كَسر الكلمة - الرسائل -36- خميس الصعود

كَسر الكلمة - الرسائل -36- خميس الصعود

خميس الصعود
الآيات (رسل 1: 1-14)
1 لَقَدْ دَّوَنْتُ في الكِتَابِ الأَوَّل، يَا تِيُوفِيل، كُلَّ مَا عَمِلَ يَسُوعُ وعَلَّم، مُنْذُ بَدْءِ رِسَالَتِهِ،
2 إِلى اليَوْمِ الَّذي رُفِعَ فِيهِ إِلى السَّمَاء، بَعْدَ أَنْ أَعْطَى بِالرُّوحِ القُدُسِ وَصَايَاهُ لِلرُّسُلِ الَّذينَ اخْتَارَهُم.
3 وقَدْ أَظْهَرَ لَهُم نَفْسَهُ حَيًّا بَعْدَ آلامِهِ بِكَثِيرٍ مِنَ الأَدِلَّة، وهُوَ يَتَرَاءَى لَهُم مُدَّةَ أَرْبَعِينَ يَومًا، ويُكَلِّمُهُم عَنْ شُؤُونِ مَلَكُوتِ الله.
4 وفِيمَا هُوَ يَأْكُلُ مَعَهُم، أَمَرَهُم أَلاَّ يُغَادِرُوا أُورَشَلِيم، بَلْ أَنْ يَنْتَظِرُوا فيهَا وَعْدَ الآبِ "الَّذي سَمِعْتُمُوهُ مِنِّي؛
5 لأَنَّ يُوحَنَّا عَمَّدَ بِالمَاء، أَمَّا أَنْتُم فَسَوفَ تُعَمَّدُونَ بِالرُّوحِ القُدُسِ بَعْدَ بِضْعَةِ أَيَّام".
6 وكَانَ الـمُجْتَمِعُونَ يَسْأَلُونَهُ قَائِلين: "يَا رَبّ، أَفِي هـذَا الزَّمَانِ تُعِيدُ الـمُلْكَ لإِسْرَائِيل؟".
7 فَقَالَ لَهُم: "لَيْسَ لَكُم أَنْ تَعْرِفُوا الأَزْمِنَةَ والأَوْقَاتَ الَّتِي حَدَّدَهَا الآبُ بِسُلْطَانِهِ الخَاصّ.
8 لكِنَّكُم سَتَنَالُونَ قُوَّةً بِحُلُولِ الرُّوحِ القُدُسِ عَلَيْكُم، وتَكُونُونَ لِي شُهُودًا في أُورَشَلِيم، وفي كُلِّ اليَهُودِيَّةِ والسَّامِرَة، حَتَّى أَقَاصِي الأَرض".
9 ولَمَّا قَالَ هـذَا، رُفِعَ بِمَرأًى مِنْهُم، وحَجَبَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ عُيُونِهِم.
10 وفيمَا كَانُوا شَاخِصِينَ إِلى السَّمَاء، وهُوَ ذَاهِب، إِذَا رَجُلانِ قَدْ وقَفَا بِهِم في ثِيَابٍ بَيْضَاء،
11 وقَالا: "أَيُّهَا الرِّجَالُ الـجَلِيلِيُّون، مَا بَالُكُم واقِفِينَ تُحَدِّقُونَ إِلى السَّمَاء؟ إِنِّ يَسُوعَ هذَا الَّذي رُفِعَ عَنْكُم إِلى السَّمَاءِ سَيَأْتي كَمَا رَأَيْتُمُوهُ ذَاهِبًا إِلى السَّمَاء!".
12 حِينَئِذٍ رَجَعُوا إِلى أُورَشَليمَ مِنَ الـجَبَلِ الـمَدْعُوِّ جَبَلَ الزَّيْتُون، وهُوَ قَرِيبٌ مِنْ أُورَشَلِيم، على مَسِيرَةِ سَبْتٍ مِنهَا.
13 ولَمَّا دَخَلُوا المَدينَة، صَعِدُوا إِلى العِلِّيَّة، الَّتِي كَانُوا يُقِيمُونَ فِيهَا، وهُم: بُطْرُسُ ويُوحَنَّا ويَعْقُوبُ وأَنْدرَاوُس، فِيلبُّسُ وتُومَا، بَرْتُلْمَاوُسُ ومَتَّى، يَعْقُوبُ بْنُ حَلْفَى وسِمْعَانُ الغَيُورُ ويَهُوذَا بْنُ يَعْقُوب.
14 هـؤُلاءِ كُلُّهُم كَانُوا مُوَاظِبينَ عَلى الصَّلاةِ بِنَفْسٍ وَاحِدَة، مَعَ بَعْضِ النِّسَاء، ومَرْيَمَ أُمِّ يَسُوع، ومَعَ إِخْوَتِهِ.

مقدّمة
الآن، وقد قدَّم المسيح ثمن خلاصنا بالكامل بقيامته من بين الأموات، صار باستطاعة البشريَّة أن تتمتَّع بالدخول إلى السماويَّات، وهذا ما صار ممكنًا بصعود الرَّب يسوع إلى السماء.
يشرح القدّيس لوقا لــ"تيوفيل" (أعمال 1: 1) وصيَّة الرَّبّ يسوع الأولى لتلاميذه بأن يشهدوا له في العالم و"حتَّى أقاصي الأرض" (أعمال 1: 8) و"يهدوا كلَّ الأقطار درب الجهادِ" (لحن البخور في خدمة قدَّاس خميس الصُّعود). وهو بذلك "للأعلى رقَّانا يوم الصعود" (لحن البخور في خدمة قدَّاس خميس الصُّعود)، وشرح لنا مهمَّتنا كمسيحيّين وهي أن نشهد لما نؤمن به.

شرح الآيات
1 لَقَدْ دَّوَنْتُ في الكِتَابِ الأَوَّل، يَا تِيُوفِيل، كُلَّ مَا عَمِلَ يَسُوعُ وعَلَّم، مُنْذُ بَدْءِ رِسَالَتِهِ،
بدأ القدّيس لوقا بكتابة سفر أعمال الرسل بتذكير القارئ بما "دوَّنه في الكتاب الأوَّل"، أي في إنجيل لوقا، علمًا بأنَّ الإنجيل وأعمال الرسال يعتبران كتابًا واحدًا بجزءَين. فلا شكَّ في أنَّ لوقا توقَّع أن يكون قارئ أعمال الرسل حسن الاطّلاع على إنجيله.
تحدَّث إنجيل لوقا عن "ما عمل يسوع وعلَّم منذ بدء رسالته" الَّتي بلغت ذروتها بموته، ودفنه، وقيامته، وصعوده إلى السماء. بدأ يسوع "يعمل" أوَّلًا، ومن ثمَّ "علَّم"، لأنَّ ما يُمارَس أوَّلًا بالعمل ينبغي أن يؤثّر في التَّعليم.
كتب لوقا الإنجيل وأعمال الرسل كليهما لــ "تيوفيل" (لو 1: 3؛ أعمال 1: 1). الاسم "تيوفيل" أو "تيوفيلُس" – كما قد يَرِد في بعض الترجمات العربيَّة – هو اسمٌ يونانيّ مركَّبٌ من كلمَتَين: theós، أي "الله" و fílos ، أي "الـمُحِبّ". فاسم "تيوفيل" معناه "مُحبّ الله". هناك فرضيَّات عديدة حول هويَّة "تيوفيل". يظنُّ البعض أنَّه لم يكن شخصًا حقيقيًّا، بل يمثّل "كلّ من يحبّ الله" على سبيل الرَّمز. وقال آخرون إنَّ "تيوفيل" كان اسمًا مستعارًا لشخصيَّةٍ رومانيَّة مشهورة في القصر الملكيّ، أو إنَّه كان مستشار بولس أمام الإمبراطور نيرون الَّذي حكم ما بين سنة 54-68 م.، وتميَّز عهده بالوحشيَّة، وخاصَّةً ضدَّ المسيحيّين. أمَّا الطريقة الأبسط، وربَّما الأفضل لتفسير دور هذه الشخصيَّة في الإنجيل وفي كتاب أعمال الرسل، فهي أنَّ لوقا كتب لشخصٍ حقيقيٍّ اسمه "تيوفيل" وكان رومانيًّا له سلطان. فالاسم "تيوفيل" كان دارجًا في تلك الأيَّام. يُشير ما ورد في إنجيل لوقا (1: 1-4) إلى أنَّ "تيوفيل" كان مسيحيًّا، ربَّما اعتنق المسيحيَّة حديثًا إلى حدٍّ ما، وقرَّر لوقا أن يكتب بترتيبٍ عن حياة المسيح والكنيسة في أيَّامها الأولى. لكنَّ لوقا لم يكتب الإنجيل وأعمال الرسل لــ "تيوفيل" وحده، بل باسمه إلى كلّ الجماعة المسيحيَّة.

2 إِلى اليَوْمِ الَّذي رُفِعَ فِيهِ إِلى السَّمَاء، بَعْدَ أَنْ أَعْطَى بِالرُّوحِ القُدُسِ وَصَايَاهُ لِلرُّسُلِ الَّذينَ اخْتَارَهُم.
كانت الرواية الأخيرة في إنجيل لوقا هي صعود يسوع إلى السماء ورجوع الرسل إلى أورشليم (راجع لو 24: 50-53). نقرأ في الفصل الأوَّل من أعمال الرسل أنَّ صعود يسوع حدث بعدما أوصى بالرُّوح القدس الرسل الَّذين اختارهم. ونرى في إنجيل لوقا أنَّ المسيح أوصى الرسل ليكونوا "شهودًا" له ويكرزوا "باسمه بالتَّوبة لمغفرة الخطايا، وفي جميع الأمم، ابتداءً من أورشليم" (لو 24: 47).

3 وقَدْ أَظْهَرَ لَهُم نَفْسَهُ حَيًّا بَعْدَ آلامِهِ بِكَثِيرٍ مِنَ الأَدِلَّة، وهُوَ يَتَرَاءَى لَهُم مُدَّةَ أَرْبَعِينَ يَومًا، ويُكَلِّمُهُم عَنْ شُؤُونِ مَلَكُوتِ الله.
ذكر لوقا أنَّ يسوع جعل الرسل مؤهَّلين ليكونوا شهوده إذ "أظهر لهم نفسه حيًّا بعد آلامه بكثيرٍ من الأدلَّة، وهو يتراءى لهم مدَّة أربعين يومًا" بعد قيامته. قدَّم لوقا في إنجيله أمثلةً لإثباتٍ مُقنعٍ قدَّمه يسوع: سمح لتلاميذه بأن يلمسوه، وأكل طعامًا ليبيّن أنَّه ليس روحًا (راجع لو 24: 36-43؛ أعمال 10: 40-41).
لقد ظهر يسوع مرَّاتٍ كثيرة خلال فترةٍ زمنيَّة طويلة مدَّتها "أربعين يومًا". لم يكن هدف يسوع من البقاء على الأرض لمدَّة "أربعين يومًا" الاستمتاع بالشركة مع تلاميذه، بل ليستخدم هذه الفترة لإعدادهم للرسالة مكلّمًا إيَّاهم "عن شؤون ملكوت الله". كان الملكوت هو الفكرة الرئيسيَّة بالنسبة إلى يسوع منذ بداية خدمته، والآن يُعيد إلى ذاكرة التلاميذ تعليمه عن الملكوت. كان هناك عائقٌ كبيرٌ أمام يسوع لا بدَّ أن يتخطَّاه عندما كان يعلّم تلاميذه عن الملكوت. فلمَّا استخدم يسوع كلمة "ملكوت" قصد بها تأسيس نظامٍ روحيّ فيه يملك الله في قلوب الناس، أمَّا التلاميذ ففهموا شيئًا آخر وفكَّروا بمملكةٍ دنيويَّة، أي الفكرة بأنَّ المسيح سينتصر على أعداء إسرائيل، ويؤسّس عرشه في أورشليم. هذه الفكرة المغلوطة الَّتي كانت لليهود عن المملكة الموعود بها هي السبب الرئيسيّ الَّذي جعل الكثير منهم يرفضون يسوع بصفته المسيح المنتظَر. يوضح سلوك التلاميذ في الإنجيل أنَّهم اعتبروا وجهة النَّظر هذه صحيحة. شدَّد يسوع على الملكوت الروحيّ، لكن لم يكن سهلًا لرسله أن يدركوا ذلك المفهوم.

4 وفِيمَا هُوَ يَأْكُلُ مَعَهُم، أَمَرَهُم أَلاَّ يُغَادِرُوا أُورَشَلِيم، بَلْ أَنْ يَنْتَظِرُوا فيهَا وَعْدَ الآبِ "الَّذي سَمِعْتُمُوهُ مِنِّي؛
5 لأَنَّ يُوحَنَّا عَمَّدَ بِالمَاء، أَمَّا أَنْتُم فَسَوفَ تُعَمَّدُونَ بِالرُّوحِ القُدُسِ بَعْدَ بِضْعَةِ أَيَّام".

افتقار الرسل للفهم هو خلفيَّة ما يشرحه لوقا هنا. أعطى يسوع وعدًا رائعًا كجزءٍ من إعداد رسله لحلول الروح القدس والانطلاق للرسالة. كان الرسل يتوقَّعون تنظيمًا سياسيًّا يشغلون فيه مناصب الإكرام، فقام "بينهم جدالٌ من منهم يُعدُّ أعظمهم" (لو 22: 24). أراد يسوع أن يعرّفهم أنَّ ما أعدَّه الله أفضل لهم بكثير من كلّ ما توقَّعوه. هم توقَّعوا المناصب، ولكنَّ يسوع أعدَّ لهم قوَّةً من العلاء، عندما "سيُعمَّدون بالروح القدس" (أعمال 1: 5).
أعدَّ يسوع رسله للأيَّام المقبِلة. كان يجمعهم معًا ليعطيهم توصياتٍ أخيرة قبل صعوده إلى السماء. "أمرهم ألَّا يُغادروا أورشليم، بل أن ينتظروا فيها وعد الآب" (أعمال 10: 4). كان الآب قد وعد على لسان يوحنَّا المعمدان: "أنا (يوحنَّا) أعمّدكم بالماء، ولكن يأتي من هو أقوى منّي، من لستُ أهلًا أن أحلُّ رباط حذائه. هو سيعمّدكم بالروح القدس والنَّار" (لو 3: 16). والآن قد حان الوقت لتتميم الوعد.
في كلامه عن وعد الآب، ذكر يوحنَّا المعمدان "الروح القدس والنَّار" (لو 3: 16)، أمَّا يسوع فذكر "الروح القدس" (أعمال 1: 5) فقط. كان يوحنَّا يُخاطب جمعًا مختلطًا، يشمل التَّائبين وغير التَّائبين. تشير كلمة "النَّار" في هذا السياق إلى غير التائبين (راجع لو 3: 9، 17).
كان الرسل قد سمعوا يسوع نفسه: "الَّذي سمعتموه منّي" (أعمال 1: 4) يشدّد على أنَّه سيُرسل الروح ليُرشدهم (لو 12: 12). وهو يقول الآن إنَّ الوعد بإرسال الروح القدس سيتحقَّق "بعد بضعة أيَّام" (أعمال 1: 5).

6 وكَانَ الـمُجْتَمِعُونَ يَسْأَلُونَهُ قَائِلين: "يَا رَبّ، أَفِي هـذَا الزَّمَانِ تُعِيدُ الـمُلْكَ لإِسْرَائِيل؟".
أظهر الرسل أنَّهم كانوا يفكّرون بشيءٍ آخر. تعليم يسوع في الآية السابقة أعاد إحياء آمالهم السياسيَّة "فسألوه قائلين: يا ربّ، أفي هذا الزمان تُعيد الملك لإسرائيل؟". الكلمتَان "تردُّ" و"إسرائيل" هما كلمتان رئيسيَّتان لفهم ما كان يفكّر به الرسل. ما زالوا يفكّرون في ذلك الوقت بمفهوم أنَّ يسوع سيجدّد المجد الدنيويّ لإسرائيل الَّذي كان في أيَّام داود وسليمان، عندما كانت إسرائيل أكبر مملكةٍ على الأرض بأسرها. 

7 فَقَالَ لَهُم: "لَيْسَ لَكُم أَنْ تَعْرِفُوا الأَزْمِنَةَ والأَوْقَاتَ الَّتِي حَدَّدَهَا الآبُ بِسُلْطَانِهِ الخَاصّ.
8 لكِنَّكُم سَتَنَالُونَ قُوَّةً بِحُلُولِ الرُّوحِ القُدُسِ عَلَيْكُم، وتَكُونُونَ لِي شُهُودًا في أُورَشَلِيم، وفي كُلِّ اليَهُودِيَّةِ والسَّامِرَة، حَتَّى أَقَاصِي الأَرض".

شدَّد يسوع على أنَّه ليس من اختصاص الرسل أن "يعرفوا الأزمنة والأوقات" (أعمال 1: 7). لم يوبّخهم يسوع بسبب سوء فهمهم لطبيعة الملكوت الَّتي ستتَّضح لهم "بعد بضعة أيَّام" (أعمال 1: 5). بل أجابهم على مسألة جدول عمل الله. فعندما يحلُّ وعد الله، في الوقت الَّذي حدَّده هو يتمُّ تأسيس الملكوت.
لم يكن من السهل على الرسل أن يفهموا الطبيعة الجامعة لملكوت المسيح الروحيّ؛ تركَّزت أحلامهم في بلادهم. صعوبتهم واضحة في أعمالهم اللَّاحقة في كتاب أعمال الرسل: كان الله قد دفعهم بقوَّة ليُخرجهم "من أورشليم، وكلَّ اليهوديَّة والسَّامرة، حتَّى أقاصي الأرض" (أعمال 1: 8). ربَّما لم يكن أيٌّ من الرسل قد ذهب قبل ذلك إلى مكانٍ أبعد شمالًا من الطرف الجنوبيّ لسوريَّا، ولا أبعد شرقًا من الشاطئ الشرقيّ لبحر الجليل، ولا أبعد جنوبًا من الحدود مع مصر، ولا أبعد غربًا من شواطئ البحر الأبيض المتوسّط. والآن قال لهم يسوع إنّهم سيذهبون إلى جميع أنحاء العالم، ويأخذون معهم البشرى السارَّة عن قيامته إلى كلّ مكان.
طلب يسوع من الرسل أن "يكونوا له شهودًا" (أعمال 1: 8). كلمة "شهود" رئيسيَّة في كتاب أعمال الرسل. وقد تُرجِمَت من الكلمة اليونانيَّة mártus، الَّتي ورد ذكرها تسعًا وعشرين مرَّة في هذا الكتاب، بكلٍّ من الصيغتَين الإسميَّة والفعليَّة. هذه هي الكلمة الَّتي نحصل منها على كلمة "شهيد"، أي من يشهد للمسيح إلى حدّ الموت.
المعنى الأساسيّ لكلمة "شاهد" يُشار إليه بعبارة "شاهد عيان": من يُدلي بشهادةٍ بخصوص ما رأى أو سمع (راجع أعمال 4: 20). كان الرسل شهودًا بمفهومٍ خاصّ. كان باستطاعتهم أن يشهدوا على قيامة المسيح لأنَّهم رأوه بعد قيامته من الموت (راجع أعمال 1: 22). ومن ناحيةٍ أخرى، يستخدم لوقا أحيانًا الصيغَتَين الإسميَّة والفعليَّة لكلمة "شاهد" ليشير إلى شهادةٍ غير شهادة الرسل، في ما يختصّ بقيامة المسيح من بين الأموات (راجع أعمال 6: 13؛ 13: 22؛ 14: 3، 17؛ 16: 2؛ 22: 12؛ 26: 5)، من خلال اختبار عمل الله في حياة الانسان كما كان إسطفانوس. 

9 ولَمَّا قَالَ هـذَا، رُفِعَ بِمَرأًى مِنْهُم، وحَجَبَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ عُيُونِهِم.
عندما حان وقت صعود يسوع إلى السماء، وصف لوقا الحدث بهذه الكلمات: "ولـمَّا قال هذا، رُفِع بمرأًى منهم، وحجبتهُ سحابةٌ عن عيونهم". يقول لوقا في الإنجيل: "ثمَّ خرج بهم إلى القرب من بيت عنيا، ورفع يديه، وباركهم. وفيما هو يباركهم، انفصل عنهم ورُفِع إلى السماء." (لو 24: 50-51).

10 وفيمَا كَانُوا شَاخِصِينَ إِلى السَّمَاء، وهُوَ ذَاهِب، إِذَا رَجُلانِ قَدْ وقَفَا بِهِم في ثِيَابٍ بَيْضَاء،
كان صعود يسوع إلى السماء ذروةً لقيامته. لقد كمل عمله، وذهب إلى المجد. لكنَّ التلاميذ تحيَّروا: كانوا "يشخصون إلى السماء وهو ذاهبٌ". لم تكن هذه المرَّة الأولى الَّتي يرون فيها يسوع "يُحجَب عن أنظارهم" منذ قيامته (راجع لو 24: 31). لا بدَّ من أنَّهم تعجَّبوا: هل انطلق عنهم حقًّا أم سيظهر فجأةً مرَّةً أخرى كما كان يفعل تكرارًا خلال الأربعين يومًا الماضية.
لم يُطِل تعجُّبهم، لأنَّه "إذا رجلان قد وقفا بهم في ثيابٍ بيضاء". كانا ملاكين مُرسلين من عند الله. هذه إحدى الطرق الَّتي يُشير بها لوقا إلى الملائكة (راجع لو 24: 4). ربَّما ظهر ملاكان ليكونا شاهدَين (راجع تث 19: 15).

11 وقَالا: "أَيُّهَا الرِّجَالُ الـجَلِيلِيُّون، مَا بَالُكُم واقِفِينَ تُحَدِّقُونَ إِلى السَّمَاء؟ إِنِّ يَسُوعَ هذَا الَّذي رُفِعَ عَنْكُم إِلى السَّمَاءِ سَيَأْتي كَمَا رَأَيْتُمُوهُ ذَاهِبًا إِلى السَّمَاء!".
كانت رسالة الملاكين جزءًا ضروريًّا لإعداد الرسل عقليًّا وعاطفيًّا. يحتوي الجزء الأوَّل من رسالتهما على تحدٍّ: "يسوع هذا الَّذي رُفع عنكم إلى السماء". لقد انطلق يسوع، ولم يعُد يظهر لهم كما كان يفعل في الأيَّام الأربعين الماضية. لقد مضى إلى السماء، وبقي عليهم أن يقوموا بعمله. ويحتوي الجزء الثاني من رسالتهما على تعزية: "سيأتي كما رأيتموه ذاهبًا إلى السماء!". لقد صعد يسوع إلى السماء، ولكنَّه سيرجع يومًا ما في المجيء الثَّاني.

12 حِينَئِذٍ رَجَعُوا إِلى أُورَشَليمَ مِنَ الـجَبَلِ الـمَدْعُوِّ جَبَلَ الزَّيْتُون، وهُوَ قَرِيبٌ مِنْ أُورَشَلِيم، على مَسِيرَةِ سَبْتٍ مِنهَا.
كان يسوع قد قال للرسل إنَّه كان ينبغي لهم أن "يكرزوا باسمه بالتوبة لمغفرة الخطايا، في جميع الأمم، ابتداءً من أورشليم... فامكثوا أنتم في المدينة (أورشليم) إلى أن تُلبسوا قوَّةً من العلاء" (لو 24: 47، 49). علاوةً على ذلك، قال لهم إنَّهم "سيكونون له شهودًا في أورشليم..." (أعمال 1: 8). لم يكن هناك شكٌّ بخصوص ما أراده يسوع من الرسل أن ينتظروا في أورشليم.
ربَّما لم تكن أورشليم المكان الَّذي يفضّل الرسل أن يذهبوا إليه حينئذٍ، لأنَّها المدينة الَّتي صُلِبَ فيها يسوع، والمكان الَّذي يوجد فيه أعداؤهم. لم يكن للرسل صِلات بأورشليم؛ إذ كانت بيوتهم وعيالهم في الجليل. لكنَّ يسوع كان قد قال إنَّه ينبغي لهم أن ينتظروا في أورشليم. فــ"رجعوا إلى أورشليم" بإيمانٍ وطاعة.
استخدم لوقا عبارة "على مسيرة سبتٍ منها" لتحديد المسافة، ولكنَّها لا تشير إلى أنَّ يسوع صعد إلى السماء في يوم السبت. كانت المسافة الَّتي تسمَّى بــ"سَفَر سبتٍ" هي المسافة الَّتي قرَّر معلّمو اليهود أنَّه مسموحٌ لليهوديّ أن يقطعها في يوم السبت بناءً على ما ورد في سِفرَي الخروج والعدد (راجع خر 16: 29؛ عد 35: 5).
يتَّضح أنَّ صعود يسوع إلى السماء حدث بالقرب من بيت عنيا (راجع لو 24: 50)، الَّتي تقع على المنحدر الشرقيّ من جبل الزيتون. وبيت عنيا نفسها تبعد عن أورشليم أكثر من "سَفَر سبتٍ". من الواضح أنَّ "الجبل المدعوّ جبل الزيتون، وهو قريبٌ من أورشليم، على مسيرة سبتٍ منها". لهذا لم يقطع التلاميذ مسافةً طويلة عند رجوعهم إلى أورشليم.

13 ولَمَّا دَخَلُوا المَدينَة، صَعِدُوا إِلى العِلِّيَّة، الَّتِي كَانُوا يُقِيمُونَ فِيهَا، وهُم: بُطْرُسُ ويُوحَنَّا ويَعْقُوبُ وأَنْدرَاوُس، فِيلبُّسُ وتُومَا، بَرْتُلْمَاوُسُ ومَتَّى، يَعْقُوبُ بْنُ حَلْفَى وسِمْعَانُ الغَيُورُ ويَهُوذَا بْنُ يَعْقُوب.
أعطى لوقا قائمةً بأسماء الرسل الَّذين مكثوا في أورشليم. هذه هي المرَّة الرابعة والأخيرة الَّتي تُسرَد فيها أسماء الرسل في العهد الجديد (راجع متَّى 10: 2-4؛ مر 3: 16-19؛ لو 6: 13-16). ما يجعل هذه القائمة مختلفة عن غيرها هو أنَّ الأسماء الواردة فيها هي أحد عشر اسمًا فقط؛ لا يوجد فيها اسم "يهوذا الإسخريوطيّ".

14 هـؤُلاءِ كُلُّهُم كَانُوا مُوَاظِبينَ عَلى الصَّلاةِ بِنَفْسٍ وَاحِدَة، مَعَ بَعْضِ النِّسَاء، ومَرْيَمَ أُمِّ يَسُوع، ومَعَ إِخْوَتِهِ.
الانتظار مع الآخرين أمرٌ جيّد، كما هو واضحٌ من قائمة الَّذين كانوا ينتظرون مع الرسل. تذكر الآية التالية (أعمال 1: 15) أنَّ "مئةً وعشرين شخصًّا" كانوا مجتمعين في وقتٍ واحد. كم كانت تلك الجماعة لافتة للانتباه. كان من بينهم "بعض النساء". ربَّما شمل ذلك مريم ومرتا (لو 10: 38)، وزوجات الرسل (1 قور 9: 5)، والنساء اللَّواتي خدَمنَ يسوع وأتباعه (متَّى 27: 55-56؛ لو 8: 2-3)، والنساء اللَّواتي كنَّ عند الصَّليب (مر 15: 40؛ يو 19: 25)، والنساء اللَّواتي ذهبنَ إلى القبر لدهن جسد يسوع بالطّيب (لو 23: 55؛ 24: 10).
ذُكِرت أيضًا "مريم أمُّ يسوع" بصفةٍ خاصَّة أنَّها كانت حاضرة. وهذه المرَّة الأخيرة الَّتي يرد فيها ذكر مريم في العهد الجديد. بعد ذلك تمَّ ذكر "إخوة يسوع"، وهؤلاء كانوا إخوة يسوع غير الأشقَّاء، إنَّما المقرَّبين منه في حياته منهم الَّذين قبلوه، ومنهم من رفضوه.
قد لا نعرف كلَّ ما دار خلال فترة انتظارهم، ولكنَّنا نعرف أشياءَ عديدة قامت بها تلك المجموعة. تمَّ ذكر أنَّهم "كانوا كلُّهم مواظبين على الصلاة بنفسٍ واحدة". يُخبرنا لوقا في الإنجيل بأنَّهم "كانوا يسبّحون ويباركون الله" (لو 24: 53). وكان التلاميذ قد سألوا يسوع أن يعلّمهم كيف يصلُّون (راجع لو 11: 1). عبارة "بنفسٍ واحدة" مهمَّة جدًّا، وهي مُترجَمة من الكلمة اليونانيَّة homothumadón، وقد وردت هذه الكلمة اليونانيَّة إحدى عشر مرَّة في كتاب أعمال الرسل. نتأمَّل هنا بالَّذين اجتمعوا معًا للانتظار، لم يكونوا "بنفسٍ واحدةٍ" وقلبٍ واحدٍ تلقائيًّا. كان بعضهم قد تشاجروا مع بعضهم الآخر قبل موت يسوع على الصَّليب بوقتٍ قليل (راجع لو 22: 24). قد ترك كثيرون الرَّبَّ وأنكروه. لا شكَّ في أنَّه كان من السهل أن يتَّهموا بعضهم البعض. ما نراه الآن أنَّ "إخوة يسوع"، الَّذين كانوا يسخرون منه، جلسوا جنبًا إلى جنبٍ مع الَّذين كانوا يتبعونه، لكي تكون هذه الجماعة "بنفسٍ واحدة". ربَّما ذرفت دموع البغض، وابتَلعَ آخرون كبرياءهم لكي يكونوا "بنفسٍ واحدة". استطاع هؤلاء التلاميذ أن يبلغوا وحدة القلب لأنَّهم كانوا موحَّدين بالإيمان بالرَّبّ القائم من بين الأموات.

خلاصة روحيَّة
خلال فترةٍ دامت أربعين يومًا، كانت ظهورات المسيح لتلاميذه إعلاناتٍ كشفت عن مجد الصَّليب بتأكيد قيامته. إنَّ ملكوت الله هو ما قدَّمه الرَّبُّ يسوع المسيح لتلاميذه خلال هذه الفترة كرصيدٍ حيٍّ لكرازتهم. قدَّم ذاته لهم بكونه المصلوب القائم من بين الأموات. بهذا صار ملكوت الله منظورًا ومسموعًا وملموسًا بالمسيح القائم. فالشهادة العمليَّة لقيامته من الأموات هي الجانب العمليّ لاختبار ملكوت الله فينا.
ربَّما يتساءل البعض: لماذا لم يظهر المسيح القائم علانيةً لكلّ البشريَّة كما صُلِبَ علانيةً، وإنَّما ظهر للتلاميذ والرسل ولمجموعاتٍ معيَّنة؟ لأنَّه لو ظهر علانيةً للجميع، لظنَّ الكلّ أنَّه مجرّد ظهور لشخصه، وليس قيامة من الأموات. فالتلاميذ أنفسهم، بالرغم من سماعهم عدَّة مرَّاتٍ عن قيامته قبل صلبه، وظهوره لهم، ولمسه، واشتراكهم معه في الأكل... مع كلّ هذا كانوا في حالة اضطرابٍ شديدٍ وارتباك، إذ لم يكن من السهل الإيمان بقيامة ميت! لهذا، أراد المسيح بشتَّى الطرق تأكيد قيامته لهم حتَّى يكونوا شهودًا لها في كرازتهم في العالم أجمع. فمع قيامته وأحاديثه معهم عن "ملكوت الله" (أعمال 1: 3) خلال أربعين يومًا، لا زالت أفكارهم القديمة حول ملك المسيح الأرضيّ متجذّرة فيهم.
لم تكن قلوب التلاميذ قد ارتفعت بعد مع المسيح إلى السماء، ليطلبوا مملكةً سماويَّة، بالرغم من أنَّهم "كانوا شاخصين إلى السماء" (أعمال 1: 10). كان الرَّبُّ يسوع يقدّم لهم الوعد بالروح القدس ليصعد بهم منذ الآن إلى السماء، بينما كانت قلوبهم لا تزال ملتصقة بالزمن والمجد الأرضيّ. كانوا يحملون في قلوبهم حنينًا قويًّا ليُعيد الرَّبُّ الـمُلكَ لإسرائيل (أعمال 1: 6). لهذا كانت آخر وصيَّةٍ لهم ألَّا ينشغلوا "بالأزمنة والأوقات" (أعمال 1: 7) حتَّى تنفتح قلوبهم على الأبديَّة، وتسمو أفكارهم فوق حدود الزمن.
ونحن على مثالهم، يُتيح لنا صعود الرَّبّ إلى السماء أن نُلقي الضوء أكثر على حياتنا، إذ يدعونا للغوص في أعماقها، حيث نكتشف كرمَ الله وفيض حنانه علينا، فلا يبقى لنا عندها سوى العبور من الماديّ إلى الروحيّ، من الأنانيَّة إلى البذل، والعمل من أجل الخير العام كي يستطيع العالم أن يرى نور المسيح. ورغم ضعفنا، فإنّ الحبَّ والعطاء من أجل المسيح يجعلاننا نطوف الأقطار كلَّها "مزوَّدين بروح الحقّ، بالحبِّ الجديد، ومُجدَّدين بالرجاء" فنصعد "صوب دار العلياء، الـمُلكِ السَّعيد" (نشيد الدخول في خدمة قدَّا خميس الصعود).


تحميل المنشور