كَسر الكلمة - الرسائل -22- أحد مدخل الصوم الكبير

كَسر الكلمة - الرسائل -22- أحد مدخل الصوم الكبير

أحد مدخل الصوم الكبير: آية عرس قانا الجليل
(روم 14: 14-23)
14 وإِنِّي عَالِمٌ ووَاثِقٌ، في الرَّبِّ يَسُوع، أَنْ لا شَيءَ نَجِسٌ في ذَاتِهِ، إِلاَّ لِمَنْ يَحْسَبُهُ نَجِسًا، فَلَهُ يَكُونُ نَجِسًا.
15 فإِنْ كُنْتَ مِنْ أَجْلِ الطَّعَامِ تُحْزِنُ أَخَاك، فَلا تَكُونُ سَالِكًا في الـمَحَبَّة. فَلا تُهْلِكْ بِطَعَامِكَ ذَاكَ الَّذي مَاتَ الـمَسِيحُ مِنْ أَجْلِهِ!
16 إِذًا فَلا تَسْمَحُوا بَأَنْ يَصِيرَ الـخَيْرُ فيكُم سَبَبًا للتَجْدِيف.
17 فَلَيْسَ مَلَكُوتُ اللهِ أَكْلاً وَشُرْبًا، بَلْ بِرٌّ وَسَلامٌ وفَرَحٌ في الرُّوحِ القُدُس.
18 فَمَنْ يَخْدُمُ الـمَسِيحَ هـكَذَا فهوَ مَرْضِيٌّ لَدَى الله، ومَقْبُولٌ لَدَى النَّاس.
19    فَلْنَسْعَ إِذًا إِلَى مَا هوَ لِلسَلام، ومَا هُوَ لِبُنْيَانِ بَعْضِنَا بَعْضًا.
20 فَلا تَنْقُضْ عَمَلَ اللهِ مِنْ أَجْلِ الطَّعَام؛ لأَنَّ كُلَّ شَيءٍ طَاهِر، ولـكِنَّهُ يَنْقَلِبُ شَرًّا عَلى الإِنْسَانِ الَّذي يَأْكُلُ وَيَكُونُ سَبَبَ عَثْرَةٍ لأَخِيه.
21 فَخَيْرٌ لَكَ أَنْ لا تَأْكُلَ لَحْمًا، ولا تَشْرَبَ خَمْرًا، ولا تَتَنَاوَلَ شَيئًا يَكُونُ سَبَبَ عَثْرَةٍ لأَخِيك.
22 واحْتَفِظْ بِرأْيِكَ لِنَفْسِكَ أَمَامَ الله. وطُوبَى لِمَنْ لا يَدِينُ نَفْسَهُ في مَا يُقَرِّرُهُ!
23 أَمَّا الـمُرْتَابُ في قَرَارِهِ، فَإِنْ أَكَلَ يُدَان، لأَنَّ عَمَلَهُ غَيْرُ صَادِرٍ عَنْ يَقِينٍ وإِيْمَان. وكُلُّ عَمَلٍ لا يَصْدُرُ عَنْ يَقِينٍ وإِيْمَانٍ فَهُوَ خَطِيئَة.

مقدّمة
أحدُ مدخلِ الصَّومِ الكبيرِ: آيةُ عرسِ قانا الجليلِ، هو أحدُ مدخلِ الصَّومِ وبدايةُ مرحلةٍ طقسيَّةٍ جديدةٍ وغنيَّةٍ جدًّا. اللَّافِتُ في قراءاتِ هذا الأحدِ، أنَّها لا تأتي على ذكرِ الصَّومِ، والصَّلاةِ، والصَّدقةِ بشكلٍ مباشرٍ، إنَّما يمكنُ أن نستقيَ منها معنى هذه الرّكائزِ الثَّلاثِ من خلالِ ما ترمي إليه النّصوصُ في إطارِها.
ففي الرِسالةِ إلى أهل روما (روم 14: 14-23)، يوجّهُ القدّيسُ بولسُ كلامَه إلى "الأقوياءِ"، داعيًا إيَّاهم إلى أنْ يرَوا في الأخِ "الضَّعيفِ" (روم 14: 1)، الَّذي لا يتَّفقون معه، بسببِ تصلُّبِ رأيِه أو عنادِه، فرصةً لمساعدةِ مَن "ماتَ المسيحُ مِن أجلِهِ" (روم 14: 15)، بدلًا من أن يرَوه كخصمٍ. كما ويضَعُ القارئُ على الطَّريقِ الصَّحيحِ للانطلاقِ في رحلةِ الصَّومِ: "ليس ملكوتُ اللهِ أكلًا وشُربًا، بل برٌ وسلامٌ وفرحٌ في الرُّوحِ القدسِ" (روم 14: 17). لذا يركّزُ صومُنا، أوَّلًا وآخرًا على السَّعيِ إلى السَّلامِ، والبرِّ، وعملِ الخيرِ، وكلِّ ما يؤدّي إلى "بنيانِ بعضِنا بعضًا" (روم 14: 19)، إذ لا يكفي "صومُ الخبزِ، بل صَونُ القلبِ عن كلِّ شرٍّ" (اللحن الثَّاني في صلاة مساء الاثنين من زمن الصَّوم الكبير).

شرح الآيات
14 وإِنِّي عَالِمٌ ووَاثِقٌ، في الرَّبِّ يَسُوع، أَنْ لا شَيءَ نَجِسٌ في ذَاتِهِ، إِلاَّ لِمَنْ يَحْسَبُهُ نَجِسًا، فَلَهُ يَكُونُ نَجِسًا.
تبدأُ هذه الآيةُ بتعبيرِ بولسَ القويِّ عن موقفِ الَّذي يتيقَّنُ منه، "في الرَّبِّ يسوعَ"، بما يختصُّ بمسألةِ أكلِ اللَّحمِ: "أنَّ لا شيءَ نجسٌ في ذاتِه". كانت كلمةُ نجسٍ (باللغة اليونانيَّة koinós) صيغةً يستخدمها اليهود للإشارةِ إلى ما هو غيرُ طاهرٍ بحسبِ الطُّقوسِ. في الأصلِ أعلنَ اللهُ أنَّ كلَّ ما خلقَه "كانَ حسنًا" (تك 1: 31)، لكنَّ الانسانَ أساءَ استخدامَه. مع ذلك، تبقى الخليقةُ بحدِّ ذاتِها طاهرةً لأنّ "كلَّ ما خلقَه الله حسنٌ، ولا شيءَ مرذولٌ إذا تناولَه الانسانُ بالشُّكر" (1 طيم 4: 4). بهذا المعنى يتكلَّم بولسُ على اللَّحمِ بصفةٍ خاصَّةٍ. حتَّى وإنْ كان اللَّحمُ مذبوحًا للأوثانِ، أو حتَّى وإنْ لم يكُنْ قد أُعِدَّ بحسَبِ متطلّباتِ "kosher" (الطّعامِ الحلالِ وِفقَ الأحكامِ اليهوديَّةِ)، فليسَ هناكَ لحمٌ "نجسٌ في ذاتِه، إلَّا لِمَنْ يحسَبُه نجِسًا، فله يكونُ نجِسًا"، لماذا؟ لأنَّه لا يأكُلُه بضميرٍ صالحٍ.
فمَنْ أرادَ أن يصومَ، عليه أن يقتَنِعَ بأنَّ "لا شيءَ نجسٌ في حدِّ ذاتِه"، كما أوضحَ الرَّبُّ للقدّيسِ بطرسَ في الرُّؤيا الَّتي أوردَها لوقا في سِفر أعمالِ الرُّسُلِ: «قال بطرسُ: "حاشا، يا ربّ، فإنّي ما أكلتُ يومًا نجسًا أو دنسًا". فخاطبَه الصَّوتُ ثانيةً: "ما طهَّرَه اللهُ، لا تُنَجِّسُهُ أنتَ!"» (أعمال 10: 14-15). إذًا، ليسَ الامتناعُ عن أصنافٍ محدَّدةٍ، كاللُحومِ والبياضِ، نابعًا من كونِها مأكولاتٍ نجسةً، إنَّما هي عودةٌ إلى تقليدِ الكتابِ المقدَّسِ الَّذي يورِدُ أنَّ الانسانَ، قَبْلَ الخطيئةِ، كانَ يأكلُ فقط ما أعطاهُ إيَّاهُ الرَّبُّ: "إنّي قد أعطيتُكم كلَّ بَقلٍ يُبزِرُ بِزرًا على وجهِ كلِّ الأرضِ، وكلَّ شجرٍ فيه ثَمَرُ يُبزِرُ بِزرًا لكم يكونُ طعامًا" (تك 1: 29). إنَّها عودةٌ إلى روحانيَّةِ الجنَّةِ حيْثُ لم يكُنِ الانسانُ بَعْدُ قد استَهلَكَ اللُّحومَ والمُنتجاتِ الحيوانيَّةَ.

15 فإِنْ كُنْتَ مِنْ أَجْلِ الطَّعَامِ تُحْزِنُ أَخَاك، فَلا تَكُونُ سَالِكًا في الـمَحَبَّة. فَلا تُهْلِكْ بِطَعَامِكَ ذَاكَ الَّذي مَاتَ الـمَسِيحُ مِنْ أَجْلِهِ!
تبدأُ هذه الآيةِ بــــ "فاء الاستئنافيةِ" (باللّغة اليونانيَّة gar) الَّتي قد تشيرُ إلى ما قالَه بولسُ قبلًا: "أنْ لا تجعلوا لأخيكُم عثرةً أو شكًّا" (روم 14: 13). لماذا؟ للسَّببِ الآتي: "فإنْ كُنْتَ من أجلِ الطَّعامِ تُحْزِنُ أخاك، فلا تكونُ سالكًا في المحبَّةِ" (روم 14: 15). الكلمةُ اليونانيَّةُ المستخدمةُ هنا هي الكلمةُ العامَّةُ للطَّعامِ (broma)، ولكنَّها تشيرُ إلى اللَّحمِ الَّذي كانَ يأكُلُه بعضُ المسيحيّين بينما لم يأكلْه مسيحيُّون آخرون.
يُشيرُ فعلُ "يُحزِنُ" إلى أكثرِ من مجرَّدِ اضطرابٍ عاطفيٍّ، لأنَّ الجملةَ التاليةَ تربُط فعلَ الحزنِ بفعل "تُهلِكُ". فبولس هنا يتكلَّمُ على الحزنِ الرُّوحيّ والهلاكِ الأبديّ. لكن كيف يُهلكُ أكلُ اللَّحمِ "الأخَ الضَّعيفَ" ويحُزنُهُ؟ تباهي "الأخ القويّ" بحريَّتِه لأكلِ اللَّحمِ قد يجرحُ مشاعرَ "الأخِ الضَّعيفِ". ولكن ربَّما كانَ اهتمامُ بولسَ الأساسيُّ هو أنَّه عندما يرى "الأخُ الضَّعيفُ" أنَّ "الأخَ القويَّ" يأكلُ لحمًا (مذبوحًا للأوثانِ)، يأكلُ هو أيضًا من هذا اللَّحمِ بالرُّغمِ من عدمِ اقتناعِهِ بذلك.
تنتهي هذه الآيةُ بالوصيَّةِ التّاليةِ: "لا تُهلِكْ بطعامِكَ ذاك الَّذي ماتَ المسيحُ من أجلِهِ". يدلُّ فعلُ "هلَكَ" باللُّغةِ اليونانيَّةِ (apóllumi) على الهلاكِ الكاملِ. فإنّْ كانَ المسيحُ أحبَّ الانسانَ بما فيه الكفايةِ ليموتَ من أجلِهِ، أفلا يجبُ على "القويِّ" في الإيمانِ أن يُحِبَّ "الضَّعيفَ" بما فيه الكفايةِ ليمتَنِعَ عن تجريحِ ضميرِهِ؟

16 إِذًا فَلا تَسْمَحُوا بَأَنْ يَصِيرَ الـخَيْرُ فيكُم سَبَبًا للتَجْدِيف.
تبدأُ هذه الآيةُ أيضًا بــ "فاءِ الاستئنافيّةِ" بُغيةَ الوصولِ إلى المزيدِ من الخُلاصاتِ. لأنَّ أكلَ الأخِ "القويِّ" للَّحمِ هو عملٌ صالحٌ ومقبولٌ من اللهِ. ولكن تحتَ ظروفٍ معيَّنةٍ، قد يكونُ هذا العملُ وردودُ فعلِهِ سببًا للتّجديفِ. من الَّذي يّعتَبِرُ أكلَ اللَّحمِ "سببًا للتَّجديفِ"؟ من المحتمَلِ أنَّ بولسَ يقصِدُ هنا "الأخ الضعيفَ"؛ لكنَّه وسَّع عواقِبَ المسألةِ في الآياتِ التَّاليةِ (روم 14: 17-18) لتشملَ البشرَ بصفةٍ عامَّةٍ.
كان بولسُ قلِقًا بشأنِ الطَّريقةِ الَّتي توثّر بها الخلافاتُ الَّتي تحدثُ في الكنيسةِ على من يَخْدُمُ باسمِ المسيحِ. ليسَ هناك خطأ أصلًا في أكلِ اللَّحمِ. لكن إن كانَ هذا العملُ سيؤدّي إلى احتكاكاتٍ وتجريحٍ للمشاعرِ، وحتَّى إلى انقسامٍ مُحتَمَلٍ في الكنيسةِ، فإنّه يكونُ خطأً كبيرًا. إذ ليسَ هناك ما يؤثّرُ سلبًا على النَّاسِ أكثرَ مِنْ أعضاءِ الكنيسةِ الَّذين لا ينسجمون مع بعضِهم البعضِ. ينتشرُ الخبرُ عن النَّزاعِ في الكنيسةِ دائمًا في  المجتمعِ فتصبحَ الكنيسةُ موضوعَ سُخريةٍ.

17 فَلَيْسَ مَلَكُوتُ اللهِ أَكْلاً وَشُرْبًا، بَلْ بِرٌّ وَسَلامٌ وفَرَحٌ في الرُّوحِ القُدُس.
تُكَمِّلُ هذه الآيةُ الفكرةَ الَّتي بدأَتْ في الآيةِ السَّابقةِ. تشيرُ عبارةُ "ملكوتِ اللهِ" هنا إلى الكنيسةِ. استُخدمَتْ كلمَتَا "كنيسةُ" و"ملكوتٌ" بالتّبادلِ في إنجيلِ متَّى (راجع متَّى 16: 18، 19). نادرًا ما استخدَمَ بولسُ كلمةَ "ملكوتِ" (هذه هي المرَّةُ الوحيدةُ الَّتي تَظْهَرُ فيها هذه الكلمةُ في الرِّسالةِ إلى أهلِ روما)؛ بل يتحدَّثُ عادةً عن "الكنيسةِ". ربَّما استخدمَ هذه الكلمةَ هنا ليؤكّدَ أنَّ لملكوتِ اللهِ أهميَّةٌ تفوقُ كلَّ الحقوقِ الشَّخصيَّةِ.
هنا ينتقلُ بولسُ من الاهتمامِ بأخٍ واحدٍ إلى الاهتمامِ بالإخوةِ كلّهم، أي بجميعِ "الَّذين ماتَ المسيحُ من أجلِهم". فهل ماتَ المسيحُ لكي يجلِسَ النَّاسُ ويناقشون عمَّا يمكِنُ تناولُه من الأطعمةِ؟ كلَّا! قالَ بولسُ: إنَّ "ملكوتَ اللهِ" ليسَ هذا (راجع أيضًا 1 قور 8: 8)، بل هو "برٌّ وسلامٌ وفرحٌ في الرُّوحِ القدسِ"، لأنَّه وجدَ أنَّ الجماعةَ ما زالَتْ تتناقَشُ في أمورٍ تافهةٍ، بينما عليها أنْ تُرَتِّبَ أولويَّاتِها بطريقةٍ صحيحةٍ.

18 فَمَنْ يَخْدُمُ الـمَسِيحَ هـكَذَا فهوَ مَرْضِيٌّ لَدَى الله، ومَقْبُولٌ لَدَى النَّاس.
يستخلِصُ بولسُ أفكارَه في هذه الآيةِ من كلّ ما تقدَّمَ. فعبارةُ "هكذا" تشيرُ إلى كلِّ ما قالَه ابتداءً من الآيةِ الأولى: "مَن كانَ ضعيفًا في الإيمانِ فاقبلوه، ولا تحاكموه على آرائه" (روم 14: 1)؛ أي لا تدينوه، بل تخلَّوا عن حقوقِكم لكي لا تضعوا عثرةً في طريقِ "الأخِ الضَّعيفِ"، بل لتُظهِروا المحبَّةَ للأخِ "الَّذي ماتَ المسيحُ من أجلِهِ". فما يخدُمُ به الانسانُ أخاه، يعتبرُه بولسُ كخدمةٍ للمسيحِ. لأنَّه متى خدَمَ الانسانُ المسيحَ، بالطَّريقةِ الَّتي أوصاه بها، يكون "مرضيًّا لدى اللهِ، ومقبولًا لدى النَّاسِ".

19 فَلْنَسْعَ إِذًا إِلَى مَا هوَ لِلسَلام، ومَا هُوَ لِبُنْيَانِ بَعْضِنَا بَعْضًا.
أكَّدَ بولسُ على أنَّه يجبُ أن يكونَ لنا الهدفُ التَّالي: "أنْ نسعى إلى ما هو للسَّلامِ، وما هو لبنيانِ بعضِنا البعضِ".
السَّعيُ إلى السَّلامِ: إصرارُ الانسانِ على رأيه يؤدّي إلى نزاعٍ، بينما روحُ الإذعانِ يشجّعُ السَّلامَ (راجع يع 3: 17). الاهتمامَ بالنَّفسِ أكثرَ ممَّا ينبغي يؤدّي إلى الصِّراعِ، بينما الاهتمامُ بالآخرين يؤدّي إلى السّلامِ (رجع فل 2: 4). الإصرارُ في كسْبِ المناقشةِ قد يؤدّي إلى عداوةٍ، بينما المحاولةُ لفهمِ ما يقولُه الآخرُ يحافِظُ على السَّلامِ (راجع أمثال 15: 1).
السَّعيُ إلى ما هو لبنيانِ بعضِنا بعضًا: كلمةُ "بنيانٍ" (باللّغة اليونانيَّة oikodome) تعني حرفيًّا "بنيانَ البيتِ". تُستَخْدَمُ هذه الكلمةُ مجازيًّا في العهدِ الجديدِ للإشارةِ إلى بنيانِ الآخرينَ وتقويتِهم روحيًّا. فإنْ كانَ "الأخُ الضَّعيفُ" يحتاجُ إلى رعايةٍ وحمايةٍ فيما هو ينمو في المعرفةِ، "فالأخُ القويُّ" يحتاجُ أيضًا إلى النُّموِّ في المحبَّةِ.

20 فَلا تَنْقُضْ عَمَلَ اللهِ مِنْ أَجْلِ الطَّعَام؛ لأَنَّ كُلَّ شَيءٍ طَاهِر، ولـكِنَّهُ يَنْقَلِبُ شَرًّا عَلى الإِنْسَانِ الَّذي يَأْكُلُ وَيَكُونُ سَبَبَ عَثْرَةٍ لأَخِيه.
عكسُ البنيانِ هو الهدمُ! يستمرُّ بولسُ هنا في توسيعِ ما أعرَبَ عنه سابقًا (راجع روم 14: 17): "فلا تنقضُ عملَ اللهِ من أجلِ الطَّعامِ". كلمة "تنقضُ" (باللّغةِ اليونانيَّةِ katalúo) هنا معناها: يهدمُ تمامًا، يدمِّرُ أو يخرِّبُ "عملَ اللهِ". قد تشمُلُ هذه العبارةُ كلَّ ما عملَهُ اللهُ ليأتيَ بالخلاصِ للبشرِ. وتشيرُ في هذا السِّياقِ إلى النتيجةِ الأخيرةِ لذلكَ العملِ: يبيُّن الرَّسولُ بولسُ مدى سخافةِ المشاجرةِ ومأساتِها بسببِ مسائلِ الرَّأيِ في الطَّعامِ.
في الجزءِ الثَّاني من الآيةِ استخدَمَ بولسُ كلِمَتَي: "طاهرٌ" و"شرٌّ" ليؤكِّدَ على أهميَّةِ عدمِ إلحاقِ الأذى بالآخرِ. قالَ بولسُ سابقًا "أنَّ لا شيءَ نجسٌ في ذاتِهِ" (روم 14: 14)، ويؤكِّدُ هنا على شيءٍ مشابهٍ لذلِك: "لأنَّ كلَّ شيءٍ طاهرٌ"، أي أنَّ اللُّحومَ بذاتِها طاهرةٌ بجميعِ أنواعِها. ولكنَّه أضافَ قائلًا: "لكنَّه ينقلِبُ شرًّا على الانسانِ الَّذي يأكُلُ ويكونُ سببَ عثرةٍ لأخيه". قد يشيرُ ذلك إلى "الأخِ القويِّ" الَّذي يأكلُ اللَّحمَ في حضورِ "الأخِ الضَّعيفِ"، وبهذا يُنتَهَكُ ضميرُهُ.
إنْ كانَ ذلك شرًّا، فما هو الحسَنُ؟ هذا ما سيجيب عليه بولس في الآية التالية.

21 فَخَيْرٌ لَكَ أَنْ لا تَأْكُلَ لَحْمًا، ولا تَشْرَبَ خَمْرًا، ولا تَتَنَاوَلَ شَيئًا يَكُونُ سَبَبَ عَثْرَةٍ لأَخِيك.
سبَقَ بولسُ وقال: "ليس ملكوتُ اللهِ أكلًا وشُربًا..." (روم 14: 17) مضيفًا هنا "شرابُ الخمرِ". بما أنَّ بولسُ لم يعطِ أيَّ تفسيرٍ لهذه الإضافةِ، فلا نَعْلَمُ بِما كان يفكّرُ. ربَّما يدلُّ ذلك على أنَّ الأكلَ والشُّربَ هما الجِزءانِ اللَّذان يشكّلانِ وجبةَ الطَّعامِ. لكن ما هو أهمُّ مِنْ ذلك هو ألَّا يفعلَ الانسانُ شيئًا "يكونُ سببَ عثرةٍ لأخيه". هذا ما قالَه بولسُ أيضًا بوضوحٍ في موضعٍ آخر: "إنْ كانَ بعضُ الطَّعامِ سببَ عثرةٍ لأخي، فلن آكلَ لحمًا إلى الأبدِ، لئلَّا أكونَ سببَ عثرةٍ لأخي" (1 قور 8: 13).

22 واحْتَفِظْ بِرأْيِكَ لِنَفْسِكَ أَمَامَ الله. وطُوبَى لِمَنْ لا يَدِينُ نَفْسَهُ في مَا يُقَرِّرُهُ!
23 أَمَّا الـمُرْتَابُ في قَرَارِهِ، فَإِنْ أَكَلَ يُدَان، لأَنَّ عَمَلَهُ غَيْرُ صَادِرٍ عَنْ يَقِينٍ وإِيْمَان. وكُلُّ عَمَلٍ لا يَصْدُرُ عَنْ يَقِينٍ وإِيْمَانٍ فَهُوَ خَطِيئَة.

استمرَّ بولسُ في هاتين الآيتين بنصيحتِه للأخِ "القويِّ". قالَ لهذا الأخِ ألَّا يَنْشُرُ حقيقةَ أنَّه يعتَقِدُ بأنَّ أكلَ اللَّحمِ أمرٌ مقبولٌ: "احتفظ برأيك لنفسك أمام الله" (روم 14: 22). هذا لا يعني أن يكونَ "الأخُ القويُّ" مخادِعًا، بل أنْ يحتفِظَ برأيِه لنفْسِه، إنْ َكان التَّعبيرُ عنه يضرُّ بمؤمنٍ آخر. أضافَ بولسُ بعدَ ذلك: "طوبى لمن لا يَدينُ نفسَه في ما يقرِّرُه" (روم 14: 22). تشيرُ عبارةَ "ما يقرِّرُه" إلى أكلِ اللَّحمِ. إذا أضرَّ "الأخُ القويُّ" "بالأخِ الضَّعيفِ" بأكلِ اللَّحمِ أو حتَّى بالتَّعبيرِ عن رأيِه بخصوصِ هذه المسألةِ، فستدينُه أفعالُه هذه. ولكنَّه إنِ احتفَظَ برأيِه لنفسِه، يستحقُّ "الطُّوبى". تشيرُ عبارةُ "المرتابُ في قرارِه" (روم 14: 23) إلى القناعةِ الشَّخصيَّةِ. فكلُّ شيءٍ يفعلُه الانسانُ وهو غيرُ مقتنعٍ بِهِ ولا يتمُّ بإيمانٍ باطنيٍّ فهو خطيئةٌ.

خلاصة روحيَّة
جوهرُ هذا المقطعِ من الرسالةِ إلى أهلِ روما (روم 14: 14-23)، الَّذي نتأمَّلُ به في بدايةِ هذا الصَّومِ المباركِ، يتلخَّصُ في ثلاثِ كلماتٍ: "برٌّ وسلامٌ وفرح"!
* البرّ: لأنَّ المؤمنَ "لا يهتمُّ بالجسَدِ لقضاءِ شهواتِه" وبماذا يأكلُ، "بل يلْبَسُ الرَّبَّ يسوعَ المسيحِ" (روم 13: 14).
* والسلام: لأنَّه ينبعُ من اللهِ لينعكِسَ سلامًا مع الآخرين، ومساندتِهم لئلَّا يعثروا.
* والفرح: لأنَّه حقيقيٌّ ودائمٌ، لا نظريٌّ مؤقَّتٌ، يُعلّمُه الرَّبُّ يسوعُ: "ليكونَ فرحُه فينا، فيكتَمِلَ فرحُنا" (يو 15: 11).
هذا ما "علَّقَه عرسُ قانا في جدرانِ بيتِ الأفراحِ العتيقِ... فازدانَتْ بالأفراحِ تلك الدَّاُر" إذ "عوَّضَها الرَّبُّ من الخَمْرِ كأسُ الحبِّ والبرِّ" فعادَ السَّلامُ المفقودُ "في الفردوسِ الموعودِ يعلو أفراحَ الدَّهرِ" (نشيد الدخول في أحد مدخل الصَّوم الكبير، آية عرس قانا الجليل).


تحميل المنشور