كَسر الكلمة -53- الأحد الثالث بعد عيد الصليب

كَسر الكلمة -53- الأحد الثالث بعد عيد الصليب

الأحد الثّالث بعدَ عيدِ الصَّليب 
المسحاء الدجّالون وعودة ابن الإنسان
(متّى 24/ 23-31)
23إِنْ قَالَ لَكُم أَحَد: هُوَذَا المَسِيحُ هُنَا أَوْ هُنَاك! فَلا تُصَدِّقُوا.
24 فَسَوْفَ يَقُومُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وأَنْبِيَاءُ كَذَبَة، ويَأْتُونَ بِآيَاتٍ عَظِيمَةٍ وخَوارِق، لِيُضِلُّوا المُخْتَارِينَ أَنْفُسَهُم، لَو قَدِرُوا.
25هَا إِنِّي قَدْ أَنْبَأْتُكُم!
26 فَإِنْ قَالُوا لَكُم: هَا هُوَ في البَرِّيَّة! فلا تَخْرُجُوا، أَو: هَا هُوَ في دَاخِلِ البَيْت! فَلا تُصَدِّقُوا.
27 فكَمَا أَنَّ البَرْقَ يُومِضُ مِنَ المَشَارِق، ويَسْطَعُ حَتَّى المَغَارِب، هكَذَا يَكُونُ مَجِيءُ ابْنِ الإِنْسَان.
28 حَيْثُ تَكُونُ الجُثَّةُ هُنَاكَ تَجْتَمِعُ النُسُور.
29 وحَالاً بَعْدَ ضِيقِ تِلْكَ الأَيَّام، أَلشَمْسُ تُظْلِم، والقَمَرُ لا يُعْطِي ضَوءَهُ، والنُّجُومُ تَتَسَاقَطُ مِنَ السَمَاء، وقُوَّاتُ السَمَاوَاتِ تَتَزَعْزَع.
30 وحينَئِذٍ تَظْهَرُ في السَمَاءِ عَلامَةُ ابْنِ الإِنْسَان، فَتَنْتَحِبُ قَبَائِلُ الأَرْضِ كُلُّها، وتَرَى ابْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا على سُحُبِ السَمَاءِ بِقُدْرَةٍ ومَجْدٍ عَظِيم.
31 ويُرْسِلُ مَلائِكَتَهُ يَنْفُخُونَ في بُوقٍ عَظِيم، فيَجْمَعُونَ مُخْتَارِيهِ مِنَ الرِيَاحِ الأَرْبَع، مِنْ أَقَاصي السَمَاوَاتِ إِلى أَقَاصِيهَا.

مقدّمة
في هذا الأحدِ أَيضًا، تَدعُونا كَنيسَتُنا المارونيّة إِلى الوُلوجِ في عُمقِ سِرِّ مَجيءِ المسيح. فَتَعْرِضُ عَلينا نَصًّا جديدًا مِن خِطبَةِ النِّهاياتِ الأَخيرَة، منْ إِنجيلِ القدّيسِ متّى. أَلموضوعُ الأَساسُ لِهَذا النَّصِّ، نَجِدُهُ في الـمَقاطِعِ السَّابِقَة (متى 24/ 3-14) وَهُوَ طَلَبُ التَّلاميذِ مِنَ الرَّبّ يسوعَ، مَعْرِفَةَ عَلاماتِ وَتَوقيتِ مَجيءِ المسِيح. وَلَكِنَّ يَسوعَ يُجاوِبُ بِخِطْبَةٍ، يَجْمَعُ فيها بينَ: "الحِكْمَةِ التَّعْليميَّة" الَّتي يَجِبُ على التَّلاميذِ أَن يَتَمَتَّعوا بِها في مُواجَهَتِهِم لِكُلِّ مَا يُقالُ وَيُظَنُّ في شَأنِ حَدَثِ مَجيءِ المسيح. وَ"النُّبوءَةِ" الَّتي تَتحدَّثُ عَن الأَحْداثِ الـمُسْتَقبَلِيَّةِ بِرموزٍ، لِتَدُلَّ علَى أَنَّ هَذِهِ الأُمور تَتَخَطَّى عَقْلَ البَشَرِ وَقُدُراتِهِم الإِدْراكِيَّة، لأَنَّها شَأْنَ اللهِ وَحْدَهُ. فَالجَوابُ الَّذي يُعْطينَاهُ يَسوعُ هُوَ سِلاحٌ في وَجْهِ التَيَّاراتِ الـمُضِلَّةِ الَّتي تُمارِسُ السِّحْرَ وَالتَّحَاليلَ العِلْمِيَّةَ الذَّاتِيَّةَ الخالِيَةَ مِنْ روحِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ. فَوَصِيَّتُهُ لَنا بِهَذا الشَّأنِ هِيَ إِنْذارٌ شَديدٌ: "إِحْذَروا أَنْ يُضِلَّكُم أَحَد"، "هَا إِنِّي قَدْ أَنْبَأْتُكُم! "

تفسير الآيات
23 إِنْ قَالَ لَكُم أَحَد: هُوَذَا المَسِيحُ هُنَا أَوْ هُنَاك! فَلا تُصَدِّقُوا.
يَبدَأُ النَّصُّ بِإِنذارٍ شَديدٍ: "لا تُصَدِّقُوا" أَقوالَ الـمُضَلِّلين. هُمُ الَّذينَ يَحْسَبونَ أَنفُسَهُم عَالِمينَ بِتَوقيتِ وَبِمَكانِ ظُهورِ المسيحِ ومَجيئِهِ. فَبِدايَةُ هَذهِ الآيةِ: "إِن قالَ لَكُم أحَد"، هِيَ مِفتاحُ التَّمييزِ لِلمؤمِنينَ بِيَسوعَ المسيحِ وَبِكَلِمَتِهِ. فَهوَ عَلَّمَنا أَنَّ: "ذَلِكَ اليَومُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ فَلا يَعْرِفُهُما أَحَد، ولا مَلائِكَةُ السَّماوات، إِلاّ الآبُ وَحْدَهُ" متى 24/36. فَنَاقِلُ خَبَرِ مَجيءِ المسيح إِذًا، لا يُمْكِنُهُ أَن يَكونَ أَيًّا كان أَو أَحَدَ الأَشخَاص. فَالعالِمُ الوَحيدُ بِهَذا الحَدَثِ العَظيمِ هُو اللهُ الآبُ، وَهُوَ وَحْدَهُ. فَلِهَذا، لا نَسْمَحَنَّ  للـمُضَلِّلينَ أَن يَخْدَعُونَا بنُبوءَاتِهِم وبِكَذِبِهِم.

24 فَسَوْفَ يَقُومُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وأَنْبِيَاءُ كَذَبَة، ويَأْتُونَ بِآيَاتٍ عَظِيمَةٍ وخَوارِق، لِيُضِلُّوا المُخْتَارِينَ أَنْفُسَهُم، لَو قَدِرُوا.
25هَا إِنِّي قَدْ أَنْبَأْتُكُم!

تَظْهَرُ أَهَمِّيَّةُ حَدَثِ "مَجيءِ المسيحِ"، بِأَنَّهُ مَوضوعٌ سَيُسَبِّبُ الجِدالَ وَالـمُواجَهَةَ بَينَ النَّاسِ وَبِأَنَّهُ سَيَكُونُ سَبَبًا لِامْتِحَانِ إِيمانِ الـمُؤمِنينَ الـمُخْتَارِينَ. فَسَيَشْتَرِكُ في هَذهِ الـمُواجَهَةِ، أَشْخاصٌ يَتَمَتَّعونَ بِصِفَاتٍ روحِيَّةٍ (يَأتونَ بِآياتٍ عَظيمَةٍ وَخَوارِق) وَمَراكِزَ مُهِمَّةٍ (مُسَحاءُ وَأَنْبِياءُ) وَلَكِنَّهُم يَتَمَيَّزونَ بِالكَذِبْ، وَسَيُحاوِلونَ تَضْلِيلَ الـمُخْتَارينَ أَنْفُسِهِم. هَذِهِ الآيَةُ تَصِفُ مَشْهَدًا مِنَ الـمِحْنَةِ وَالحَرْبِ الرُّوحِيَّةِ بَيْنَ روحِ اللهِ الحَقِّ وَروحِ الضَّلالِ الشِّريرِ الكَاذِب. أَلـمُسَحَاءُ وَالأَنْبِياءُ الكَذَبَةُ سَيَسْتَعْمِلُونَ أَسْلِحَةً مِنْ صُنْعِ السِّحْرِ وَالشَّعْوَذَاتِ، بِهَدَفِ تَقْدِيمِ الإِثْبَاتَاتِ لِلنَّاس، بخَاصَّةٍ لِلْـمُخْتَارينَ الـمُؤمِنين لِـمُحَاوَلَةِ إِبْعَادِهِم عَنْ إِيمَانِهِم وَدَفْعِهِم إِلى التَّشْكِيكِ بِتَعْلِيمِ الرَّبِّ يَسوع.
"هَا إِنِّي قَدْ أَنْبَأْتُكُم!" إِنَّ هَذا التَّنْبِيهَ هُوَ دَعْوَةٌ لِذَاكِرَتِنَا نَحْنُ الـمُؤمِنينَ بِالرَّبّ يَسوعَ وَبِكَلِمَتِهِ، لِنَكونَ مُسْتَعِدِّينَ لِلْـمُواجَهَةِ عِنْدَمَا تَأتي سَاعَةُ امْتِحَانِ إِيمَانِنا. فَهَذِهِ النُّبُوءَةُ حَقِيقِيَّةٌ، أَنَّ الـمُضِلِّلينَ سَيَعْمَلُونَ كُلَّ مَا بِوِسْعِهِم لِتَضْلِيلِ النَّاسِ المؤمِنِين وخِداعِهِم َلِجَذْبِهِم. أَلَيسَ هَذا وَاقِعُنا، أَيْضًا اليَوم؟ كَمْ مِنْ مُؤمِنٍ يُتَابِعُ الأَبْراجَ كُلَّ يَومٍ؟ هَذا نَوعٌ شَائِعٌ مِنْ أَنواعِ التَّضْلِيلِ وَنُكْرانِ اللهِ وَعَدَمِ الإِيمانِ بِهِ وَرَفْضِ الاسْتِسلامِ لِعِنايَتِهِ الأَبَوِيَّة.

26 فَإِنْ قَالُوا لَكُم: هَا هُوَ في البَرِّيَّة! فلا تَخْرُجُوا، أَو: هَا هُوَ في دَاخِلِ البَيْت! فَلا تُصَدِّقُوا.
27 فكَمَا أَنَّ البَرْقَ يُومِضُ مِنَ المَشَارِق، ويَسْطَعُ حَتَّى المَغَارِب، هكَذَا يَكُونُ مَجِيءُ ابْنِ الإِنْسَان.
28 حَيْثُ تَكُونُ الجُثَّةُ هُنَاكَ تَجْتَمِعُ النُسُور.

مَعَ الآيَةِ (آ 26) يُنْهي الإِنْجيلِيُّ مَتّى عَرْضَ عَلامَاتِ ظُهورِ الـمَسيحِ الدَّجَّالِ الكَذَّاب. في هَذِهِ المرَّة، يُحَذِّرُنَا يَسوعُ مِن الخُروجِ لِلْتَّفْتيشِ عَن المسِيح أَوْ حَتّى لِلْبَحْثِ عَنْهُ. لِأنَّ حَدَثَ مَجيءِ المسِيح سَيَكُونُ حَدَثًا واضِحًا عَلى عُيونِ الكَونِ أَجْمَعْ. فَالآياتَانِ (27-28) تَصِفَانِ الحَدَثَ بِصُورَتَينِ مَجَازِيَّتَينِ: فَهُوَ كَالبَرْقِ الَّذي يُضيءُ بِوُضوحٍ، فَيَرَى نُورَهُ جَميعُ النَّاسِ. "مِنَ الـمَشَارِقِ حَتّى الـمَغَارِبِ"، تَعْبيرٌ يَدُلُّ عَلى وُضوحِ حَدَثِ مَجيءِ المسيحِ، الَّذي سَيَظْهَرُ عَلى مَسَاحَةِ الكَونِ كُلِّها، فَجَميعُ سُكَّانِ كَوكَبِنَا الأَرْضِيِّ سَيَرَونهُ وَيُبْهَرونَ مِنْ نُورِهِ العَظِيم. وَكَمَا البَرْقِ أَيْضًا، سَيَأْتي بِشَكْلٍ مُفَاجِئٍ غَيْرُ مُتَوَقَّعٍ وَسَريعٍ. وَالصُّورَةُ المجازِيَّةُ لِلجُثَّةِ وَالنُّسُور هِيَ لِلدَّلالَةِ عَلى قُوَّةِ الجَذْبِ الَّتي سَيَتَمَتَّعُ بِهَا هَذا الحَدَث. فَحُضُورُ المسيحِ يَسوعَ سَيَكونُ كَالفَريسَةِ، يَأتي لسَدِّ حَاجَةِ الَّذينَ يَنْتَصِرونَ عَلى مِحْنَةِ الإِيمان وَلِسَدِّ جُوعِهِم إلى الحَقيقَةِ. فَالنَّسْرُ يَرى فَريسَتَهُ عَنْ بُعْدٍ وَيَأتي نَحْوَهَا منقضًّا عليها بِسُرْعَةِ البَرْق.
بِهَاتَينِ الصُّورَتَينِ المجازِيَّتَينِ، نَجِدُ الفَرْقَ بَيْنَ العَلامَاتِ الَّتي تُمَيِّزُ مَجيءَ المسيحِ يَسوعَ عَنْ العَلاماتِ الَّتي هِيَ لِلمسيحِ الدَّجَّال. فَهَذا الأَخيرُ، ظُهورُهُ يَكونُ مَحْصُورًا في مَكَانٍ مُحَدَّدٍ إنّما غَيْرُ ثابِتٍ بل َكَاذِبٍ، فَيُمْكِنُ أَن يَكونَ "هُنا أو هُناك، في البَرِّيَّة، أَو في البَيت". وَهُوَ لَيسَ حَدَثًا عَظِيمًا إِذ لَيْسَ لَهُ نُورٌ وَلا شُعَاعٌ، وَهوَ لَيسَ جَذَّابًا، لِذا يَحْتاجُ إِلى أَشْخَاصٍ لِيُخبِروا عَنْهُ وَيدعوا النَّاسِ لِرُؤيَتِهِ. كَمَا أَنَّ هُوِيَّتَهُ غَيْرُ واضِحَة، فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَكونَ مَسيحًا، كَما يُمْكِنُهُ أَن يَكُونَ نَبِيًّا. بِالإِضَافَةِ، إِلى أَنَّهُ عَلَيْهِ أَن يَجْتَرِحَ الآيَاتِ لِكَي يَجْذِبَ النَّاسَ إِلَيْهِ. كُلُّ هَذا يَدُلُّ عَلى أَنَّ ظُهورَ المسيحِ الدَّجَّال، لَيسَ بِحَدَثٍ بَلْ هُوَ وَاقِعٌ، هُوَ حَاضِرٌ بَيْنَنَا. وَحُضورُهُ يُسَبِّبُ القَلَقَ وَالاضْطِّرابَ وَالضَّبابِيَّةَ وَالتَّعْقِيد، وَهَذِهِ عَلاماتُ حُضُورِ الرُّوحِ الشِّرّيرِ الَّذي يَنْزِعُ السَّلامَ وَالطَّمَأنِينَةَ وَالنُّور. أَمَّا مَجيءُ المسيحِ يَسوعَ هُوَ بِالفِعْلِ حَدَثٌ عَظيمٌ، لَيسَ بِحَاجَةٍ لِلإِعْلانِ عَنْهُ أَو لِلْتَّرْويجِ لَهُ، فَهُوَ جَذَّابٌ كَالفَريسَةِ، حَقيقيٌّ كَنُورِ البَرْقِ الَّذي يَمْلأُ كُلَّ الآفَاق بِسُرْعَةٍ كَبيرَة، يَأتي وَيَفْرِضُ حُضُورَهُ لِأَنَّهُ الحَقيقَةُ وَالنُّورُ الَّذي لا غِشَّ فيهِ.

29 وحَالاً بَعْدَ ضِيقِ تِلْكَ الأَيَّام، أَلشَمْسُ تُظْلِم، والقَمَرُ لا يُعْطِي ضَوءَهُ، والنُّجُومُ تَتَسَاقَطُ مِنَ السَمَاء، وقُوَّاتُ السَمَاوَاتِ تَتَزَعْزَع.
إِنَّ فَتْرَةَ انْتِظارِ مَجيءِ المسيحِ لَنْ تَكونَ فَتْرَةَ راحَةٍ وَطَمَأنينَةٍ، بَلْ مَرْحَلَةَ ضِيقٍ وَجِهادٍ مُتَواصِلٍ في سَبيلِ الحَقيقَة والثَّباتِ في الإِيمان. وَعِنْدَ ظُهورِ المسيحِ، سَتَنْقَلِبُ مَقاييسُ الكَونِ وَقَوانِينَهُ رَأسًا عَلى عَقِبٍ، فَالشَّمْسُ الَّتي خُلِقَتْ لِتُعطي النُّور سَتُظْلِم وَكُلُّ قُوَّاتِ السَّماء سَتَنطَفِئُ أَنوارُها وَتَفْقِدُ مَسارَها الطَّبيعيَّ. فَهَذِهِ الآيَةُ النَّبَوِيَّةُ لا تَصِفُ حَدَثًا تاريخِيًّا مُسْتَقْبَلِيًّا، وَلَكِنْ بِتَعابيرِها تَرْمُزُ إِلى طَريقِ عَوْدَةٍ إِلى الوَراءِ، إِلى مَا قَبْلِ تَكْوينِ الكَون، إِلى الفَتْرَةِ الَّتي كَانَ يَسودُ فيها الفَراغُ وَالظَّلام. وَكَأَنَّ حَدَثَ مَجيءِ المسيحِ هُوَ عَودَةُ الكَونِ إِلى العَدَم، مَا خَلا البَشَرِيَّة.

30 وحينَئِذٍ تَظْهَرُ في السَمَاءِ عَلامَةُ ابْنِ الإِنْسَان، فَتَنْتَحِبُ قَبَائِلُ الأَرْضِ كُلُّها، وتَرَى ابْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا على سُحُبِ السَمَاءِ بِقُدْرَةٍ ومَجْدٍ عَظِيم.
31 ويُرْسِلُ مَلائِكَتَهُ يَنْفُخُونَ في بُوقٍ عَظِيم، فيَجْمَعُونَ مُخْتَارِيهِ مِنَ الرِيَاحِ الأَرْبَع، مِنْ أَقَاصي السَمَاوَاتِ إِلى أَقَاصِيهَا.

هَذِهِ هِيَ الصُّورَةُ الَّتي يُصَوِّرُها نَصُّنا لِحَدَثِ مَجيءِ المسيح حَتَّى الآن: ضِيقٌ وَمَحْنَةٌ شَديدَةٌ، يَتْبَعُهُما عَوْدَةُ الكَونِ إِلى العَدَمِ وَالظُّلْمَة. وَلَكِنْ هَذا كُلُّهُ، لَيسَ سِوَى مَرْحَلَةٍ تَحْضيرِيَّةٍ لِلِّقاءِ الـمُنْتَظَرِ بِشَخْصِ المسيح. وَهوَ إِذا أَتى، تَسْبِقُهُ عَلامَةُ ابْنِ الإِنْسانِ، الَّتي رَأى فيها آباءُ الكَنيسَةِ رَسْمَ أَو رايَةَ الصَّليبِ رَمْزُ انْتِصارِ اللهِ عَلى سُلْطانِ هَذا العَالَم، وَعَلى قِوَى الـمَوتِ وَالشَّرِّ وَالخَطيئَة. لَدَى رُؤيَةِ عَلامَةِ ابْنِ الإِنْسان، تَنْتَحِبُ البَشَرِيَّةُ جَمْعاء لِعَظَمَةِ الحَدَثِ وَرَهْبَتِهِ. وَحينَئِذٍ، يَأْتي الرَّبُّ يَسوعُ عَلى عَرْشٍ مِنْ سُحُبِ السَّماء بِمَنْظَرٍ رَهيبٍ، يُعَبِّرُ عَن قُدْرَتِهِ العَظيمَةِ وَسُلْطَانِهِ. وَمَلائِكَتِهِ يَدْعُونَ بِصَوتِ بوقٍ واحِدٍ جَميعَ الـمُخْتارينَ، الَّذينَ يَعْرِفونَ صَوتَ سَيِّدِهِم الوَحيد وَيُمَيِّزونَهُ لِيَجْتَمِعوا حَوْلَهُ.
 يَنْتَهي النَّصُّ بِصورَةٍ رَمْزِيَّةٍ قَوِيَّةٍ. فَكَأَنَّهُ بِمَجيءِ ابْنِ الإِنسان، أَلسَّماءُ انْحَدَرَت وَسَادَتْ بِكُلِّ قُدْرَتِها عَلى الأَرْض، فَالْتَحَمَتَا مَعًا. فَالـمَلائِكَةُ انْحَدَرُوا لِيَجْمَعُوا الـمُخْتارِينَ مِنَ "الرِّياحِ الأَرْبَعْ"، فَزَالَتِ أَقْطَارُ الأَرْضِ الأَرْبَع، وَجَمَعوهُم مِن "أَقاصِي السَّماواتِ" إِلى أَقاصِيها، فَزَالَت أَقاصيَ الأَرض. فَسُلْطانُ المسِيحِ سَيَسودُ عَلى الكَونِ أَجْمَع، وَمَعَهُ سَيَسُودُ الحَقُّ. وَالنُّورُ الـمُتَأَتِّي مِنَ الشَّمْسِ سَيَغيبُ كُلِّيًّا وَيَحِلُّ مَكَانَهُ نُورُ المسيحِ الَّذي لا يَنْطَفِئُ أَبَدًا. فَبِمَجيئِهِ، سَيُجَدِّدُ كُلَّ شَيء.

خُلاصةٌ رُوحِيَّة
إِنَّ الرَّبَّ يَسُوعَ آتٍ حَقًّا، هُوَ وَعَدَنَا وَهُوَ أَمينٌ. فَكَيْفَ نَتَحَضَّرُ لِلِقَائِنا بِهِ؟ كَيْفَ نُواجِهُ الضِّيقَاتِ وَالـمِحَنِ الرُّوحِيَّة؟ بِالصَّبْرِ وَالجِهادِ الـمُسْتَمِرِّ أَمْ بِالاضْطِّرابِ وَالسَّعي لِمَعْرِفَةِ الـمُسْتَقْبَل؟ هَذا النَّصّ يَضَعُ أَمَامَنا طَرِيقَين: الضَّلال وَالأَمانَة، ألظُّلْمَةُ وَالنُّور، فَمَاذا نَخْتار؟
بِالإِضافَةِ إِلى أَنَّ هَذا النَّصّ يُقَدِّمُ لَنا قَواعِدَ لِلتَّمْييزِ بَينَ الضَّلالِ وَالحَقيقَة، لِنَقْضِيَ فَتْرَةَ الانْتِظارِ هَذِهِ بِجِهادٍ وَسَلامٍ بَعيدًا عَنِ الضَّلال. فَالضَّلالُ أَوِ الظُّلْمَةُ تَنْشُرُ الاضْطِّرابَ وَالضَّياعَ وَعَدَمَ الاسْتِقْرار، فَهِيَ مُعَقَّدَةٌ غَيرُ واضِحَة. أَمَّا الحَقيقَةُ فَهِيَ نُورٌ يَنْشُرُ الطَّمَأنينَةَ وَالوُضوحَ وَالثَّبات، فَهوَ بَسيطٌ خَفيفٌ وَلَطيفٌ غَيْرُ مُتْعِبٍ. فَهَذا النَّصُّ يَدْعُونا إِلى عَيشِ فَتْرَةِ انْتِظارِ اللِّقاءِ بِالمسيحِ، كَفَتْرَةِ تَمْرينٍ روحِيٍّ، فيهِ نُـمَيِّزُ الأَرواحَ وَنَخْتارُ بَيْنَ الحَقِّ وَالضَّلال. وَبِمُمارَسَةِ تَمييزِ الأَرواحِ، تَتَعَوَّدُ النَّفْسُ عَلى تَمْييزِ صَوتِ المسيحِ، فَتتَحَضَّرَ لِاتِّبَاعِهِ حينَ يَدْعُوها لِلِّقاءِ بِهِ، في عَالَمٍ جَديد.


تحميل المنشور