذَّاتِ... أليْسَ هذا ما علَّمَنا إيّاهُ سيِّدُنا يسوعُ المسيحِ عندَما قالَ: "ما مِنْ حبٍّ أعظمُ من أن يبذلَ الانسانُ نفسَه في سبيلِ أحبّائِه".
أُمّي الكنيسةُ المارونيّةُ، أنحني قدّامَكِ مُقَدِّمًا كلَّ طاعةٍ وطاقةٍ وحبٍّ، كما لقداسةِ البابا فرنسيس