كَسر الكلمة - الرسائل -62- الأحد السابع بعد عيد الصليب

كَسر الكلمة - الرسائل -62- الأحد السابع بعد عيد الصليب

الدينونة العظمى 
الآيات (روم 12: 9-21)
9 وَلْتَكُنْ مَحَبَّتُكُم بِلا رِيَاء: تَجَنَّبُوا الشَّرّ، ولازِمُوا الـخَيْر.
10 أَحِبُّوا بَعْضُكُم بَعْضًا مَحَبَّةً أَخَوِيَّة، وبَادِرُوا بَعْضُكُم بَعْضًا بِالإِكْرَام.
11 كُونُوا في الاجْتِهَادِ غَيْرَ مُتَكَاسِلِين، وبالرُّوحِ حَارِّين، ولِلرَّبِّ عَابِدِين،
12 وبالرَّجَاءِ فَرِحِين، وفي الضِّيقِ ثَابِتِين، وعَلى الصَّلاةِ مُوَاظِبِين،
13 وفي حَاجَاتِ القَدِّيسِينَ مُشَارِكِين، وإِلى ضِيَافَةِ الغُرَبَاءِ سَاعِين.
14 بَارِكُوا الَّذِينَ يَضْطَهِدُونَكُم، بَارِكُوا ولا تَلْعَنُوا.
15 إِفْرَحُوا مَعَ الفَرِحِين، وَابْكُوا مَعَ البَاكِين.
16 كُونُوا مُتَّفِقِينَ بَعْضُكُم مَعَ بَعْض، مُتَوَاضِعِينَ لا مُتَكَبِّرِين. لا تَكُونُوا حُكَمَاءَ في عُيُونِ أَنْفُسِكُم.
17 ولا تُبَادِلُوا أَحَدًا شَرًّا بِشَرّ، واعْتَنُوا بِعَمَلِ الـخَيْرِ أَمَامَ جَمِيعِ النَّاس.
18 سَالِمُوا جَمِيعَ النَّاس، إِنْ أَمْكَن، عَلى قَدْرِ طَاقَتِكُم.
19 لا تَنْتَقِمُوا لأَنْفُسِكُم، أَيُّهَا الأَحِبَّاء، بَلِ اتْرُكُوا مَكَانًا لِغَضَبِ الله، لأَنَّهُ مَكْتُوب: "ليَ الانْتِقَامُ، يَقُولُ الرَّبّ، وَأَنَا أُجَازِي".
20 ولـكِنْ "إِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فأَطْعِمْهُ، وإِنْ عَطِشَ فَأَسْقِهِ، فإِنَّكَ بِفِعْلِكَ هـذَا تَرْكُمُ عَلى رأْسِهِ جَمْرَ نَار".
21 لا تَدَعِ الشَّرَّ يَغْلِبُكَ، بَلِ اغْلِبِ الشَّرَّ بِالـخَيْر.

مقدّمة
يتوجَّه الرسول بولس إلى أهل روما في هذه الرسالة (روم 12: 9-21)، مُعلنًا رغبته بزيارتهم، وعارضًا لهم التَّعليم الصَّحيح، في ما يخصُّ التحرُّر من عبوديَّة الخطيئة، والإيمان بوعود الله، وترك الحياة القديمة، وعيش حياةٍ جديدة حرَّة مع المسيح، فيها من المجد، الَّذي سبق المسيح فأظهره من تواضعٍ، وحريَّةٍ، وعملٍ دؤوبٍ لتغليب منطق الله على منطق البشر.
لكن ما هو منطق الله، الَّذي على المؤمن أن يتبنَّاه؟ أن يضع نفسه في خضمّ معركة تغليب الخير على الشرّ، عبر أعماله، الَّتي تطفح محبَّةً وخيرًا لجميع النَّاس.

شرح الآيات
لقد اختارت اللجنة البطريركيَّة للشؤون الطقسيَّة أن تكون رسالة الأحد السابع بعد عيد الصَّليب: الدينونة العظمى (روم 12: 9-21) جزءًا من الرسالة الَّتي شرحناها في عيد انتقال مريم العذراء (روم 12: 9-15). لذلك، نعود ونضع بين أيديكم الشَّرح نفسه للآيات، مع تغييرٍ في المقدّمة والخلاصة الروحيَّة اللَّتين تناسبان موضوع أحد شفاء الأعمى؛ وقد اقتضى التنويه والتوضيح، تفاديًا لأيّ تساؤلٍ عن تكرار آياتٍ سبق شرحها، لا سيّما وأنّ الشرح اللَّاهوتي هو نفسه، ولا يمكن أن يتبدَّل ويتعدَّل.  

9 وَلْتَكُنْ مَحَبَّتُكُم بِلا رِيَاء: تَجَنَّبُوا الشَّرّ، ولازِمُوا الخَيْر.
الكلمة اليونانيَّة agápe، الـمُترجَمة هنا إلى "محبَّة"، هي أرقى أنواع المحبَّة، الَّتي تصف الله نفسه (راجع 1 يو 4: 8). استُخدمت، كلمة agápe، في الرسالة إلى أهل روما، بمعنى "محبَّة الله لنا"، إلى هذه النقطة من الرسالة (راجع روم 5: 5، 8؛ 8: 35، 39)، حيث أرشد بولس أهل روما إلى أن يكون لهم هذا النوع من المحبَّة (agápe) لبعضهم البعض.
قال بولس أوَّلًا: "لتكن محبَّتكم بلا رياء". كانت الكلمة اليونانيَّة anupókrisis، الـمُترجمة هنا بعبارة "بلا رياء"، تُستخدَم في زمان بولس لوصف الممثّل على المسرح، الَّذي يرتدي قناعًا، ويمثّل كما لو كان شخصًا آخر. فاستخدام بولس الكلمة اليونانيَّة يعني "المحبَّة المزيَّفة"، مثل يهوذا الَّذي خان يسوع بقبلةٍ على خدّه (راجع لو 22: 47، 48). لذا ناشد بولس أهل روما ألَّا يكونوا كذلك.
"تجنَّبوا الشرَّ ولازموا الخير"، عبارةٌ اقتبسها بولس من النبيّ عاموس: "أبغضوا الشرَّ وأحبُّوا الخير" (عا 5: 15). قد يستغرب القارئ لماذا أتبَعَ بولس وصيَّة المحبَّة بوصيَّة تجنُّب الشرّ. وما ذلك، إلَّا لأنَّه لا تكون المحبَّة حقيقيَّةً إن لم يُبغض الانسان ما يعاكسها. لأنَّ المحبَّة الصادقة تكره الشرّ وتلتصق بالخير.
بالعودة إلى النصّ اليونانيّ، من المستحسن ترجمة عبارة "تجنَّبوا الشرّ ولازموا الخير" بــ"أبغضوا الشرَّ والتصقوا بالخير". فالفعل اليونانيّ apostugéô، الـمُترجَم هنا بــ"تجنَّبوا"، يعني "أبغضوا، إكرهوا، إشمئزُّوا مِن"؛ لأنَّه من الممكن أن يصبح الشَّرُّ مألوفًا عندهم بحيث لا يعود يُدهشهم. لذا ينبغي أن يُبغضوا الشرّ لأنَّه ضدَّ الله ومشيئته. علاوةً على ذلك، يجب أن "يلتصقوا بالخير"؛ فكلمة "التصقوا" هي من اليونانيَّة kollômenoi، ومعناها "الالتصاق معًا كالصمغ". 

10 أَحِبُّوا بَعْضُكُم بَعْضًا مَحَبَّةً أَخَوِيَّة، وبَادِرُوا بَعْضُكُم بَعْضًا بِالإِكْرَام.
وردت في الآيتَين التاسعة والعاشرة الكلمات الثلاث للـ"محبَّة" المستخدمة باللغة اليونانيَّة في العهد الجديد: agápe، و filía، و storgê. استخدم بولس كلمة agápe في الآية التاسعة، وأمَّا filía، و storgê فاستخدمهما في كلمتَين مركَّبتَين في الآية العاشرة. لكلمة filía علاقة بالعواطف الجيَّاشة، بينما تشير storgê إلى محبَّة أفراد الأسرة الواحدة.
فعل "أحبُّوا"، الـمُترجم من الصفة اليونانيَّة filóstorgoi يعني "الحبّ بمودَّة". بمعنى آخر، من المستحسن ترجمة الصفة بــ "وادّين". و"المحبَّة الأخويَّة" هي ترجمة الاسم اليونانيّ المركَّب filadelfía. والكلمتان اليونانيَّتان تركّزان على الناحية العائليَّة للكنيسة. أراد بولس للمسيحيّين، سواء أكانوا من أصل يهوديّ أم أمميّ، أن يعتبروا بعضهم بعضًا كعائلة واحدة. وبصفتهم إخوة في المسيح، عليهم أن يكونوا "وادّين بعضهم بعضًا بمحبَّةٍ أخويَّة"، أي أن يطلبوا ما هو أفضل لبعضهم البعض. 
يُعبَّر عن المحبَّة المتبادلة "بالإكرام" المتبادل. كلمة "كرامة" هنا هي من اليونانيَّة timê الَّتي قد تحمل معنى "التقييم والتقدير"، ولكنَّها هنا تُشير إلى معنىً أعمق: "الثَّمن"، أي إكرام الأخ "الَّذي دُفع فيه ثمن المسيح"، وهي الكلمة نفسها الَّتي استعملها بولس في رسالته الأولى إلى أهل قورنتس قائلًا: "قد اشتُريتُم بثمنٍ كريم" (1 قور 6: 20). هذا يعني أنَّ أقلّ واحد من الإخوة قيمته أو ثمنه دم المسيح.
لا يتكلَّم بولس على الكرامة وحسب، بل "مقدِّمين بعضكم بعضًا في الكرامة". ففعل proegéomai يُترجَم بـــ "مقدِّمين"، عوضًا عن "بادروا"، لأنَّه فعلٌ يونانيّ يعني أن "أقدِّم القريب عليَّ حاسبًا إيَّاه أفضل منِّي". وهذا الفعل بصيغته في روم 12: 10، لا يستعمله بولس في كلّ رسائله إلَّا مرَّةً واحدة هنا. في مقدِّمة نشيد إخلاء المسيح، يستخدم بولس قسمًا من هذا الفعل، ويكتب في رسالته إلى أهل فيليبّي ما يلي: "لا تفعلوا شيئًا عن خصامٍ ولا بمجدٍ باطل، بل باتضِّاع، وليحسب كلُّ واحدٍ منكم غيره أفضل منه (hegoúmenoi)". فإن كان ثمن أخي "دم المسيح"، كما رأينا أعلاه، فكم يجب بالحريّ أن أعيش معنى الاتِّضاع الحقيقيّ الَّذي يعطيه بولس تعريفًا: "أن أحسب غيري أفضل منِّي". من هنا نرى في فكر القدِّيس بولس تدرُّجًا من التَّواضع "أن يحسب الانسان نفسه لا شيء" إلى الاتِّضاع "أن يحسب غيره أفضل منه". في التواضع، يبقى الانسان معرَّضًا لخطر صغر النفس والحزن، أمَّا في الاتِّضاع فيلازمه الفرح.

11 كُونُوا في الإجْتِهَادِ غَيْرَ مُتَكَاسِلِين، وبالرُّوحِ حَارِّين، ولِلرَّبِّ عَابِدِين،
انتقل بولس، في هذه الآية، إلى الكيفيَّة الَّتي تؤثّر بها المحبَّة على خدمة الرَّبّ، فقال: "في الاجتهاد غير متكاسلين، وبالرُّوح حارّين، وللرَّبّ عابدين". يدلُّ هذا على ميزةٍ ثالثة للمحبَّة (agápe)، وهي الحماس.
ناشد بولس أهل روما أن لا يكونوا "متكاسلين". يجب أن لا يكون المسيحيّ كسولًا في ما يختصُّ بخدمة الرَّبّ؛ بل ينبغي أن يكون غيورًا. استمرَّ بولس قائلًا: "بالرُّوح حارّين". الكلمة اليونانيَّة الـمُترجَمة إلى "حارّين" هي zéô، ومعناها أن "يكون حارًّا أو يغلي"؛ أي إن لم يبقَ المؤمن قريبًا من الله و"عابدًا له"، يقلّ حماسه. 

12 وبالرَّجَاءِ فَرِحِين، وفي الضِّيقِ ثَابِتِين، وعَلى الصَّلاةِ مُوَاظِبِين،
من السَّهل أن يكون الانسان متحمِّسًا عندما يسير كلُّ شيءٍ على ما يُرام. لكن تكون الحالة صعبة عندما لا يسير شيءٌ على ما يُرام. لذلك، ذكر بولس في روم 12: 12 ثلاث صفات للمحبَّة (agápe) تجعلها ثابتة في الأيَّام المشرقة وفي الأيَّام القاتمة.
تكون المحبَّة مُفعَمة بالرجاء في المقام الأوَّل بغضّ النظر عمَّا يحدث. ولأنَّ المحبَّة تفرح بالرجاء، تصبر في الضيق وتثبت. الكلمة اليونانيَّة thlípsis، الـمُترجَمة هنا إلى "ضيق"، تعني بصفةٍ أساسيَّة "ضغط"؛ الضغط الَّذي يكون عبئًا على الانسان. كان المسيحيّون في زمان بولس يشكّلون نسبةً ضئيلةً جدًّا من السكان، وكانوا معرَّضين لأوامر السلطات. كان الضيق بالنسبة إليهم حقيقة واقعيَّة ضاغطة. ووسط هذا "الضيق"، استطاعوا أن يصبروا ويثبتوا تحت الضغط الَّذي لا يُطاق.
الصلاة عاملٌ مهمّ يدلّ على رجاء الانسان وصبره. لذا يوصي بولس قائلًا: "على الصلاة مواظبين". فالصلاة بالنسبة إلى المحبَّة ليست مسألة خيار، بل ضرورة.

13 وفي حَاجَاتِ القَدِّيسِينَ مُشَارِكِين، وإِلى ضِيَافَةِ الغُرَبَاءِ سَاعِين.
يذكر بولس في هذا الآية طريقَتَين يمكن بهما التعبير عن المحبَّة الأخويَّة: الأولى، "المشاركة في حاجات القدّيسين"، أي بالمسيحيّين المعوزين. تشمل المحبَّة الاهتمام بكلّ شخص. ولكن هناك اهتمامٌ خاصّ بالمحتاجين. وتشمل "الحاجات" ضروريَّات الحياة كالطعام والملبس والمسكن؛ والثَّانية، "ساعين إلى ضيافة الغرباء". إنَّ عبارة "ضيافة الغرباء" هنا مُترجَمة من اليونانيَّة filoxenía، ومعناها "محبَّة الغرباء". لا تعني هذه العبارة دعوة الأصدقاء إلى البيت لقضاء أوقاتٍ ممتعة معًا؛ بل المقصود بها هو دعوة الغرباء. 

14 بَارِكُوا الَّذِينَ يَضْطَهِدُونَكُم، بَارِكُوا ولا تَلْعَنُوا.
فعل "باركوا" هنا هو من الفعل اليونانيّ eulogéô، ومعناه "كلام جيّد" أو "مديح". في هذه الحالة، يعني "المدح" الكلام الجيّد الموجّه إلى الله نيابةً عن الَّذين يسيئون إلينا. فعل "تلعنوا"، لا يعني "الشتيمة"، بل عكس "باركوا". وهذا هو بالتحديد ما أوصى به الرَّبّ يسوع: "باركوا لاعنيكم، وصلُّوا لأجل الَّذين يسيئون إليكم" (لو 6: 28).
هذا أمرٌ صعب، ولكنَّه غير مستحيل. تركّز هذه الآية، بصفةٍ أساسيَّة، على اضطهاد المسيحيّين، ولكن يمكن تطبيقها أيضًا على حالاتٍ أخرى من سوء المعاملة. 

15 إِفْرَحُوا مَعَ الفَرِحِين، وَإبْكُوا مَعَ البَاكِين.
صفةٌ أخرى لِمن يتبع المسيح، هي أنَّه يجب أن يكون فرحًا وعطوفًا. ما ورد في هذه الآية يقتضي ضمنًا علاقة حميمة بين أعضاء الكنيسة. وهذه العلاقة الحميمة لا يمكن بلوغها بمجَّرد تناول جسد الرَّبّ معًا كلّ أسبوع، بل بالارتفاع إلى ما فوق الميول الطبيعيَّة للجسد بعون الله.

16 كُونُوا مُتَّفِقِينَ بَعْضُكُم مَعَ بَعْض، مُتَوَاضِعِينَ لا مُتَكَبِّرِين. لا تَكُونُوا حُكَمَاءَ في عُيُونِ أَنْفُسِكُم.
خاطب بولس، في هذه الآية، الَّذين يعتبرون أنفسهم أفضل من الآخرين، لأنَّهم أكثر غنىً أو أكثر سلطانًا، ولأنَّهم أكثر هبةً أو أكثر تعليمًا، أو لأيّ سببٍ من الأسباب.
يُشير طلب بولس في هذه الآية إلى أنّ أهل روما على اتّفاقٍ في ما بينهم، ويجب أن تكون علاقاتهم من دون محاباة. كان التعصُّب الأعمى موجودًا في زمان بولس. فكان الغني يتكبَّر على الفقير؛ بينما من "كان في المسيح"  يجب عليه أن لا يفرّق في المقامات ولا أن يميّز في نظام الطبقات. هذا لا يعني أن تتغيَّر طبقات المجتمع، لكن أن يعامل المسيحيُّون بعضهم بعضًا كإخوة، وكجماعة واحدة، في المسيح يسوع.
ختم بولس كلامه بتحذيرٍ: "لا تكونوا حكماء في عيون أنفسكم" (روم 12: 16؛ راجع أيضًا أم 3: 7). فبالنسبة إلى الرَّسول بولس، من كان حكيمًا حقًّا، يدري أنَّ هناك الكثير ممَّا لا يعرفه، ولا يدركه. لذا، يتحلَّى بـ"التواضع" لا بـ"الكبرياء".

17 ولا تُبَادِلُوا أَحَدًا شَرًّا بِشَرّ، واعْتَنُوا بِعَمَلِ الـخَيْرِ أَمَامَ جَمِيعِ النَّاس.
إن كان لا ينبغي أن "يُبادلوا أحدًا شرًّا بشرّ"، فماذا يجب أن يعملوا عندما يُسيء الآخرون معاملتهم؟ عليهم أن يُكملوا الشطر الثَّاني الإيجابيّ من الآية، حيث يقول بولس: "اعتنوا بعمل الخير أمام جميع النَّاس".
تشير عبارة "عمل الخير"، في هذه الآية، إلى ما هو حسن أخلاقيًّا، وجيّد، وسامٍ، وحميد. بمعنى أنَّ المسيحيّ يحاول أن يكون مثالًا جيّدًا، بغضّ النَّظر عن سلوك الآخرين. هذا ما يذكّرنا بما كتبه بولس في مكانٍ آخر: "نعتني بعمل الخير لا أمام الرَّبّ فقط، بل أمام النَّاس أيضًا" (2 قور 8: 21).

18 سَالِمُوا جَمِيعَ النَّاس، إِنْ أَمْكَن، عَلى قَدْرِ طَاقَتِكُم.
انطلاقًا ممَّا سبق، قال بولس إنَّه يجب عليهم أن يعملوا كلَّ ما بوسعهم ليعيشوا في سلامٍ مع جميع النَّاس – بما فيهم الَّذين يحاولون أن يؤذوهم (هذا ما سيقوله بولس في الآيات التالية). لذا يقول: "إن أمكن، على قدر طاقتكم". قد نعتبر أنَّ ما يقوله بولس، هو من المستحيل، لأنَّ تسوية الحقّ أو تسوية الأمانة قد تكونان ثمن السَّلام؛ وهذا الثَّمن أكبر بكثير ممَّا يمكن الوفاء به. وأحيانًا يكون السَّلام أمرًا مستحيلًا، لأنَّه مهما فعلنا، يوجد شخصٌ آخر ضدَّ المصالحة.
بما أنَّ الانسان لا يمكنه التحكُّم بما يفعله الآخرون، أو كيف سيكون ردُّ فعلهم، فعليه أن يفعل كلَّ ما بوسعه، "وعلى قدر طاقته"، من أجل السَّلام. 

 19 لا تَنْتَقِمُوا لأَنْفُسِكُم، أَيُّهَا الأَحِبَّاء، بَلِ اتْرُكُوا مَكَانًا لِغَضَبِ الله، لأَنَّهُ مَكْتُوب: "ليَ الانْتِقَامُ، يَقُولُ الرَّبّ، وَأَنَا أُجَازِي".
يزداد الاختبار صعوبةً، إذ يطلب بولس هنا، من أهل روما، أن يساعدوا الآخرين، حتَّى ولو كانوا يريدون أن يؤذوهم.
بدأ الآية التاسعة عشرة بقوله: "لا تنتقموا لأنفسكم، أيُّها الأحبَّاء" (agapêtoí). منذ بدأ الرسالة (راجع روم 1: 7)، هي المرّة الأولى التي يدعو فيها بولس قرَّاءه "أحبَّاء". لماذا استخدم هذه الكلمة هنا؟ ربَّما كان يؤكّد أنَّ حواره ما زال عن محبَّةٍ (agápê) صادقة (راجع روم 12: 9). وربَّما أيضًا تحنَّن عليهم، آخذًا بعين الاعتبار، الصّراع الَّذي سيختبرونه عند الاستجابة لإرشاداته، إذ يعيشون في عالمٍ يُشجّع على الانتقام. لذلك، يُكمّل بولس كلامه قائلًا: "أتركوا مكانًا لغضب الله، لأنَّه مكتوب: لي الانتقام، يقول الرَّبّ، وأنا أجازي". هذا ما يرتبط بما قاله بولس سابقًا: "لا تبادلوا أحدًا شرًّا بشرّ" (روم 12: 17). لماذا؟ لأنَّ هذه مهمَّة الله: "لي الانتقام، يقول الرَّب، وأنا أجازي" (روم 12: 19).
زد على ذلك، عبارة "أتركوا مكانًا لغضب الله"، معناها ألَّا يحاولوا أن يعملوا عمل الله.

20 ولـكِنْ "إِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فأَطْعِمْهُ، وإِنْ عَطِشَ فَأَسْقِهِ، فإِنَّكَ بِفِعْلِكَ هـذَا تَرْكُمُ عَلى رأْسِهِ جَمْرَ نَار".
تابع بولس إرشاده باقتباسٍ من سفر تثنية الاشتراع: "إن جاع عدوُّكَ فأطعمه، وإن عطِشَ فاسقه" (تث 32: 41). وما هذه الكلمات سوى تطبيقٍ عمليّ لوصيَّة يسوع الواردة في الإنجيل: "أحبُّوا أعداءكم، أحسنوا إلى مبغضيكم" (لو 6: 27). هذا ما يعني أنَّ وجود مخرجٍ من الصراع لا يفي بالغرض، بل ما يجب أن يقوم به المؤمن هو المبادرة لإيجاد بعض الطرق لمساعدة خصومه على التوبة.
فعندما يسيء أحدٌ إلى المؤمن، قد يردُّ عليه بأربعة طرقٍ محتملة. إن أصابه أذىً، قد يؤذي أكثر، وهذا انتقام، أو قد يُعامِل الآخر بالمِثل، وهذا انتقام، أو قد يتجاهله ويبتعد عنه، وهذا ازدراء، أو قد يخدمه، وهذه طريقة المسيح. باختصار، إنَّ إيذاء العدوّ يجعل الانسان أدنى منه؛ وعدم الانتقام يجعله على مستوىً معه؛ أمَّا غفرانه له، فيجعله متفوّقًا عليه.
لذلك، إن كان أهل روما، يعملون الخير لأعدائهم، فماذا تكون النتيجة؟ ما اقتبسه بولس من سفر الأمثال: "فإنَّك بفِعلكَ هذا تركم على رأسه جمر نار" (أم 25: 22). هناك الكثير من التخمينات بخصوص أصل هذه العبارة. يقول البعض، إنَّه في الأراضي المقدَّسة كان النَّاس يحملون الأوعية على رؤوسهم. إن انطفأت نار العدو، وخرج ليبحث عن وقود لإشعال النَّار مرَّةً أخرى، فإنَّ وضع جمر نار على الوعاء الَّذي يحمله على رأسه، يكون عمل الكرم. ويشير بعض المفسّرين إلى إحدى الشَّعائر المصريَّة القديمة، الَّتي يشهد فيها الانسان علانيةً عن توبته، بحمل وعاءٍ من الجمر على رأسه. لكنَّ التفسير الأفضل، هو أنَّه عندما يُهاجَم الأعداء في مدينةٍ ما، يدافع سكَّان المدينة عن أنفسهم برمي الأشياء على رؤوس الـمُعتَدين، بما فيها الجمر. فأفضل دفاع عن النَّفس، ضدَّ الشرّ، هو عمل الخير؛ لأنَّ عمل الخير للعدوّ، لا بدَّ أن يؤثّر فيه بطريقةٍ إيجابيَّة. ومجازاة الشرّ بالخير، قد توقظ ضميره، وتأتي به إلى التوبة.

21 لا تَدَعِ الشَّرَّ يَغْلِبُكَ، بَلِ اغْلِبِ الشَّرَّ بِالـخَيْر.
لخَّص بولس في هذه الآية، كلّ ما قد قاله سابقًا. الفعل اليونانيّ nikô، المترجَمة هنا إلى "اغلِب"، هي الصّيغة الفعليَّة لكلمة "نصر" (nikê). عندما يُساء معاملة الانسان، يكون من السَّهل أن يغلبه الشرّ، ويسمح له بالسيطرة عليه. فقال بولس، إنَّه إمَّا أن ينتصر الشرُّ علينا، أو أن ننتصر نحن على الشرّ.
ينتصر الشرُّ علينا، إن طلبنا من الله أن "يلعن" أعداءنا (روم 12: 14)، وإن حاولنا أن "نجازي أحدًا عن شرٍّ بشرّ" (روم 12: 17)، وإن طلبنا "الانتقام" (روم 12: 19). لكن أن ننتصر على الشرّ، فيعني أن "نُبارك" (روم 12: 14)، وأن "نُسالم، إن أمكن، جميع النَّاس" (روم 12: 18)، وأن "نعمل الخير" لكلّ من يسيء إلينا وأن نمدَّه باحتياجاته" (روم 12: 20). ليس من السهل التغلّب على الشرّ بالخير، ولكنَّه ممكنٌ بنعمة الله.

خلاصة روحيَّة
في الأحد السَّابع بعد عيد الصّليب، وفي ختام السنة الليتورجيَّة، الَّتي فيها نستبق المجيء الثَّاني، حيث سيُجازي الرَّبُّ كلَّ واحدٍ بحسب أعماله، نقرأ مقطعًا من الرسالة إلى أهل روما، فيه جملة توصياتٍ، يجوز اعتبارها نظام حياة الجماعة المسيحيَّة. يكفي أن يعيشها الفرد من جهة، والجماعة المجتمعة، باسم الرَّبّ، من جهةٍ أخرى، لتتحقَّق الحياة الأبديَّة المعدَّة للجميع.
تبدأ رحلة الخلاص بخطوةٍ أولى، هي اتّخاذ قرارٍ بشأن "ملازمة الخير وتجنُّب الشرّ" (روم 12: 9)، لأنَّ الخير هو وليد الحبّ الحقيقيّ الَّذي لا يتلازم والرياء، بل يدفع بالمؤمن إلى إكرام الآخرين ومحبَّتهم محبَّةً صادقة. لا شكَّ في  أنَّ لتوصيات بولس هذه، إلى جانب عمل الرُّوح القدس في الكنيسة، أثرًا بارزًا في تحديد سمة الجماعة المسيحيَّة، الَّتي تتميَّز عن سواها، بسلوكها المطبوع بالمحبَّة الأخويَّة والغيرة الرسوليَّة.


تحميل المنشور