كَسر الكلمة - الرسائل -42- الأحد الخامس من زمن العنصرة

كَسر الكلمة - الرسائل -42- الأحد الخامس من زمن العنصرة

دعوة الرسل 
الآيات (فل 3: 7-14)
7 لـكِنَّ كُلَّ هـذِهِ الأُمُورِ الَّتي كَانَتْ لِي رِبْحًا، حَسِبْتُهَا مِن أَجْلِ الـمَسيحِ خُسْرَانًا.
8 بَلْ إِنِّي أَحْسَبُ كُلَّ شَيءٍ أَيْضًا خُسْرَانًا، إِزاءَ الرِّبْحِ الأَعْظَمِ وهو مَعْرِفَةُ الـمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، الَّذي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ شَيء، وأَحْسَبُهُ نُفَايَةً لأَرْبَحَ الـمَسِيح،
9 وأُوجَدَ فيهِ مُبَرَّرًا لا بالبِرِّ الَّذي مِنَ الشَّرِيعَة، بَلْ بالبِرِّ الَّذي منَ الإِيْمَانِ بالـمَسِيح، والَّذي هُوَ مِنَ الله، والقَائِمِ عَلى الإِيْمَان.
10 وذلِكَ لِكَي أَعْرِفَهُ وأَعْرِفَ قُوَّةَ قِيَامَتِهِ، وأَشتَرِكَ في آلامِهِ، مُتَشَبِّهًا بِهِ في مَوتِهِ،
11 لَعَلِّي أَبْلُغُ القِيَامَةَ مِن بَيْنِ الأَمْوَات.
12 ولا أَدَّعِي أَنِّي قَدْ حَصَلْتُ على ذلِكَ، أَو أَنِّي بَلَغْتُ إِلى الكَمَال، لـكِنِّي أَسْعَى لَعَلِّي أُدْرِكُهُ، لأَنَّ الـمَسِيحَ يَسُوعَ أَدْرَكَنِي!
13 أَيُّهَا الإِخْوَة، أَنَا لا أَظُنُّ أَنِّي أَدْرَكْتُ، ولـكِنْ يَهُمُّنِي أَمْرٌ وَاحِد، وهُوَ أَنْ أَنْسَى ما ورَائِي، وأَمْتَدَّ إِلى ما أَمَامِي.
14 فأَسْعَى إِلى الـهَدَفِ لأَفُوزَ بالـجَائِزَةِ العُلْيَا الَّتي يَدْعُونَا اللهُ إِلَيْهَا في الـمَسِيحِ يَسُوع.

مقدّمة
دعا الرَّبُّ يسوع اثني عشر تلميذًا ليكونوا رسلًا، وأعطاهم السلطان، وطلب منهم أن يكمّلوا مسيرته لبنيان كنيسته. هؤلاء خسروا عائلاتهم، ووظائفهم، ومراكزهم، في سبيل الربح الأعظم: يسوع. فالرسالة الَّتي نتلوها اليوم في الليتورجيَّا المارونيَّة، تُدخلنا في مفهوم التخلّي عن كلّ شيء في سبيل الوصول إلى الدعوة الَّتي يُطلقها الربُّ لنا، وإلى الغاية الَّتي يرجوها كلّ مؤمن.
في وقتٍ ما، كان بولس يضع إنجازاته اليهوديَّة إلى جهة "الربح" (فل 3: 7) في دفتر حساباته الروحيَّة. لكنَّ وجهة نظره قد تغيَّرت: "كلّ هذه الأمور الَّتي كانت لي ربحًا، حسبتها من أجل المسيح خسرانًا" (فل 3: 7). لقد تعلَّم بولس أنَّه "لن يتبررَّ أحدٌ أمام الله بأعمال الشريعة" (روم 3: 20؛ راجع أيضًا غل 5: 4)، والفداء "تمَّ في المسيح يسوع" (راجع روم 3: 24) وحده؛ ونحن نتبرّر به بالإيمان (راجع غل 3: 24). لذلك، غيَّر بولس وجهة نظره بما خصّ إنجازاته الروحيَّة: بدلًا من "الربح"، أصبحت تلك الإنجازات "خسارة".

شرح الآيات
7 لـكِنَّ كُلَّ هـذِهِ الأُمُورِ الَّتي كَانَتْ لِي رِبْحًا، حَسِبْتُهَا مِن أَجْلِ الـمَسيحِ خُسْرَانًا.
تشير عبارة "كلُّ هذه الأمور الَّتي كانت" إلى كلّ ما ورثه بولس وحقَّقه في حياته السابقة، أي قبل أن يصبح مسيحيًّا. ورد فعل "حسبتُها"، باللغة اليونانيَّة (hegêmai) في صيغة الماضي، ممَّا يدلُّ على وقوع حدثٍ واحد في زمن الماضي. لا شكَّ في أنَّ بولس يتكلَّم هنا على التغيير الراديكاليّ في حياته، نتيجةً لظهور الرَّبّ يسوع له في الطريق إلى دمشق (راجع أعمال 9: 1-19؛ 22: 4-16؛ 26: 9-18). لقد أعمى الضوء الساطع عينيه، ولكن أضاء عقله. انقلبت حياته رأسًا على عَقِب. أصبحت "الظلمة" نورًا؛ و"الشرُّ" خيرًا؛ و"الضلال" حقًّا.

8 بَلْ إِنِّي أَحْسَبُ كُلَّ شَيءٍ أَيْضًا خُسْرَانًا، إِزاءَ الرِّبْحِ الأَعْظَمِ وهو مَعْرِفَةُ الـمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، الَّذي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ شَيء، وأَحْسَبُهُ نُفَايَةً لأَرْبَحَ الـمَسِيح،
عندما أعاد بولس تقييم خسارته وربحه، لم يكتف بلقائه الأوَّل مع المسيح، بل استمرَّ قائلًا: "بل إنّي أحسب كلَّ شيءٍ أيضًا خسرانًا، إزاء الربح الأعظم وهو معرفة المسيح يسوع ربّي...". استخدم بولس في هذه الآية فعل المضارع في اللغة اليونانيَّة، ليدلَّ على استمرار العمل في الوقت الحاضر. عندما حسب بولس كلَّ شيءٍ خسارة، لم يكن ذلك قرارًا اتَّخذه في الوقت الَّذي اهتدى فيه وحسب، بل كان قرارًا يوميًّا. لم يكن هناك شيءٌ ذو قيمة، بالنسبة إلى بولس، عندما يُقارن ذلك الشيء بالمسيح. كان بولس مستعدًّا للتخلّي عن أيّ شيءٍ، لا بل عن كلّ شيء من أجل "معرفة المسيح يسوع" ربّه.
من أجل المسيح "خسر كلَّ شيء"؛ خسر مكانته في السلطة اليهوديَّة، خسر سُمعته الجيّدة بين أبناء وطنه. ارتدَّ عنه أصدقاؤه. لا شكَّ في أنَّه أصبح غريبًا لكثيرين من عائلته. تحوَّل بين ليلةٍ وضحاها من مُضطهِدٍ للمسيحيّين إلى تلميذٍ للمسيح. تخلَّى عن الحياة الآمنة، وفقد حياته في آخر المطاف. كان مستعدًّا أن يفعل كلَّ ذلك من أجل المسيح يسوع.
قال بولس بما خصّ كلّ ما كان يتحدَّث عنه: "وأحسبه نفايةً لأربح المسيح". الكلمة اليونانيَّة skúbala الـمُترجَمة هنا "نفاية"، ليست سهلة للترجمة. قد تعني فضلات الطعام الَّتي تُرمَى إلى الكلاب، أو كومةً من القمامة القذرة، أو النفايات البشريَّة والحيوانيَّة. والمعنى الأصحّ في هذا النصّ هو "النفايات البشريَّة" الَّتي تثير الاشمئزاز.
عندما كان بولس يفكّر بحياته السابقة، قبل اهتدائه إلى المسيحيَّة، لم يعتبرها تافهة فحسب، بل كان يعتبرها عائقًا. لا بل أكثر من ذلك، لم يعتبرها بلا قيمة فقط، بل كان يشمئزُّ من ذكرها.
هل نَدِمَ بولس على قراره هذا أن يتبع المسيح؟ فهل يُلقي الانسان القمامة، ومن ثمَّ يتوق إلى أن يعود بها إلى بيته؟ خاصَّةً إن علم أنَّ كلّ ما تخلَّى عنه من "نفاية" هو في سبيل "ربح" كنوزٍ لا تفنى؟ 

9 وأُوجَدَ فيهِ مُبَرَّرًا لا بالبِرِّ الَّذي مِنَ الشَّرِيعَة، بَلْ بالبِرِّ الَّذي منَ الإِيْمَانِ بالـمَسِيح، والَّذي هُوَ مِنَ الله، والقَائِمِ عَلى الإِيْمَان.
ركَّزت الآيتان السابعة والثامنة من النصّ على جانب "الخسارة"، وتبدأ الآية التاسعة بتسليط الضوء على "الربح". عندما تكلَّم بولس على "معرفة المسيح" (فل 3: 8)، لم يقصد مجرّد تعليمٍ عن المسيح، إنَّما "المعرفة" (gnôseôs صيغة من صِيَغ الفعل اليونانيّ ginôskô)، الَّتي تُستخدم عادةً ككلمة للتعبير عن العلاقة. ففي العهد الجديد تشير كلمة ginôskô إلى علاقةٍ بين الشخص الَّذي يعرف وبين الشَّيء الَّذي يعرفه.
لم يُرد بولس أن "يعرف" المسيح فحسب، بل أراد أيضًا أن "يوجد فيه". أراد أن يجعل المسيح "عنوانه الدائم". لكن لم يستطع بولس أن يحقّق هذه الأهداف بجهوده الخاصَّة، لذا قال: "لا بالبرّ الَّذي من الشريعة، بل بالبرّ الَّذي من الإيمان بالمسيح، والَّذي هو من الله، والقائم على الإيمان". هذا الإيمان ليس موافقة فكريَّة على مجموعة مقترحات عن المسيح، بل عمليَّة الثقة بالمسيح. إنَّه إيمانٌ حيٌّ، إيمانٌ عاملٌ، إيمانٌ مطيع (راجع يع 2: 26؛ غل 5: 6؛ عب 11: 8). ومع ذلك، يبقى إيمانًا في ما عَمِل يسوع لأجلنا، وليس ما عملناه نحن له. 

10 وذلِكَ لِكَي أَعْرِفَهُ وأَعْرِفَ قُوَّةَ قِيَامَتِهِ، وأَشتَرِكَ في آلامِهِ، مُتَشَبِّهًا بِهِ في مَوتِهِ،
11 لَعَلِّي أَبْلُغُ القِيَامَةَ مِن بَيْنِ الأَمْوَات.

زادت رغبة بولس في معرفة المسيح: "وذلك لكي أعرفه وأعرف قوَّة قيامته، وأشترك في آلامه، متشبّهًا به في موته، لعلّي أبلغ القيامة من بين الأموات". كان بولس قد عرف المسيح بمفهوم أنَّه كان يتمتّع بشركةٍ خاصَّة معه، ولكنَّه ظلَّ يتوق إلى معرفةٍ أعمق وأغنى. أراد بولس أن يعرف "قوَّة قيامته" (فل 3: 10). كانت حياة بولس مُباركة بهذه القوَّة، فقد كتب: "إن كنتُ الآن أحيا في الجسد، فإنّي حيٌّ بإيمان ابن الله، الَّذي أحبَّني وبذل نفسه عنّي" (غل 2: 20)، وكتب أيضًا: "إنّي أستطيع كلَّ شيءٍ، بالَّذي يقوّيني" (فل 4: 13). وفي الوقت نفسه، كان بولس يشعر بالحاجة إلى تجديدٍ مستمرٍّ لهذه القوَّة.
علاوةً على ذلك، أراد بولس أن يعرف "شركة آلام" (فل 3: 10) المسيح. كلمة "شركة" هنا تعني "المشاركة". اعتبر بولس أنَّه لا يمكن لشخصٍ أن يعرف المسيح معرفةً تامَّة إن لم يشارك في آلامه. اختتم بولس كلامه بالعبارة الآتية: "متشبّهًا به في موته" (فل 3: 10). بقوَّة الرَّبّ القائم، كان بولس يموت عن نفسه وعن العالم. لذا استطاع أيضًا أن يكتب: "لقد صُلبتُ مع المسيح: فلستُ بعدُ أنا الحيّ، بل المسيح هو الحيُّ فيَّ" (غل 2: 19ب-20أ). يمكننا اختصار رغبة بولس في معرفة المسيح في أربعة وجوهٍ وردت في النصّ: معرفة شخصيَّة: "لأعرفه"؛ معرفة قويَّة: "وقوَّة قيامته"؛ معرفة مؤلمة: "وشركة آلامه"؛ ومعرفة عمليَّة: "متشبّهًا به في موته"، أي معرفة التكيُّف.
أدرك بولس أنَّه حتَّى ولو "خسر كلَّ شيء ليربح المسيح"، فلن يعرفه تمامًا في هذه الحياة. لذلك، تطلَّع بولس إلى الوقت الَّذي سيعيش فيه في حضرة المسيح في السماء، فقال: "لعلّي أبلغ القيامة من بين الأموات" (فل 3: 11). الكلمة اليونانيَّة exanástasin، الـمُترجَمة هنا إلى "قيامة"، لا توجد إلَّا هنا في كلّ العهد الجديد. وهي كلمة يونانيَّة مركَّبة: يتقدَّم الكلمة المعتادة للقيامة (anástasis)، حرف الجر ex، ومعناه "خارج" أو "بعيدًا عن" بعض الَّذي سيقومون من الأموات. ربَّما ما يقصد به بولس هنا هو أنَّه يتوق إلى أن يقوم من الأموات كواحدٍ من "الَّذين فعلوا الصالحة إلى قيامة الحياة"، وليس كواحدٍ من "الَّذين عملوا السيّئات إلى قيامة الدينونة" (يو 5: 29).
استخدام بولس كلمة "لعلّي" في الآية 11، قد جعل البعض يتساءلون ما إذا كان لبولس شكٌّ بخصوص قيامته ليكون مع الرَّبّ. تشير نصوصٌ أخرى إلى أنَّه لم يكن لبولس أيَّ شكٍّ بهذا الأمر (راجع 2 طيم 4: 8). وقد عبَّر في وقتٍ سابق من الرسالة إلى أهل فيليبّي عن ثقته بأنَّه عندما يموت سيمضي "ويكون مع المسيح" (فل 1: 23). إذًا، لماذا استخدم عبارةً يقول فيها "لعلّي"؟ يعتقد معظم المفسّرين بأنَّ بولس كان يعبّر هنا عن التواضع وليس عن الشكّ، أي إنَّه يعترف مرَّةً أخرى بأنَّه لن يخلُص نتيجةً لجهوده، بل بنعمة الله. 

12 ولا أَدَّعِي أَنِّي قَدْ حَصَلْتُ على ذلِكَ، أَو أَنِّي بَلَغْتُ إِلى الكَمَال، لـكِنِّي أَسْعَى لَعَلِّي أُدْرِكُهُ، لأَنَّ الـمَسِيحَ يَسُوعَ أَدْرَكَنِي!
13 أَيُّهَا الإِخْوَة، أَنَا لا أَظُنُّ أَنِّي أَدْرَكْتُ، ولـكِنْ يَهُمُّنِي أَمْرٌ وَاحِد، وهُوَ أَنْ أَنْسَى ما ورَائِي، وأَمْتَدَّ إِلى ما أَمَامِي.
14 فأَسْعَى إِلى الـهَدَفِ لأَفُوزَ بالـجَائِزَةِ العُلْيَا الَّتي يَدْعُونَا اللهُ إِلَيْهَا في الـمَسِيحِ يَسُوع.

نرى في هذه الآيات الثلاث "شيئًا واحدًا" يختصر كلَّ ما قد تكلَّم عليه بولس من جوانب حياته: ماضيه، وحاضره، ومستقبله. فقبل البدء بنصّ رسالة هذا الأحد، كتب بولس عن حياته السابقة كيهوديّ (فل 3: 4-6) وكيف تخلَّى عن كلّ شيءٍ من أجل الرَّبّ (فل 3: 7-8). وبما أنَّ البعض قد يستخلص، ممّا كتبه بولس بعد ذلك (فل 3: 9-11)، أنَّه يدَّعي الكمال، سارع بولس إلى القول: "لا أدَّعي أنّي قد حصلت على ذلك، أو أنّي بلغتُ الكمال، لكنّي أسعى لعلّي أدركه، لأنَّ المسيح يسوع أدركني" (فل 3: 12).
عند ربط الآية 12 بالآية 11، قد يبدو للوهلة الأولى أنَّ بولس كان يقول إنّه لم يكن قد أُقيم من الأموات بعد. لكن يجب ربط الآية 12 بكلّ ما قاله بولس سابقًا في النصّ، فهو يعترف هنا بأنَّه "لم يحصل بعد" على المعرفة التامَّة ليسوع، والَّتي لا تتحقَّق بالكامل إلَّا عند القيامة. هذا ما نعرفه ممَّا استخلصه بولس: "أو أنّي بلغتُ إلى الكمال" (فل 3: 12). أصل الكلمة اليونانيَّة الـمُترجَمة هنا إلى "الكمال" هو télos وتعني "نهاية". والشيء الكامل هو الشَّيء الَّذي "بلغ نهايته"، أي تمَّم قصده. استخدم بولس هذه الكلمة، في النصِّ الَّذي نحن بصدده، بمفهومَين: اعترف في الآية 12 بأنَّه لم يكن "كاملًا"، وهذا الكمال لن يحدث حتَّى يقيمه الرَّبّ من الأموات. شدَّد بولس أيضًا في الآية 13 على الفكرة الواردة في الآية 12، قائلًا: "أنا لا أظنُّ أنّي أدركتُ"، بمعنى أنَّه لم "يتمّم" كلّ ما أراد الرَّبُّ له أن يعمل.
كيف تعامل بولس مع الحقيقة أنَّه لم يكن كلَّ ما كان ينبغي له أن يكون عليه روحيًّا؟ عرض بولس في القسم الثاني من الآية 13، الطريقة الَّتي يمكن التعامل بها: "أنسى ما ورائي، وأمتدّ إلى ما أمامي". لم ينسَ بولس كلَّ شيءٍ كان في ماضيه، ولا معرفته لكلمة الله، ولا كيف خلَّصه الربّ بنعمته، ولا كلَّ ما علَّمته الحياة، بل نسيَ إنجازاته السابقة. كان بولس قد ذكر إنجازاته كيهوديّ (فل 3: 4-6)، وتحدَّث عن التضحيات الَّتي قدَّمها كمسيحيّ (فل 3: 7-8). وكان باستطاعته أن يذكر رحلاته التبشيريَّة، والَّذين ربحهم للمسيح، والآلام الَّتي احتملها من أجل الرَّبّ. كان باستطاعته أن يغرق في ما قد أنجره، ولكنَّه لم يفعل ذلك، بل جعل كلَّ تلك الأشياء وراءه. نسيَ بولس أيضًا إخفاقات الماضي. فعندما ذكر إنجازاته اليهوديَّة، شمل فيها اضطهاده للكنيسة (فل 3: 6). لقد اعترف كمسيحيّ بأنَّه "لم يبلغ إلى الكمال" (فل 3: 12)، وبأنَّه لم يكن "قد أدرك بعد" (فل 3: 13). كان بإمكان بولس أن يقضي كلَّ دقيقةٍ من أيَّامه نادمًا على ما كان قد فعل وما لم يفعل. ولكنَّه لم يضيّع وقته بهذه الطريقة. فبعد أن تاب عن خطاياه، توكَّل على رحمة الله ووضع الماضي وراءه، ولم يسمح لماضيه بأن يدمّر حاضره، وبالتَّالي مستقبله.
أكَّد بولس، في الآية 14، على عزمه أن ينسى الماضي مستخدمًا صورةً رياضيَّة. فلكي يشارك أحدٌ في السباق، عليه أن يتخلَّى عن كلّ ما يُثقل كاهله. عندما استعدَّ بولس ليشارك في "السباق المسيحيّ"، ركَّز على "ما كان أمامه"، وليس على "ما كان وراءه" (فل 3: 13). فالرياضيّ الَّذي ينظر إلى الوراء، لا يؤدّي مهمَّته على أكمل وجه، لأنَّه سيصرف انتباهه؛ ستخرج خطواته عن المسار؛ وقد يتعثّر ويقع. لذا نرى بولس هنا يركّز على المستقبل.
في الواقع، تصف الكلمات الواردة في الآيتين السابقتين (فل 3: 12-13)، ثَورة بولس لتحقيق قصده. فالكلمة اليونانيَّة، الـمُترجَمة هنا "أسعى" (فل 3: 12)، هي diôkô، وهي الكلمة الَّتي استخدمها بولس في الآية 6 لوصف اضطهاده للكنيسة. كان يسعى إلى هدفه بمجهودٍ لا ينقطع لتدمير الكنيسة.
عند الرجوع إلى الكلام على هدف بولس، نجد في جانبٍ "هذا العالم"، أي أن يكون بولس على الأرض ما أراد له الله أن يكون، ولكنَّه يشمل أيضًا العالم الآتي. قال بولس: "أسعى إلى الهدف لأفوز بالجائزة العليا الَّتي يدعونا الله إليها في المسيح يسوع" (فل 3: 14). الكلمة اليونانيَّة skopón، الـمُترجَمة هنا "الهدف"، هي الصيغة الإسميَّة للفعل اليونانيّ skopéô، الَّذي يعني "يرى" أو "ينظر". ومنها تأتي الكلمة "تِلِسكُوب" (telescope)، أي رؤية الأجسام البعيدة، وكلمة "ميكرُوسكُوب" (microscope)، أي "المِجهَر"، أو رؤية الأجسام الدقيقة. من هذا المنطلق، تشير كلمة skopón، الـمُترجَمة هنا "الهدف"، إلى العلامة الَّتي يجب تركيز النَّظر عليها. والتصوُّر هنا هو لرياضيٍّ يركّز نظره على خطّ النهاية. لكنَّ الوصول إلى خطّ النهاية، بحدّ ذاته، ليس الانتهاء. هناك جائزةٌ للفَوز بها. قد تكون الميداليَّة هي الجائزة في يومنا هذا، ولكن في زمان بولس كانت الجائزة عادةً إكليلًا من أوراق الغار الَّتي تذبل بسرعة. لذا تطلَّع بولس إلى جائزةٍ لن تتلاشى أبدًا (راجع فل 3: 14؛ 1 قور 9: 24، 25؛ 2 طيم 4: 7، 8). أشار إلى تلك الجائزة بأنَّها "الجائزة العليا الَّتي يدعونا الله إليها في المسيح يسوع"، لأنَّ الهدف سماويٌّ.

خلاصة روحيَّة
لا بدَّ من أنَّ الرسول بولس اختبر المسيح في حياته، وعاش فحمل رايته وصليبه، وسار بنهجه، وتقوَّى "بقوَّة الَّذي يقوّيه" (فل 4: 13)، لأنَّه اختبر وسمح للمسيح بأن يتدخَّل في حياته، فخاض المعارك الروحيَّة، وظفر بها، واختبر أنَّ حياته ليست له بل للمسيح، وعندما يلتزم المحارب جَبهَته إلى نهاية المعركة، لا بدَّ له من مكافأة.
في الحياة الزمنيَّة، يُكافأ الانسان برتبةٍ، أو بمنصبٍ، أو بوسام... ولا تخلو تلك المناسبات من الاحتفال. لكن مع المسيح، تُختصر هذه كلُّها بعبارة: "كنتَ أمينًا على القليل فسأقيمكَ أمينًا على الكثير، أدخل فرح سيّدكَ" (مر 25: 21).
هذا ما عرفه بولس، ووثق بأنَّ نهاية حياته المرتقبَة ستكون فرحًا وربحًا بلقاء الَّذي دعاه، في حياةٍ لا تفنى. عندها يُصبح الموت هو الوسام الَّذي يوضع كمكافأة، لأنَّ الموت يُصبح بابًا ينطلق منه إلى حياة جديدة بلقاء الله، الَّذي طالما تشوَّق إلى لقائه وجهًا لوجه. 


تحميل المنشور