كَسر الكلمة - الرسائل -58- الأحد الثالث بعد عيد الصليب

كَسر الكلمة - الرسائل -58- الأحد الثالث بعد عيد الصليب

مجيء ابن الانسان
الآيات (فل 3: 17 – 4: 1)
17 إِقْتَدُوا بِي، أَيُّهَا الإِخْوَة، وانْظُرُوا إِلى الَّذِينَ يَسْلُكُونَ على مِثَالِنَا.
18 فَكَثِيرٌ مِنْ أُولـئِكَ الَّذِينَ كُنْتُ أُكَلِّمُكُم عَنْهُم مِرَارًا، وأُكَلِّمُكُم عَنْهُمُ الآنَ باكِيًا، يَسْلُكُونَ كأَعْدَاءٍ لِصَلِيبِ الـمَسِيح،
19 أُولـئِكَ الَّذِينَ عَاقِبَتُهُمُ الـهَلاك، أُولـئِكَ الَّذينَ إِلـهُهُم بَطْنُهُم، ومَجْدُهُم في عَارِهِم، وفي أُمُورِ الأَرْضِ هَمُّهُم.
20 أَمَّا نَحْنُ فمَدِينَتُنَا في السَّمَاوَات، ومِنْهَا نَنْتَظِرُ الرَّبَّ يَسُوعَ الـمَسِيحَ مُخَلِّصًا.
21 وهوَ سَيُغَيِّرُ جَسَدَ هَوَانِنَا، فيَجْعَلُهُ على صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ، وَفْقًا لِعَمَلِ قُدْرَتِهِ، الَّتي بِهَا يُخْضِعُ لِنَفْسِهِ كُلَّ شَيء.
1 إِذًا، يَا إِخْوَتِي، الَّذِينَ أُحِبُّهُم وأَشْتَاقُ إِلَيْهِم، وأَنْتُم فَرَحِي وإِكْلِيلي، أُثْبُتُوا هـكذَا في الرَّبّ، أَيُّهَا الأَحِبَّاء.

مقدّمة
تقع الرسالة إلى أهل فيليبّي ضمن الرسائل الَّتي كتبها القدّيس بولس أثناء أسره في السجن؛ وهي رسالة توجيهيَّة يوصي من خلالها أهل فيليبّي بأن يقتدوا بسيرته في اتّباع المسيح يسوع، ولا سيّما في ظلّ كثرة شهود الزُّور المنهمكين في أمور الأرض، بحثًا عن مجدٍ ثمنه العار، سالكين وفق منطقٍ بعيدٍ كلَّ البعد، عن منطق صليب المسيح.
من على الصَّليب، بذل المسيح نفسه فداءً لجميع النَّاس، من دون تمييزٍ بين يهوديّ ووثنيّ. فصار الصَّليب "شريعة" عهدٍ جديد، قوامها المحبَّة الَّتي تعبر بالإنسان إلى الحياة ما بعد الموت، وتفتح له الطريق إلى ما هو أبعد من العالم الأرضيّ، نحو "مدينة السماوات" (فل 3: 20)، حيث الجميع مدعوُّون إلى عيش الشراكة.

شرح الآيات
17 إِقْتَدُوا بِي، أَيُّهَا الإِخْوَة، وانْظُرُوا إِلى الَّذِينَ يَسْلُكُونَ على مِثَالِنَا.
بالعودة إلى النصّ اليونانيّ، نجد أنَّ كلمة "إقتدوا" (summimêtai)، مركَّبةٌ من حرف جرّ "معًا" (sún)، وإسم "مُقتَدِي"(mimêtês)، بمعنى "الاقتداء معًا". تدلُّ كلمة "معًا" هنا على أنَّ ما يذكره بولس، يجب فعله كجماعة. لكن، لماذا طلب القدّيس بولس من أهل فيليبّي أن يقتدوا به؟ هل كان مغرورًا؟ كلَّا! بل كان يعلم تمام العِلم بأنَّه "لم يُدرك الكمال، بل يسعى لعلَّه يقبض عليه " (راجع فل 3: 12). لفهم ما أراد بولس قوله يجب العودة إلى سياق النصّ.
كان بولس يتحدَّث هنا عن نقاط التشديد في حياته. ولم يكن هناك شيءٌ أهمُّ في حياته من المسيح (راجع فل 3: 4-11)، إذ وضع الماضي وراءه ساعيًا إلى الهدف (راجع فل 3: 12-14). ناشد أهل فيليبّي كي يكون لهم الفكر نفسه (راجع فل 3: 15-16)، والآية السابعة عشرة هي عبارةٌ عن توسيع لتلك النصيحة. بالتالي، كان بولس يقول: "إقتدوا بسلوكي نحو يسوع، وأبقوا عيونكم على الهدف السماويّ".
لكي يقتدي الانسان بشيءٍ، بطريقةٍ ناجحة، يجب أن يرى ذلك الشيء. لم يتيقَّن بولس متى سيكون مع أهل فيليبّي مرَّةً أخرى (راجع فل 1: 27)، لهذا وسَّع نصيحته قائلًا: "وانظروا الَّذين يسلكون على مثالنا". استُخدم فعل "يسلك" في كلٍّ من العهدَين القديم والجديد للإشارة إلى فعل "يعيش/يحيا" (راجع مز 1: 1؛ 1 يو 1: 7). يشمل الَّذين يستحقُّون الاقتداء بهم: إبفرديطُس الَّذي كان سيعود إلى فيليبّي (راجع فل2: 25)، وطيموتاوس الَّذي كان سيذهب إلى هناك بعد وقتٍ قريب (راجع فل 2: 19).
الفعل اليونانيّ skopéô، الـمُترجم هنا إلى "أنظروا"، هو بمعنى "الغرض" أو الهدف"، ويشتمل على تصوُّر خطّ النهاية الَّذي يركّز عليه الانسانُ عينيه. هذا الفعل الَّذي استخدمه بولس هنا، يحمل أيضًا فكرة الرؤية، أي "النظر إلى، المشاهدة، التأمُّل". وقد استخدم هذه الكلمة في سياقٍ سلبي في الرسالة إلى أهل روما: "أناشدكم أيُّها الإخوة، أن تلاحظوا (skopeín) الَّذين يثيرون الانقسامات والشُّكوك" (روم 16: 17)، لكنَّه استخدمها هنا بمفهومٍ إيجابيّ.

18 فَكَثِيرٌ مِنْ أُولـئِكَ الَّذِينَ كُنْتُ أُكَلِّمُكُم عَنْهُم مِرَارًا، وأُكَلِّمُكُم عَنْهُمُ الآنَ باكِيًا، يَسْلُكُونَ كأَعْدَاءٍ لِصَلِيبِ الـمَسِيح،
19 أُولـئِكَ الَّذِينَ عَاقِبَتُهُمُ الـهَلاك، أُولـئِكَ الَّذينَ إِلـهُهُم بَطْنُهُم، ومَجْدُهُم في عَارِهِم، وفي أُمُورِ الأَرْضِ هَمُّهُم.

ربَّما كان بولس قد أنذر أهل فيليبّي عن "أولئك الَّذين كان يكلّمهم عنهم مرارًا..." (فل 3: 18)، أثناء زياراته إلى فيليبّي. وبما أنَّ بولس كان قد أنذرهم عن أولئك الأشخاص، فإنَّهم يعرفون عمَّن يتحدَّث هنا، ولكنَّ القارئ لا يعرف مَن هم. قد تُشير عبارة "إلههم بطنهم" (فل 3: 19)، إلى إصرارهم على التمسُّك بقوانين الأكل المعقَّدة في العهد القديم. وقد تُشير عبارة "مجدهم في عارهم" (فل 3: 19)، إلى فخرهم بأنَّهم يحفظون الشَّريعة، بينما كان عليهم أن يشعروا بالخزي بسبب عيوبهم. قد تكون أيضًا هناك إشارةٌ إلى الختان في كلمة "خزي"، والَّتي كانَت تُستخدم أحيانًا كمرادف لكلمة "عورة" (راجع مي 1: 11؛ نا 3: 5). كان هؤلاء اليهود المسيحيُّون المتمسّكون بشريعة موسى "في أمور الأرض همُّهم" (فل 3: 19)، يشدّدون، بصفةٍ أساسيَّة على حفظ الطقوس والشَّعائر.
يعتقد بعض المفسّرين، أنَّ المصطلحات، الـمُستخدَمة في هاتَين الآيتَين (فل 3: 18-19)، تتناسب بطريقةٍ أفضل مع المعلّمين الكذبة، الَّذين كانوا يعلّمون أنَّه يمكن للمسيحيّ أن يعيش حياته كما يشاء، وأنَّه ليس من المهمّ حفظ وصايا الله. وكان مثل هؤلاء أيضًا "أعداءٌ لصليب المسيح" (فل 3: 17)، لأنَّ الصليب رمز الموت عن النَّفس وعن الخطيئة. وكانت "عاقبتهم الهلاك" (فل 3: 19).
تكلَّم بولس على "أعداء صليب المسيح"، "باكيًا (klaíôn باللُّغة اليونانيَّة)" (فل 3: 18). وكلمة "باكيًا"، تعبّر باللغة اليونانيَّة عن الحزن بصوتٍ عالٍ. بمعنىً آخر، وجود المعلّمين الكذبة، وتهديداتهم لأهل فيليبّي، سبَّب في انسحاق قلب بولس.

20 أَمَّا نَحْنُ فمَدِينَتُنَا في السَّمَاوَات، ومِنْهَا نَنْتَظِرُ الرَّبَّ يَسُوعَ الـمَسِيحَ مُخَلِّصًا.
يمكن تلخيص رغبة بولس لأهل فيليبّي، هنا،  بكلامه إلى أهل روما: "لا تتشبَّهوا بهذا الدهر، بل تغيَّروا بتجديد عقولكم..." (روم 12: 2). وكان قد قدَّم فكرةً مُشابِهة لهذه إلى أهل قولوسّي: "اهتمُّوا بما هو فوق، لا بما هو على الأرض" (قول 3: 2)؛ بمعنى اهتمُّوا بالأمور السماويَّة، وليس بالأمور الدنيويَّة الزائلة.
بعد أن حذَّر بولس أهل فيليبّي من الأمثلة الرديئة، عاد إلى ما كان يتكلَّم عليه سابقًا (راجع فل 3: 17)، إذ كتب: "أمَّا نحن فمدينتُنا في السماوات..." (فل 3: 20). الكلمة اليونانيَّة políteuma، المترجَمة هنا إلى "مدينتنا"، هي الصّيغة الإسميَّة للكلمة المترجَمة اليونانيَّة politeúesthe، المترجَمة إلى "سيروا" (فل 1: 27) في بداية الرسالة.
لا بدَّ من أنَّه كان للمدينة معنىً خاصّ لأهل فيليبّي، لأنَّها كانت مستعمرة رومانيَّة ذات امتيازات. كان مواطنو المستعمرة الرومانيَّة مطالبين بالولاء لروما. وكانت تعاملاتهم محكومة بقوانين روما، وكان رجاؤهم يعتمد على مجدها. علاوةً على ذلك، كان من المتوقَّع أن يؤدّي استعمارهم هذا إلى نشر الفكر الرومانيّ والثقافة الرومانيَّة.
لم يكلّمهم بولس فقط على "مدينةٍ سماويَّة" بل على "انتظار يسوع المسيح مخلّصًا". سبق بولس فأشار إلى أنَّه كان يتطلَّع إلى اليوم الأخير، لكي يعرف المسيح (راجع فل 3: 10-11). لم يُبالغ بولس في الأمر، عندما كتب إلى أهل فيليبّي يحثُّهم على انتظار "يسوع المسيح مخلّصًا". فالكلمة اليونانيَّة apekdechómetha، المترجَمة هنا إلى "ننتظر"، هي كلمة مركَّبة تضمُّ حرفَي جرّ (apó و ek)، مع فعل déchomai ومعناها "يستقبل". واستخدم بولس هذه الكلمة ستّ مرَّات من جُملة ثمان مرَّاتٍ استُخدِمَت فيها في كلّ العهد الجديد. وهي كلمة يعتبرها أنَّها تُعبّر بطريقةٍ أفضل لاستمرار توق المسيحيّين ورغبتهم في انتظار المجيء الثَّاني للمسيح.

21 وهوَ سَيُغَيِّرُ جَسَدَ هَوَانِنَا، فيَجْعَلُهُ على صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ، وَفْقًا لِعَمَلِ قُدْرَتِهِ، الَّتي بِهَا يُخْضِعُ لِنَفْسِهِ كُلَّ شَيء.
تُشيرُ عبارة "جسد هواننا" إلى أجسادنا الطبيعيَّة الَّتي نحن فيها الآن، وتخضع للمرض، وللموت، وللانحلال. أمَّا عبارة "جسد مجده"، فتشير إلى جسد المسيح الممجَّد؛ النموذج لقيامة الأجساد. باستخدامه كلمَتَي "سيُغيّر" و"صورة"، يُشدّد الرسول بولس على اكتمال التغيير. فالكلمة اليونانيَّة metaschêmatisei، المـترجَمة هنا إلى "سيُغيّر"، مركَّبة من حرف الجرّ metá "بين"، وكلمة schêma  "المظهر الخارجيّ". والكلمة اليونانيَّة súmmorfon، المترجَمة إلى "صورة"، مركَّبة من حرف الجرّ sûn "مع"، وكلمة morfê "صورة". فكلمة schêma   تشير إلى المظهر الخارجيّ للشخص الَّذي يُمكن أن يتغيَّر، بينما كلمة morfê، تُشير إلى الطبيعة الأساسيَّة الَّتي لا تتغيَّر. عندما يرجع الرَّب، "سيُغيّر" كلًّا من المظهر الخارجيّ لأجسادنا وطبيعتنا الأساسيَّة. لكن هذه الحقيقة لا تُفهم بالعقل الطبيعيّ، بل بالإيمان.
تشير عبارة "عمل قدرته" (enérgeian tou dúnasthai autón) إلى الطَّاقة الفعَّالة الَّتي بها "يُخضع المسيح لنفسه كلَّ شيء". فقدرة المسيح "ليُخضع لنفسه كلَّ شيء"، هي ضمانة الله، بأنَّه قادرٌ بالفعل أن يُقيمنا من الأموات، ويغيّر أجسادنا البشريَّة إلى أجسادٍ روحانيَّة.

1 إِذًا، يَا إِخْوَتِي، الَّذِينَ أُحِبُّهُم وأَشْتَاقُ إِلَيْهِم، وأَنْتُم فَرَحِي وإِكْلِيلي، أُثْبُتُوا هـكذَا في الرَّبّ، أَيُّهَا الأَحِبَّاء.
يستمرُّ بولس بالتأكيد على "السماويَّات". تبدأ هذه الآية الأولى من الفصل الرابع من الرسالة إلى أهل فيليبّي بكلمة "إذًا"، لتربط ما سيأتي بما سبق وذُكِر في الفصل الثَّالث.
تشير كلمة "هكذا" إلى الطريق الَّذي لخّصه بولس قبلًا، إذ وضع شخص المسيح أوَّلًا في فكره (فل 2: 5)؛ وترك ماضيه خلفه ليسعى إلى الهدف الَّذي أمامه (فل 3: 13)؛ وركَّز على الأشياء الَّتي "في السماوات" (فل 3: 20)، وليس على الأشياء الَّتي على الأرض. بما يختصُّ بهذه الطريق، أراد بولس لأهل فيليبّي أن "يثبتوا هكذا في الرَّبّ". وفعل "يثبتوا" مُترجَم من الفعل اليونانيّ stêkete، والَّذي يعني الوقوف من دون إحجامٍ، ومن دون تراجع، كما يقف الجنديّ من دون حركة وسط المعركة (راجع أف 6: 10-17).
يواجه المسيحيُّون الكثير من الضغوطات: جاذبيَّة العالم ورغبات الجسد ("إلههم بطنهم"، فل 3: 19)، التعليم الكاذب ("أعداء صليب المسيح"، فل 3: 18). نصح بولس بخصوص ذلك قائلًا: "أثبتوا هكذا في الرَّبّ".

خلاصة روحيَّة
في هذا المقطع من الرسالة (فل 3: 17–4: 1)، يرى بولس الرسول في مدينة فيليبّي أشخاصًا يُظهرون أنفسهم مع المسيح لاستمالة النَّاس إليهم، وهم في الواقع يسبّبون الإساءة إلى صليب الرَّبّ. هؤلاء الَّذين يعيشون الوثنيَّة بكلّ مقاييسها، ويفتّشون عن إله ليس الله، في إشباع البطون والتخمة. يجدون المجد في العار، ويفتّشون عن كلّ شيءٍ سهلٍ، يعتقدون بأنَّه سبب فرح وسعادة على هذه الأرض، متناسين الحياة الأبديَّة المدعوّين لها. في هذه الحالة، كان على الرسول بولس أن يدقَّ ناقوس الخطر.
لم يكتفِ مار بولس بالتوصيف السلبيّ، بل قدَّم الحلّ لمن يرغب في اعتماده: "أمَّا نحن فمدينتنا في السماوات..." (فل 3: 20). فمَن يعتمد هذا المبدأ، يضع دومًا نصب عينيه، إرضاء الرَّبّ في حياته، والابتعاد عن كلّ ما قد يشوّه وديعته السماويَّة في داخله، أي روحه الَّتي يُفترَض أن تجسّد "صورة الله فيه" أمام كلّ من يلتقي بهم.


تحميل المنشور