رسالة إلى الكهنة والمؤمنين بمناسبة بداية السّنة الطقسيّة

رسالة إلى الكهنة والمؤمنين بمناسبة بداية السّنة الطقسيّة

رسالة راعي أبرشيّة أنطلياس المارونيّة
إلى الكهنة والمؤمنين
بمناسبة بداية السّنة الطقسيّة 2022-2023
بعنوان:
"شهود الرجاء وحاملو الفرح"

"أيّها الأخوة، لا نُريدُ، أَنْ تحزنوا كما يحزنُ سَائِرُ الـنَّاسِ الَّذِينَ لا رَجَاءَ لَهُم" (1 تس 4/ 13).
أحبّائي، كهنة، رهبان وراهبات، مؤمنين ومؤمنات الأبرشيّة،

1- أن نكونَ شهودًا للرجاء الذي لا يُخيّب ونحملَ الفرحَ الحقيقيَّ إلى الناس، هذه أسمى دعوةٍ ورسالة يزيّنُ بها الربُّ يسوع نفوسَنا نحن المعمّدين والمكّرسين، علمانيّين وأساقفة، كهنة، رهبانًا وراهبات. نعيشُ ونعلنُ الرجاءَ في وسط عالمٍ يتخبّط في الألم وكلِّ أنواع المِحن والمصائب.
نريدُ اليوم، أن نتحمّل مسؤوليّةَ مواعيدِ معموديّتِنا ودعوتنا بأن نُعلنَ دون كللٍ ولا ملل، أنّ الفرحَ لا يزال ممكنًا لأنّنا "بالرجاء خُلِّصنا" ولأنّ محبّةَ الله ورحَمته وبشرى قيامتهِ قد أُفيضتْ في قلوبِنا وحياتِنا بكلِّ تفاصيلِها وأبعادها.

2- لقد إختارتني الكنيسة وبهديٍ من الروح القدس، كي أكون خادمًا لكم بنعمة المسيح، الكاهن الأوحد الذي منه نستمدُّ جميعُنا كهنوتَنا وخدمتَنا. وبالرغم من قساوة الجائحة التي اجتاحت عالمَنا وبلادَنا ورعايانا وبيوتَنا، سَعيتُ أن أتعرّفَ عليكم جميعًا، فكانت لي زيارات إلى جميع رعايا الأبرشيّة على مدى سنةٍ كاملة، واجتماعات مع شبيبة الرعايا ضمن اللّقاءات السينودسيّة التي عُقدت على صعيد القطاعات وقد سمحتْ لي هذه المشاركات الإطّلاعَ على أحوالكم، والتحدّيات  التي تواجهونها على صُعد الحياة كافة.
واليومَ، في بداية هذه السنة الطقسيّة، جئتُ إليكم في هذه الرسالة، لأؤكّدَ لكم صلاتي على نواياكم،  ولأشارككم محبّتي، وبعضًا من تطلّعاتي، وأُعلمكم مدى حاجتي الماسّة  لكلِّ واحدٍ وواحدةٍ منكم كي نتمكّن سويًّا، وبالإصغاء الى إلهاماتِ الروحِ القدس وإلى بعضِنا بعضًا، من تحقيق رغبة الربّ بأن نكون جماعةً مقدّسةً لا عيبَ فيها رُغمَ ضعفِنا وهشاشتِنا من خلال مسيرةِ توبةٍ تُنهِضُ فينا ديناميكيّةَ رجاءٍ وتفتحُ لنا طريقًا نحو عالمٍ أفضل. أليس هذا هو السينودس الذي يدعونا إليه البابا فرنسيس؟

3- أصغيتُ بعمقٍ إلى انتظاراتكم، وتأمّلتُ بتمعّنٍ بما تنتظرونه بخاصّةٍ في هذه الظروف الإستثنائيّة التي نعيشها، بحيث يُمزّق القلق عالمَنا، وتتآكلُنا الهمومُ اليوميّة: الإقتصاديّة والمعيشيّة والاجتماعيّة والوطنيّة... ونشعر بالخوف جرّاء تحدّياتٍ داهمة تهدّدُ قيمَنا ومبادئنا التي ترّبينا عليها، وقد أشار إليها المجمع الفاتيكانيّ الثاني بقوله: "يعيشُ الجنسُ البشري اليومَ طورًا جديدًا من تاريخِهِ يتميَّزُ بتغييراتٍ عميقةٍ وسريعةٍ تمتدُّ رويدًا رويدًا إلى الكرة الأرضيَّةِ بأسرِها. إنَّ هذه التغيُّرات التي يُحدثُها الإنسانُ بفضلِ ذكائِهِ وعَمَلِهِ الخلّاق تَرتدُّ عليه، وعلى أحكامِهِ ورغباتِهِ الفرديَّةِ والجماعيّة، وعلى طُرُقِ تفكيرِهِ وتصرُّفاتِهِ، سواء بالنسبةِ إلى الأشياءِ أو بالنسبة إلى أَمثالِهِ، إلى حدِّ أنَّهُ من الممكن أن نتكلَّمَ على تبديلٍ جذريٍّ حقيقيٍّ إجتماعيٍّ وثقافيّ تنعكسُ نتائجُهُ حتى على الحياةِ الدينيّة." (دستور رعائي في "الكنيسة في عالم اليوم"  - Gaudium et spes - ، فرح ورجاء، 4). غير أنّنا، راعٍ وكهنة، على يقينٍ بأنّ الروحَ القدس سيمدُّنا بكلِّ النّعَمِ التي نحتاجُها من أجل أن نحقّقَ معًا ملكوتَه في هذه البقعة الجغرافيّة من الوطن "أبرشيّة أنطلياس المارونيّة".

4- في قلبِ هذا العالمِ، أدعوكم أن تكونوا شهودًا لرجاء المسيح وحاملي الفرح إلى الناس، كلِّ الناس. لقد أدهشتني مواقفُ شبيبتنا قي اللّقاءات السينودسيّة بعمقها ونقاوتها وجدّيتها، وذكّرتني باختبارٍ عاشه تلاميذ يسوع عندما واجهوا العاصفة (مر 4/ 35-41) واكتشفوا حاجتَهم لمخلّص في وقتٍ كان يسوع نائمًا "عَلى الوِسَادَةِ في مُؤَخَّرِ السَّفينَة". لقد شعروا بالضّياع والشكِّ وبغيابِ أيّة إمكانيّةٍ للنجاة... كما هي حالنا اليوم، نختبرُ أنّ  قوى الشرّ والموت تقوى علينا وعلى كنيستنا حتى أنّنا نكادُ نصرخُ مثل الرسل: "يا مُعَلِّم، أَلا تُبَالي؟ فنَحْنُ نَهْلِك!".
في روايةِ الإنجيل ينام يسوع. نومُه هذا يرمزُ إلى موته. ومن ثمّ ينهضُ ونهوضُهُ هو قيامتُه. حينذاك شعر التلاميذ الغارقون في خوفهم وشكِّهم بالأمان وبهدوء العاصفة، واكتشفوا أنّ يسوع هو المخلّص الوحيد.
شبيبتنا اليوم، "التي تهلك" في سفينة هذه الحياة، دعوتنا هي مساعدتهم ليلتمسوا حضور يسوع المخلّص في وسطهم.

5-    أدعوكم إخوتي الكهنة أن تُذَكّروا دون مللٍ أبناءَ رعاياكم بحقيقة القيامة. كما أدعوكم أحبائي أبناء وبنات الأبرشيّة أن تعلنوها لعائلاتكم، لأولادكم، لأصحابكم، لزملائكم في المدرسة والجامعة والعمل، لجميع شركائكم في الوطن... ولكن قبلَ ذلك، إختبروها وعيشوها في وسط الأزماتِ المتعدّدة الوجوه التي نعيش. كلُّ أزمةٍ بالنسبة إلينا نحن المؤمنين، مهما كانت خطورتُها وصعوبتُها، هي فرصةٌ لإعادةِ النّظر بأولوّياتنا وطريقةِ عيشِنا وأهدافنا. 

6-   بُعدان يميّزان الرجاءَ الذي أدعوكم أن تعيشوه:
البُعد الزمني-التاريخيّ: نحن نؤسِّس مقاربتَنا لفضيلة الرجاء على فكرةٍ أساسيّة يذكرُها القدّيس بولس في رسالته الى أهل روما حيث يَرِدُ تعبيرُ "رجاء" بصورةٍ متكرّرة (12مرّة) وينطلق في تحليله من إبراهيم الذي ترك كلَّ شيء وانطلق مُستجيبًا لدعوة الله له و"آمَنَ رَاجِيًا عَلى غَيرِ رَجَاء" (4/ 18). عندما ترك إبراهيم أرضَ موريّا مع إبنه إسحق، لم يتخلَّ فقط عن ماضيه ولا عن أرض آبائه فقط، بل تخلّى عن مستقبله واضعًا إيّاه بين يدَي الله. لذلك فالرجاءُ فضيلةٌ تختصرُ وتجمعُ كلَّ ما نعيشُه في الحاضر من آلامٍ وانتظارات، ولكنّها تتأسّسُ أصلًا على الماضي بمعنى أنها تقومُ على أمانةِ الله التي اختبرها الشعبُ في مسيرةِ تاريخهِ مع خالقِه ومخلّصه. في هذا الرجاء، أدعوكم أن نضعَ حياتَنا وما ينتظرُنا، أي مستقبلَنا، بين يدَي الله. الرجاء هو الانتظارُ بثقةٍ أنّ مواعيدَ الربّ سوف تتحقّقُ بكلِّ تأكيد.

 البُعد الإفخارستيّ-الروحيّ: رجاءُ إبراهيم يكتملُ في المسيح ورجاؤنا نحن يتأسّسُ على موتِه وقيامته. إكتمالُ الرجاء في حدثِ موتِ وقيامةِ يسوع المسيح، نعيشُه بشكلٍ كاملٍ في احتفالِنا بالإفخارستيا حيث نُحيي موتَ يسوع وقيامته أسراريًّا. في القداس، نختبرُ آلامَ يسوع وهذا الإختبار يرفع حياتَنا وتأمّلَنا وفكرَنا إلى عالمٍ آخر، ومجدِه الذي ورثناه بالمسيح.

7-   كيف ننطلق إلى هذا العالم ونحن نحمل الرجاء الذي نعيشه في قداسنا اليومي؟
 الرجاء هو تلك الفضيلة التي تعبّر عن وَعينا وقبولِنا لفكرةِ أنّنا فقراء وضعفاء فلا نعودُ نقلقُ ونخافُ ولا تخفُّ عزيمتُنا ولا يجدُ اليأسُ سبيلًا الى حياتنا لأنّ الله رجاؤنا، "فإِنَّ اللهَ لم يُعطِنا رُوحَ الخَوف، بل رُوحَ القُوَّةِ والمَحبَّةِ والفِطنَة". (2 طيموتاوس 1/ 7). لا تقتصر خدمة الكلمة على مواهبنا وقدراتنا ومَحدوديَّاتنا الشخصيّة فقط، بل على الروح القدس الذي يشعّ من خلالنا، ويعمل فينا من خلال الصلاة وممارسة الإيمان.
• الرجاء هو حالةٌ قلبيّة تدفعُنا الى  توقّع كلَّ شيء من الله بمجانيّة "كفقراء لا شيء لنا". ننتظر كلَّ شيء كنِعَمٍ من الله. هذه الحقيقة تظهرُ بصورةٍ عميقةٍ وواضحةٍ في الاحتفالِ الإفخارستي وفي عبادةِ القربان لأنّه في الإفخارستيا كلُّ شيء مُعطى لنا بمجّانيّة. لسنا مُستحقّين أن نجلسَ الى مائدته. هو الذي يدعونا جميعًا بل نحن مشدودون بهذه الرغبةِ الكبيرة التي عبّر عنها يسوع بقوله "شهوةً إشتهيت أن آكلَ الفصحَ معكم" (لو 22/ 15) (البابا فرنسيس، "شهوة إشتهيت"، 4). هذا المسيح الذي هو الكلُّ في الكلّ، يُعطى لنا في الإفخارستيا. هذا المسيحُ الخبزُ الحيّ يُعطى لنا. هذا الروحُ المعزي يُعطى لنا.
• وبالتالي لا يمكننا أن نَعبُرَ الى الرجاء كما يقولُ البابا القدّيس يوحنا بولس الثاني ("العبور الى الرجاء" 1993)، إلاّ إذا كنّا فقراءَ القلب أي عندما نقتنعُ أن ضمانتَنا الوحيدةَ هو المسيح. طالما نتمسّكُ بثرواتٍ جمعناها وضماناتٍ بشريّة سياسيّة وضعنا فيها كلَّ ثقتنا، فلن نتمكّن من أن نعيشَ الرجاءَ بطريقةٍ صادقة، والذي يتمثّل بالاتّكال الكلّي على الله وحده. هذا هو السبب في أنَّ اللهَ يسمحُ بأن نمرَّ بحالاتِ فقرٍ على مستويّاتٍ عديدة في حياتنا، ويسمحُ بأن نفقدَ بعضَ الضمانات وتحدثَ في مسيرةِ حياتِنا بعضُ السقطات، لنتعلّمْ أخيرًا الاعتمادَ عليه فقط وعلى رحمتِه. ويبقى القدّيس بطرس مثالًا حيًّا على هذه الحقيقة. لقد تطلّب به الأمرُ إنكارَه للمسيحِ ثلاثَ مرّات (متى ٢٦/ ‏٦٩-‏٧٥) أثناءَ الآلام حتى يتعلّمَ ألا يعتمدَ بعدَ الآن على فضائلهِ وشجاعتهِ وقوّةِ حماستهِ البشرية، بل على محبّةِ يسوع وحدها.
حتى في حياتنا الروحيّة، نحن نتجرّب دائمًا بفكرة الإقتناء أو الغنى. لأنّنا نريدُ أن نكونَ واثقين من حتميّةِ خلاصنا، نعمل على "بناء أهراءات"، نركض وراء القداديس والصلوات هنا وهناك، ونضعُ كلَّ آمالِنا في هذه "الكميّات" التي جمّعناها حتى نجابهَ صعوباتِ الحياة. لكنّنا ننسى أنّ النعمةَ لا يمكنُ أن تكونَ في الإحتياطِ أو مخزّنة. النعمةُ تؤخذ كلَّ يومٍ بيومه كما حدثَ في روايةِ المنِّ في الصحراء إذ عندما قرّرَ الشعبُ أن يكدّسها ضربَها العفنُ (خر 16/ 20: "فلَم يَسمَعوا لِموسى، وأَبْقى مِنه أُناسٌ إِلى الصَّباح، فدَبَّ فيه الدُّودُ وأَنتَنَ"). هذا لا يعني أن لا نسعى كي يكونَ لنا مهارات أو نتحلّى بفضائل، المهم أن لا نتّكل على ضماناتٍ واهية، حتّى في الأبانا نطلب من الربّ أن يعطينا خبزنا "كفافَ يومنا" لأنّ الله يعرف حاجتنا.

8-   هذا الرجاء الذي أدعوكم أن تعيشوه وتشهدوا له يُبقيكم ويُبقي العالم من خلالكم مفتوحًا على الله كما يقول البابا بندكتوس السادس عشر في رسالته العامّة "خُلِّصنا في الرجاء" (عدد 34). أضِف إلى ذلك، أنّ هذا الرجاء يُنتج فينا فرحًا حقيقيًّا تتوق إليه قلوبُنا جميعًا في هذه الأزمنةِ الرديئة التي نعيش ويدفعُنا أيضًا ألاّ نبقى حيّاديّين بل نحمله الى الناس الغارقين في الحزن واليأس.
أُعاينُ الخوفَ المتحكّمَ فيكم يوميًّا من خلال لقاءاتي مع أبناء وبنات الأبرشيّة وأشعرُ بألمٍ كم أنّ الحزنَ يلفُّ حياتَنا جميعًا. لذلك، أرغبُ في أن أشارككم بهذا الشأن بفكرتَين عن الحزنِ وعن الفرحِ ضارعًا الى يسوع ينبوعِ الفرح أن يُخرجَنا من بؤسِنا ويُلهمَنا كي نكون "بالرَّجَاءِ فَرِحِين" كما يُشير إلينا بولس الرسول (روم 12/ 12).

9-  الحزن نوعان: حزنٌ مرضيٌ لله وحزنُ العالم (2 قور 7/9- 10). يقول القديس فرنسيس السالسي (مدخل الى العبادة، 1985، ص. 221): "يكون الحزنُ خيرًا أو شرًّا بحسب ما يُنتِجُ في داخلنا من ردّاتِ فعل... إنّ الشيطانَ يتّخذُ من الحزنِ ذريعةً ليجرّبَ الصالحين. فهو يحاولُ أن يجعلَ الأشرارَ يفرحون بخطيئتهم ويجعلَ الصالحينَ يحزنون بأعمالِهم الحسنة. يحوّلُ بشاعة الخطيئة الى حلاوة فيُسهِّل بذلك على الإنسان عملَ الشرّ ويُحوِّل جمالَ الخير الى بشاعة بحيث يدفعنا الى الإبتعاد عن فعل الخير. أمّا الحزن المرضي لله هو الذي يصنع فينا توبةً ويحثُّنا على أن نحوّلَ كلَّ محنةٍ وألمٍ الى فرصةٍ للنضوجِ الروحيّ والإنسانيّ والعلائقيّ. هذا الحزن يقرّبنا من الله ومن القريب. أن نكون حزينين لأنّنا خطأة بحيث يقودُنا ذلك إلى تغييرِ حياتنا، فهذا يكونُ حزنًا جيّدًا مرضيًّا لله. أن نحزنَ لرؤية الآخرين يعانون، يولّدُ فينا شعورًا بالمحبّةِ والتضامن، هذا يكون أيضًا حزنًا جيّدًا.
أمّا حزنُ العالم فهو حزنٌ سيّءٌ يخلق فينا قلقًا واضطرابًا وخوفًا ويأسًا ومللًا من الصلاة (“acédie”  selon Évagre le pontique)، هو حزنٌ يخدّرُ العقل ويقتلُ القدرةَ على التمييز.
أدعوكم أن تتخلّصوا من هذا الحزن العالمي فلا تكونوا مثل أولئك الذين يحزنون "كسَائِرُ الـنَّاسِ الَّذِينَ لا رَجَاءَ لَهُم" (1 تس 4/ 13)، بل أطلبوا الفرحَ الحقيقيَّ من ذلك الذي اختبر الحزنَ المرضيَّ لأبيه فقال: "نَفْسِي حَزِينَةٌ حَتَّى الـمَوت. أُمْكُثُوا هُنَا واسْهَرُوا مَعِي" (مت 26/ 38).
تـعالوا، أحبّائي، نمكثُ ونسهرُ معه لأنّه الوحيد الذي يمكنه أن يخلّصَنا من حزنِ العالم الذي نتخبّط فيه ويعطينا الفرحَ المرجوَّ ولا نكون بعد الآن مثل ذلك الشاب الذي مضى حزينًا (مت 19/ 22). الحزنُ المرضيّ لله يُنشئ فينا فرحًا مرضيًّا لنا، فرحًا طوباويًا ("ولـكِنَّ حُزْنَكُم سَيَتَحَوَّلُ إِلى فَرَح" يو 16/ 20).

10-   هذا الفرح المرجوّ هو علامةٌ لتحرّرنا من أيّ تعلّقٍ بالأمورِ الماديّة، وهو أيضًا تعبيرٌ عن التّسليم المطلق للربّ في كلِّ ما يحصلُ لنا في مسيرتِنا الأرضيّة. الفرحُ ليس بالملذّات، وليس صداحَ الضحكات التي تخفي في معظم الأحيان آلامًا عميقة، كما يكرّرُ البابا فرنسيس بشكلٍ مستمرّ (فرح الإنجيل، 2013). الفرح الذي نحن بحاجة إليه هو عطيّةٌ من الروح القدس (غل 5/ 22-23). إنّه السلام الداخليّ والسكون الذي نشعرُ به دومًا بالرّغم من  كلِّ العذابات والإحباطات. أعرفُ كم هو صعبٌ أن نحافظَ على هذا الفرح المسيحيّ في ظروف عيشنا الصعبة. وحده الإيمان يجعلنا متمسّكين بالفرح ويساعدنا على اكتشافه  في حياتنا اليوميّة إذا كان الله موجودًا في تفاصيل حياتنا اليوميّة:
فرح الحياة بجمالها: نفرحُ بولادة طفل، نفرحُ بنجاحٍ حقّقناه، نفرحُ بشريك الحياة، نفرحُ بتحقيقِ حلمٍ من أحلامنا... بالرغم من أشكال الحزن والتعاسة، أعطانا الربُّ وسائلَ عديدةً لكي نفرحَ ولكي ننقلَ الفرحَ الى الآخرين. والأهمُّ من كلّ ذلك، أنّنا نختبرُ الفرحَ عندما نمنحُه للآخر... كالفرح الذي يمكن أن نساهم فيه بكلمة طيبة (أمثال 12/  25: "الغَمُّ في قَلبِ الإنْسانِ يُحَطِّمُه والكَلِمَةُ الطيّبةُ تُفَرِّحُه")، أو حتى بنظرة عطوفة ( أمثال 15/ 30: "نورُ العُيونِ يُفَرِّحُ القُلوب والخَبَرُ السَّارُّ يُسَمِّنُ العِظام").
فرح الخلاص-الفرح الروحيّ: يعرض لنا الإنجيل الفرحَ كثمرة من ثمار الخلاص، بما أنّنا مخلّصون، لا يمكننا إلّا أن نفرح. هذه دعوُة الله لنا وقد نقلها لنا الإنجيل. هذا الفرح لا يلمسه سوى المتواضعين، الّذين أفرغوا أنفسَهم ليمتلئوا من حضور الربّ الّذي هو ضمانتهم الأكيدة. إنّه فرح الطوبى الّذي يحصل عليه تلميذُ المسيح ورسوله، ليس فقط في ولادة يسوع بل في كلّ حياته الأرضيّة حتى الصليب. يتذوّق بولس في خدمته الرسوليّة فرحَ الصليب هذا، وهو عنصر من عناصر شهادته: إن خدّام الله وإن كانوا "حزانى"، يكونون "على الدوام فرحين" (2قور 6/ 10) والرسول يفيضُ بالفرح في الشدائد (2 قور 7/ 4).
يتحدّث  البابا فرنسيس في إحدى عظاته (2018) عن الفرح بقوله: أنّه  "نفحة المسيحي وأسلوبُ تعبيره" (le souffle, la manière de s’exprimer du chrétien) . نحن نعيش في عالمٍ يَعرضُ علينا كلّ يوم العديدَ من الأمور للترفيه والاستمتاع. لكنّ كلّ هذا ليس الفرح لأنّه ليس شيئًا نشتريه من السوق. إنّه عطيّة من الروح. نحن مدعوّون أن نُعلن من خلال فرحِنا بأنّنا مخلّصون وبأنّه قد غُفِرَ لنا  وافتدانا المسيح بسكبِ دمه على الصليب. 

11-    أدعوكم لتكونوا فرحين مع علمي بصعوبة هذا الأمر في ظروفنا المأساويّة ولكنّنا، كمؤمنين مسيحيين، هذا ما يدعونا إليه يسوع "أُطْلُبُوا تَنَالُوا فَيَكْتَمِلَ فَرَحُكُم" (يو 16/ 24). ألم يتكلّم هو عن فرحه الكامل في ليلة آلامه حين تناول العشاء الإفخارستي مع تلاميذه متوجّهًا الى أبيه على مسمعهم: "لِيَكُونَ فَرَحِي مُكْتَمِلاً فِيهِم" (يو 17/ 13)؟ أدعوكم لتكتشفوا أنّ الله معنا ولن يتركنا يتامى. ميّزوا جيّدًا فتكتشفون حتمًا أنّ الخيرَ لا يزالُ يقوى على الشرّ. جدّدوا ثقتكم بأنّ الله معنا وأبواب الجحيم لن تقوى علينا، هذه الفكرة كفيلة بمنحنا فرحًا عميقًا، فرح الإنتماء للمسيح.

12-    أشكر إخوتي كهنة الأبرشيّة لروحِ التعاونِ الإيجابيّ الذي يعملون به وإن دلَّ هذا الأمرُ على شيءٍ فإنه يدلُّ على عمقِ روحانيّتهم الكهنوتيّة وعلى سينودوسيّةِ عملِنا ورسالتِنا المشتركة. كما أشكرُكم جميعًا على التزامِكم الإيمانيِّ الذي يُثمرُ تضامنًا ومحبّةً في هذا الظرفِ العصيبِ من حياتِنا الوطنيّة. 

وأصلّي كلَّ يومٍ على نيّتِكم وأتضرّعُ الى المسيحِ، بشفاعةِ أمِّه، سيّدةِ الرجاءِ والفرح، أن يُعطيَنا جميعًا نعمةَ الرجاءِ فنفرحَ بلُقياه في كلَّ وقتٍ وفي كلٍّ عملٍ نعملُه، ونحملَ هذا الفرحَ الحقيقيّ الى كلِّ المقهورين والبائسين. وأطلبُ صلاتَكم ليرسلَ الربُّ من عليائه حكمتَه لي، كما أرسلَها الى سليمان الملك، كاشفًا لي مشئيتَه القدّوسة، فأعرف ما المرضيّ لديه، وأُدرك ما هو ضّروريّ لخلاص  نفوس أبناء الكنيسة الموكلين إليّ، له المجد إلى الأبد.

يسوع هو رجائي وأنتم مصدرُ فرحي ! 



تحميل المنشور