كَسر الكلمة -52- الأحد الثاني بعد عيد الصليب

كَسر الكلمة -52- الأحد الثاني بعد عيد الصليب

الأحد الثّاني بعدَ عيدِ الصَّليب 
تدمير الهيكل ونهاية الأزمنة
(متّى 24/ 1-14)
1 خَرَجَ يَسُوعُ مِنَ الهَيْكَلِ ومَضَى. فَدَنَا مِنهُ تَلامِيذُهُ يَلْفِتُونَ نَظَرَهُ إِلى أَبْنِيَةِ الهَيْكَل.
2 فَأَجَابَ وقَالَ لَهُم: «أَلا تَنْظُرُونَ هذَا كُلَّهُ؟ أَلحَقَّ أَقُولُ لَكُم: لَنْ يُتْرَكَ هُنَا حَجَرٌ عَلى حَجَرٍ إِلاَّ ويُنْقَض».
3 وفيمَا هُوَ جَالِسٌ عَلى جَبَلِ الزَيتُون، دَنَا مِنْهُ التَلامِيذُ على انْفِرَادٍ قَائِلين: «قُلْ لَنَا مَتَى يَكُونُ هذَا، ومَا هِيَ عَلامَةُ مَجِيئِكَ ونِهَايَةِ العَالَم؟».
4 فَأَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ لَهُم: «إِحْذَرُوا أَنْ يُضِلَّكُم أَحَد!
5 فكَثِيرُونَ سَيَأْتُونَ بِاسْمِي قَائِلين: «أَنَا هُوَ المَسِيح! ويُضِلُّونَ الكَثِيرِين.
6 وسَوْفَ تَسْمَعُونَ بِحُرُوبٍ وبِأَخْبَارِ حُرُوب، أُنْظُرُوا، لا تَرْتَعِبُوا! فلا بُدَّ أَنْ يَحْدُثَ هذَا. ولكِنْ لَيْسَتِ النِهَايَةُ بَعْد!
7 سَتَقُومُ أُمَّةٌ عَلى أُمَّة، ومَمْلَكَةٌ عَلى مَمْلَكَة، وتَكُونُ مَجَاعَاتٌ وزَلازِلُ في أَمَاكِنَ شَتَّى،
8 وهذَا كُلُّه أَوَّلُ المَخَاض.
9 حِينَئِذٍ يُسْلِمُونَكُم إِلى الضِيق، ويَقْتُلُونَكُم، ويُبْغِضُكُم جَمِيعُ الأُمَمِ مِنْ أَجْلِ اسْمِي.
10 وحِينَئِذٍ يَرْتَدُّ الكَثِيْرُونَ عَنِ الإِيْمَان، ويُسْلِمُ بَعْضُهُم بَعْضًا، ويُبْغِضُ بَعْضُهُم بَعْضًا.
11 ويَقُومُ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ ويُضِلُّونَ الكَثِيرِين.
12 ولِكَثْرَةِ الإِثْمِ تَفْتُرُ مَحَبَّةُ الكَثِيْرين.
13 ومَنْ يَصْبِرْ إِلى النِهَايَةِ يَخْلُصْ.
14 ويُكْرَزُ بِإِنْجيلِ المَلَكُوتِ هذا في المَسْكُونَةِ كُلِّهَا شَهَادَةً لِجَمِيعِ الأُمَم، وحينَئِذٍ تَأْتِي النِهَايَة».

مُقدّمة
إِنَّ كَنيسَتَنا الـمَارونِيَّةَ تَدْعونَا، فِي الأَحَدِ الثَّاني بَعْدَ عيدِ الصَّلِيب، لِلْغَوصِ في سِرِّ مَجِيئِ الرَّبِّ يَسوعَ وَعلاماتِ حُلُولِهِ في العَالَم. فَتَخْتارُ نَصَّ اليَومِ، مِنْ خِطْبَةِ النِّهاياتِ لِلإِنجيلِيِّ مَتّى، والَّتي تَتَحَدَّثُ عَنْ دَمارِ أُورَشَليم وَنِهايَةِ العالَم. فَتَعْرِضُ عَلَيْنا نَوعًا جَديدًا مِنَ النُّصوصِ الأَدَبِيَّةِ، الَّتي تَجْمَعُ بينَ النُّبوءَةِ وَالرُّؤيَا. فَعَلَيْنا إِذًا، الانتِبَاه لِما نَقْرَأ وكَيْفَ نَفْهَمْ، هَذا النَّوع مِنَ النُّصوص. إِذْ إنَّ هذا النَّصّ، لا يُنْبِئُ بِأَحْداثٍ تاريخِيَّةٍ دَقيقَةٍ، كَما لا يُصَوِّرُ ولا يَصِفُ رُؤًى دَقيقَةً عَنِ الـمُسْتَقْبَلات وَلا يُعْطِي عَلاماتٍ مُبَاشَرَةٍ عَنِ النِّهايَات أَو الإِسْكَاتولُوجْيا. كَما نَرى، أَنَّهُ مِنَ الجَدِيرِ لَفْتِ النَّظَّر، إِلى أَنَّ هَذا النَّوْعُ مِنَ الآدابِ الَّذي يَسْتَعْمِلُ الصُّوَرَ وَالرُّموز، هُوَ عُرْضَةٌ لِلتَّحْريفِ وَالتَّشْويه. فَالأَدَبُ النَّبَوِيُّ - الرُّؤيَوِيُّ يُفَسَّرُ وَيُفْهَمُ، فَقَط، مِنْ خِلالِ تَحْلِيلِ رُموزِهِ.

تفسير الآيات
1 خَرَجَ يَسُوعُ مِنَ الهَيْكَلِ ومَضَى. فَدَنَا مِنهُ تَلامِيذُهُ يَلْفِتُونَ نَظَرَهُ إِلى أَبْنِيَةِ الهَيْكَل.
2 فَأَجَابَ وقَالَ لَهُم: «أَلا تَنْظُرُونَ هذَا كُلَّهُ؟ أَلحَقَّ أَقُولُ لَكُم: لَنْ يُتْرَكَ هُنَا حَجَرٌ عَلى حَجَرٍ إِلاَّ ويُنْقَض».
يَبْدَأُ الإِنْجيليُّ مَتّى نَصَّهُ بِآيَتَيْنِ تَحْضِيريَّتَيْن لِلْخِطْبَةِ اللاَّحِقَة. فَيَصِفُ التَّلاميذَ مُهْتَمِّينَ بِأَبْنِيَةِ الهَيْكَلْ، أَمَّا الرَّبُّ يَسوعُ فَغَيْرُ آبِهٍ بِها البَتَّة، بَلْ يَخْرُجُ مِنَ الهَيْكَلِ وَيَمْضي بَعيدًا، كَأَنَّهُ مُتَّجِهًا إِلى مكَانٍ آخَرَ وَلَنْ يَعودَ أَبَدًا إِلى هَذا الـمَكان. بِوَصْفِهِ هَذا، أَلإِنْجيلِيُّ يُلْفِتُ نَظَرَنا إِلى أَمْرَيْن: ألأَوَّل، هو أَنَّ لِهذا النَّصّ وِجْهَتَيْنِ لِلْنَّظَر، واحِدَةٌ أَرْضِيَّةٌ (التَّلاميذ)، وَأُخْرى خاصَّةٌ بِالرَّبِّ يَسوع. ألثّاني، هُوَ اسْتِعمالُ الفِعْلَينِ "خَرجَ، مَضى" مَعًا، واللَّذانِ يَدُلاَّنِ عَلى أَنَّ الرَّبَّ يَسوعَ هَجَر الهَيْكَل إِلى الأَبَد، تَارِكًا وَراءَهُ كُلّ الذِّكْرَيات وَالأَحْداث الَّتي عَاشَها فيهِ. فَطَريقَةُ خُروجِهِ تَدُلُّ عَلى شُعورٍ بِالأَسَف والرَّفْض لِهَذا الـمَكان. فَسَيِّدُ الهَيكَل هَجَرَ هَيكَلَهُ الى الأبد.
وَبَيْنَما التَّلاميذُ مُعْجَبونَ بِأَبْنِيَةِ الهَيْكَلِ وَعَظَمَتِها وَيَسْعَونَ لِجَذْبِ اهْتِمامِ يَسوعَ أَيْضًا، يُجاوِبُهُم هُوَ بِالحَقيقَة الـمُسْتَقْبَلِيَّة وبِعِباراتٍ نَبَوِيَّةٍ، يَقول: "أَلحَقَّ أَقولُ لَكُم: لَنْ يُتْرَكَ هُنَا حَجَرٌ عَلى حَجَرٍ إِلاَّ ويُنْقَض". بِقَوْلِهِ هَذا، يَسوعُ يُنْبِئُ تَلاميذَهُ بِخَرابِ الهَيْكَلِ التّام. هَذِهِ النُّبوءَةُ تَحَقَّقَت تاريخِيًّا سَنَة 70م. على يَدِ الرّومان، وهَذا هُوَ واقِعُ الهَيْكَلِ حَتّى اليَومَ في أُورَشَليم، إِذ هُوَ مُدَمَّرٌ بِالكامِل، وحِجارَتُهُ مُبَعْثَرَة.

3 وفيمَا هُوَ جَالِسٌ عَلى جَبَلِ الزَيتُون، دَنَا مِنْهُ التَلامِيذُ على انْفِرَادٍ قَائِلين: «قُلْ لَنَا مَتَى يَكُونُ هذَا، ومَا هِيَ عَلامَةُ مَجِيئِكَ ونِهَايَةِ العَالَم؟».
إِنَّ تَغيِيرَ مَكان لِقاءِ الرَّبِّ يَسوع مَعَ تلاميذِهِ، أَي مِنَ الهَيكَلِ إِلى جَبَلِ الزَّيتون، يَدُلُّ عَلى بِدايَةِ مَوضوعٍ جَديد. هَذا الـمَوضوع، أَرادَ التّلاميذُ مُعالَجَتَهُ عَلى انْفِرادٍ مَعَ مُعَلِّمِهِم. أَرادُوهُ حَديثًا سِرِّيًّا، لِعِلْمِهِم أَنَّهُ مَوضوعٌ يَخْرُجُ عَن مَعْرِفَةِ البَشَر، إِذِ اللهُ وَحْدَهُ يَعْلَمُ الـمُسْتَقبَل. فَإِذا كَانَت مَعْرِفَةُ الغَدِ، القَريبِ وَالبَعيد، مِنْ شَأنِ اللهِ وَحْدَهُ، فَالسُّؤالُ الَّذي يُطْرَح عَلى هَذا النَّصّ هُوَ: "هَلْ سَيَكْشِفُ يَسوعُ لِتلاميذِهِ عَن زَمانِ وَعَلامَةِ مَجيئِهِ وَعَن نِهايَةِ العالَم؟" ألجَوابُ هُوَ كَلاَّ. لأَنَّ "ذَلِكَ اليَومُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ فَلا يَعْرِفُهُما أَحَد، ولا مَلائِكَةُ السَّماوات، إِلاّ الآبُ وَحْدَهُ" متى 24/63. أَمّا بِالنِّسْبَةِ لِعَلامَةِ مَجيءِ يَسوع، فَسَتَظْهَرُ عَلامَةٌ في السَّماء (متى 24/30). نَسْتَنْتِجُ إِذًا، أَنَّ الغَد وَعَلاماتِهِ هُم في يَدِ اللهِ الآب وَلَيْسَ لَنا أَن نَعْرِفَهُم، فَدَورُنا يَقْضِي فَقَط، أَنْ نُثابِرَ وَنَكونَ حَاضِرينَ لَهُم.
بِالإِضافَةِ إِلى تَسَاؤُلٍ آخَرَ يَضَعُهُ النَّصُّ أَمامَنا: "هَلْ مَجيءُ الرَّبِّ يَسوع سَيُعْلِنُ نِهايَةَ العالَم؟ أَيْ أَنَّ الله سَيَضَعُ حَدًّا وَنِهايَةً لِلوجودِ البَشَرِيِّ عَلى هَذا الكَوكَب، ولِكُلِّ الخَليقَة؟" ماذا تَعْني كَلِمة "نِهايَة" في نَصِّنا هَذا؟
حَتّى الآن، هَذِهِ الآيَةُ تُصَوِّرُ اهْتِمامَ التَّلاميذِ بِـمَعْرِفَةِ الـمُسْتَقْبَل، مَتى؟ ماذا وَكَيف؟ وَهَذِهِ الرَّغْبَةُ مَوجودَةٌ أَيضًا، عِنْدَنا نحنُ جَميعًا. نُريدُ وَنَرْغَبُ مَعرِفَةَ ما يَنْتَظِرُنا غَدًا، وَماذا سَيَحْصَل بِهذا الكوكَب الَّذي نَسْكُنُ فيهِ مُنذُ آلافِ السِّنين.

4 فَأَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ لَهُم: «إِحْذَرُوا أَنْ يُضِلَّكُم أَحَد!
5 فكَثِيرُونَ سَيَأْتُونَ بِاسْمِي قَائِلين: «أَنَا هُوَ المَسِيح! ويُضِلُّونَ الكَثِيرِين.

مِنَ الـمُفْتَرَضِ أَنَّ كَلِماتَ الرَّبِّ يَسوع سَتُؤَلِّفُ جَوابًا عَلى أَسْئِلَةِ تَلاميذِهِ، عَن زَمَنِ مَجيئِهِ الثّاني ونِهايَةِ العالَم: متى؟ ما هِيَ العلامة؟ وَلَكِنَّ الرَّبَ يسوع يَسْتَهِلُّ جَوابَهُ بِدَعْوَةِ تَلاميذِهِ لِأَخْذِ الحَذَر مِن أَولادِ الضَّلال، وَهُم كَثيرون، فَيقول: "إِحْذَرُوا أَنْ يُضِلَّكُم أَحَد!" فَيَسوعُ يَعْلَمُ أَنَّ حَدَثَ "مَجيءَ المسيحِ الـمُنْتَظَر" هُوَ مَوضوعٌ خَطيرٌ، إِذ حَوَّرَهُ العُلَماءُ الغَيرُ مُؤمِنونَ بِشَخْصِهِ هُوَ ابنُ الله، وَسَيُحَوَّرُ مِن قِبَلِ أُناسٍ إِسْتِغلالِيِّينَ وَأَشْرار في الـمُسْتَقبَل، بِهَدَفِ خِداعِ النّاس وَنَشْرِ الخَوفِ والرُّعْبِ في قُلوبِهِم وَنُفوسِهِم، مِنَ اللهِ نَفْسِهِ وَمِن مَسيحِهِ. فَالضَّلالُ الَّذي يُحَذِّرُ مِنْهُ يَسوعُ، هُوَ تَشْويهُ صورَةِ الآبِ السَّماوِيّ وَصورةِ مَسيحِهِ في عُقولِ البَشَر، مِمَّا يُؤَدّي حَتْمًا، إِلى الابْتِعادِ عَنِ الله وعَنِ الإيمانِ الحَقّ. وَكَثيرونَ هُمُ الضَّالّينَ وَالـمُضَلَّلين، فتَعْبيرُ "كَثيرين" لا يَعْني الجميع، بَلْ قِسْمًا كبيرًا جِدًّا مِنَ البَشَر.

6 وسَوْفَ تَسْمَعُونَ بِحُرُوبٍ وبِأَخْبَارِ حُرُوب، أُنْظُرُوا، لا تَرْتَعِبُوا! فلا بُدَّ أَنْ يَحْدُثَ هذَا. ولكِنْ لَيْسَتِ النِهَايَةُ بَعْد!
7 سَتَقُومُ أُمَّةٌ عَلى أُمَّة، ومَمْلَكَةٌ عَلى مَمْلَكَة، وتَكُونُ مَجَاعَاتٌ وزَلازِلُ في أَمَاكِنَ شَتَّى،
8 وهذَا كُلُّه أَوَّلُ المَخَاض.

هَذِهِ الآياتُ تُصَوِّرُ مَشاهِدَ عَن كَوارِثَ كَونِيَّةٍ، لَطالَما حَدَثَت في الماضي، وَما زالَتْ تَحْدُث وَسَتَسْتَمِرُّ أَيْضًا في الـمُسْتَقْبَل. يَقولُ يسوع: "فَلا بُدَّ مِن حُدوثِها"، إِذ بَعْضُها مِن صُنْعِ البَشَر، كالحُروبِ وَاخْتِراعِ كافَّةِ أَنواعِ المشاكِلِ واسْتِغلالِ البَشَر الضُّعَفاء وإِذلالِهِم وَاضْطِّهادِهِم. وَبَعْضُها الآخَر، هُوَ مِن طَبيعَةِ كَوكَبِ الأَرض وَدَورَتَهُ الطَّبيعِيَّة. ألأَمرُ الـمُهِمُّ الَّذي يُريدُهُ وَيَطْلُبُهُ مِنَّا الرَّبُّ يَسوع، أَمامَ هَذِهِ الأَحداث هُوَ: أَلاَّ نَخافَ وَأَلا نَرْتَعِب. لِماذا؟ لِأَنَّها عَلاماتُ "بِدايَة الـمَخَاض" أَي بِدايَةُ إِعلانِ وِلادَةِ حَياةٍ جَديدَة.
نَفْهَمُ إِذًا، أَنَّ ما يَحدُثُ في التّاريخ، مِن حُروبٍ وَمَصائِب وَانْقِساماتٍ، والَّتي تُؤَدّي إلى الدَّمار والموت وانْتِشارِ الرُّعْب والخَوف والظُّلْمَة، هُم أُمورٌ ضَرورِيَّةٌ ولا بُدَّ مِن أَن تَحْدُث. وَهِيَ لَيْسَت سِوى عَلاماتٍ لِبُزوغِ فَجْرِ حَياةٍ جَديدَةٍ عَلى أَنْقاضِ عالَمٍ قَدْ انْتَشَرَ فيهِ الضَّلالُ وكَثُرَ فيهِ الـمُضَلَّلونَ. فَنُلاحِظُ، أَنَّ الحياة هِيَ دائِمًا الـمُنْتَصِرَة وَكُلُّ ما يَحْصَلُ في التّاريخ، هُوَ لِخِدْمَةِ الحياة وَتَجْديدِهَا. فَالنِّهايَةُ إِذًا، هِيَ بِدايَةُ حَياةٍ جَديدَة.

9 حِينَئِذٍ يُسْلِمُونَكُم إِلى الضِيق، ويَقْتُلُونَكُم، ويُبْغِضُكُم جَمِيعُ الأُمَمِ مِنْ أَجْلِ اسْمِي.
هَذهِ الآيَةُ هيَ آيَةُ الفَصْل في النَّصّ، إِذ مَعَها يَتَنَبّأُ الرَّبّ بِالاضطِّهاد الَّذي يَنتَظِرُ تلاميذَهُ. وسَبَبُ هذا، هوَ اسمُهُ "يسوع". نُلاحِظُ أَنَّ الاضطِّهاد الَّذي يَنتَظِرُ التّلاميذ، يَفوقُ آلامَ الـمَخَاضِ الَّتي تَحَدَّثَ عنها الإِنْجيلِيّ في (آ 6-8). إِذ بالإِضافةِ الى الضّيقِ الخارِجيّ، عليهِم أَن يَكُونوا مُستَعِدِّينَ أيضًا، لِتَحَمُّلِ رَفضِ الناسِ لَهُم وَبُغْضِهِم لَهُم، حتّى قَتْلِهِم لَهُم. فَإِذا كانَ هذا مَصيرُ مَنْ يَتْبَعُ يَسوع، فَمَنْ سَيَثبُتُ في إيمانِه؟ لِذا، هذه آيَةُ الفَصْل الَّتي سَتَقْسِمُ الجماعَةُ المؤمِنَة، بَيْنَ مُؤمِنينَ صادِقين وَأَمينينَ حَتّى الموت لاسْمِ يَسوعَ وَآخَرينَ نَاكِرينَ وَضَالِّين وَغَيْرَ حَقيقِيِّين.

10 وحِينَئِذٍ يَرْتَدُّ الكَثِيْرُونَ عَنِ الإِيْمَان، ويُسْلِمُ بَعْضُهُم بَعْضًا، ويُبْغِضُ بَعْضُهُم بَعْضًا.
11 ويَقُومُ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ ويُضِلُّونَ الكَثِيرِين.
12 ولِكَثْرَةِ الإِثْمِ تَفْتُرُ مَحَبَّةُ الكَثِيْرين.
13 ومَنْ يَصْبِرْ إِلى النِهَايَةِ يَخْلُصْ.

حُكْمًا، لِكَثْرَةِ الضّيقِ وبَشاعَةِ الاضطِّهاد الَّذي يَنْتَظِرُ المؤمِنِينَ باسْمِ يَسوع، سَيُمْتَحَنُ إيمانُ كُلِّ فَردٍ منَ الجَماعَةِ المؤمِنَة. و"كثيرونَ" سَيَسْتَسْلِمونَ لِلكُفْرِ وَلِلْخِيانَةِ خَوفًا أَو هَرَبًا مِنَ الضّيقِ والاضطِّهادِ الشَّديد. فَحَتْمًا، سَيَكْثُرُ الإِثْمُ لِأَنَّ الكَثيرينَ سَيَخْتارونَ طَريقَ الضَّلالِ السَّهْل، نَاكِرينَ الرَّبَّ يسوع وسائِرينَ وَراءَ أنبياءِ الكَذِب. وفي هَكَذا جَوٍّ مِنَ الفُتورِ والاسْتِسلامِ لِلضَّلال، سَتَنْقُصُ المحبَّةُ في قُلوبِ النّاس وَيُسَيْطِرُ عَلَيْهِمِ اليَأسُ وَيَغِيبُ الرَّجَاء. ولا خَلاصَ، إِلاَّ لِلَّذينَ يَعْتَصِمونَ بِالصَّبْرِ. أَلصَّبْرُ يَعْني، الثَّبَاتُ في الإِيمانِ وَفي طَريقِ الحَقِّ وَوَصايَا الرَّبِّ في الإِنْجيل رَغْمَ الاضْطِّهادِ وَالاضطِّراباتِ الخارِجِيَّة. ألصَّبْرُ يَعْني أَيْضًا، أَلاعْتِصامُ بِالصَّلاةِ وَالثَّباتُ في الهُدوءِ والسَّلامِ وَمُحارَبَةُ المخاوِفِ وَمَشاعِرَ الرُّعْبِ، لِئَلاَّ تُسَيْطِرَ عَلى القَلْبِ الـمُعْتَصِمِ بِالرَّبّ. والصَّبْرُ يَعْنِي الانْتِظار، إِنْتِظارُ الرَّبِّ بِرَجاءٍ، لأَنَّهُ أَمينٌ.

14 ويُكْرَزُ بِإِنْجيلِ المَلَكُوتِ هذا في المَسْكُونَةِ كُلِّهَا شَهَادَةً لِجَمِيعِ الأُمَم، وحينَئِذٍ تَأْتِي النِهَايَة».
هَذِهِ الآيَةُ هِيَ فُجائِيَّةٌ غَريبَةٌ، إِذ تَأتي مِنْ بَعْدِ إِعْلانٍ لِحَوادِثَ مُدَمِّرَةٍ وَمُظْلِمَةٍ، لِتُعْلِنَ الكِرازَةَ بِالإِنْجيل في المسْكونَةِ كُلِّها. وَالأُمَمُ الَّذينَ كَانوا قَبْلاً مُبْغِضينَ لِلمؤمِنينَ بِاسْمِ يَسوع (آ9)، سَيَتَحَوَّلونَ إِلى شُهودٍ لِإِنْجيلِ يَسوع. فَاشْتِراكُ الأُمَمِ في الإِيمان الحَقّ، هَوَ عَلامَةٌ لانْتِصارِ مَلَكوتِ اللهِ على الـمَسْكونَةِ كُلِّها. لأَنَّ، الضَّالّينَ أَنْفُسَهُم أَي الأُمم، اكْتَشَفُوا الحَقيقَةَ وَارْتَدُّوا، وَهَذِهِ أَصْدَقُ وَأَوضَحُ شَهادَةٍ أَمامَ المسْكونَةِ بِأَنَّ اسْمَ يَسوع هُوَ الاِسْمُ الَّذي بِهِ يَنَالُ الجَميعُ الخَلاص. فَشَهادَةُ الأُمَمِ لا غِشَّ فيها، لأَنَّهُم انْتَقَلوا مِنَ الظُّلْمَةِ إِلى النُّور. وَحينَ تَمامِ هَذِهِ الكِرازَةِ بِالإِنْجيلِ، حينَها فقَط، سَتَأتِي النِّهايَةُ التّي هِيَ بِدايَةٌ لِعَهْدٍ يَمْلِكُ فيهِ الـمَلَكوتُ الحَقّ وَالحَياةُ الحَقَّةُ لِلجَميع.

خُلاصَة روحِيَّة
نَرَى أَنَّ هَذا النَّصّ يُحاكِي واقِعَنا اليَومَ، في وَطَنِنَا وَفي العَالَمِ أَجْمَع، فَنَسْمَعُ بِحُروبٍ في مَكانٍ وَبِزَلازِلَ وفَيَضاناتٍ في أَماكِنَ أُخْرى، وبِاضطِّهاداتٍ لِلـمَسيحِيِّينَ في بُقاعِ الأَرضِ. فَالدَّمارُ وَالخَوفُ يَشْمَلانِ أَقْسامًا كَبيرَة مِنَ الأَرض. وَهَذهِ أُمورٌ طَبيعِيَّةٌ يَقولُ النَّصّ، لا بُدَّ مِنْ حُدوثِها لأَنَّها جِزْءٌ مِنْ دَورَةِ الحَياةِ وَتَجْديدِها. أَمَّا الـمُسَحاءُ الدَّجَّالون فَهُم كُثُر، يَعِدونَ النَّاسَ بِالكَذِب وَيَشْتَرونَ إِيمانَهُم بِالمالِ، وَفي النِّهايَةِ يَسْتَغِلُّونَهُم وَيَتَخَلَّونَ عَنْهُم. فَالسُّؤالُ الَّذي نَطْرَحُهُ عَلى أَنْفُسِنا هُوَ: هَلْ نَسْتَسْلِمُ لِلخَوفِ وَالخُضوع، أَمْ نَثْبُتُ في إِيمانِنا واثِقينَ بِأَنَّ اللهَ سَيَتَدَخَّلُ في الوَقْتِ الـمُناسِب؟ هَلْ نَرْتَدُّ عَن إيمانِنا، أَم نَعْتَصِمُ بِالصَّبْرِ لِنَنالَ الخَلاص؟ كَيْفَ نَعيشُ هَذِهِ الفَتْرَةِ الصَّعْبَةِ مِنْ تاريخِنا؟ هَلْ نَكونُ عَمَلَةَ سَلامٍ وَخَيْرٍ وَرَحْمَةٍ؟ أَم نَضطَّرِبُ وَنَغْرَقُ في هُمومِنا وَنَسْتَسْلِمُ لِليَأس؟ يَقولُ الرَّبُّ يَسوع: "ومَنْ يَصْبِرْ إِلى النِهَايَةِ يَخْلُصْ". فَلْنَكُنْ إِذًا أَبْطالَ هَذِهِ المرحَلَةِ الصَّعْبَة وَلْنَتَحَدَّ الخَوفَ وَالضِّيقاتِ بِالصَّبْرِ وَمُحارَبَةِ الخوف، لأَنَّ الرَّبَّ آتٍ.


تحميل المنشور