كَسر الكلمة -30- الأحد الخامس من زمن القيامة

كَسر الكلمة -30- الأحد الخامس من زمن القيامة

الأحد الخامس من زمن القيامة
يسوع يسلّم الرعايّة لبطرس
 (يو 21/15-19)
15. وبَعْدَ الغَدَاء، قَالَ يَسُوعُ لِسِمْعَانَ بُطْرُس: "يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي أَكْثَرَ مِمَّا يُحِبُّنِي هـؤُلاء؟". قَالَ لَهُ: "نَعَم، يَا رَبّ، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ". قَالَ لَهُ يَسُوع: "إِرْعَ حُمْلانِي".
16. قَالَ لَهُ مَرَّةً ثَانِيَةً: "يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟". قَالَ لَهُ: "نَعَمْ يَا رَبّ، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ". قَالَ لَهُ يَسُوع: "إِرْعَ نِعَاجِي!".
17. قَالَ لَهُ مَرَّةً ثَالِثَة: "يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟". فَحَزِنَ بُطْرُس، لأَنَّ يَسُوعَ قَالَ لَهُ ثَلاثَ مَرَّات: أَتُحِبُّنِي؟ فَقَالَ لَهُ: "يَا رَبّ، أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيء، وَأَنْتَ تَعْرِفُ أَنِّي أُحِبُّكَ". قَالَ لَهُ يَسُوع: "إِرْعَ خِرَافِي!
18. أَلـحَقَّ الـحَقَّ أَقُولُ لَكَ: حِينَ كُنْتَ شَابًّا، كُنْتَ تَشُدُّ حِزَامَكَ بِيَدَيْكَ وتَسِيرُ إِلى حَيْثُ تُرِيد. ولـكِنْ حِينَ تَشِيخ، سَتَبْسُطُ يَدَيْكَ وآخَرُ يَشُدُّ لَكَ حِزامَكَ، ويَذْهَبُ بِكَ إِلى حَيْثُ لا تُرِيد".
19. قَالَ يَسُوعُ ذـلِكَ مُشيرًا إِلى الـمِيتَةِ الَّتِي سَيُمَجِّدُ بِهَا بُطْرُسُ الله. ثُمَّ قَالَ لَهُ: "إِتْبَعْنِي!".

مقدّمة
يتابعُ نصُّ الإنجيلِ هذا الأحدَ روايةَ ظهورِ يسوعَ لسبعةِ تلاميذٍ على شاطئِ بحيرةِ طبريّةِ، فبعْدَ الصَّيدِ العجائبيِّ والغداءِ، يختفي باقي التَّلاميذِ من النَّصِّ، لينقلَ لنا الإنجيليُّ حوارًا بين يسوعَ وبطرسَ. وقد مهَّدَ لهذا الحوارِ من خلالِ إظهارِ ريادةِ بطرسَ في القِسْمِ الأوَّلِ من الرِّوايةِ، فهو مَنْ يخرُجُ للصَّيدِ والتَّلاميذِ يتبعونَه، وهو الَّذي يلقي بنفسِه من المركبِ ليصلَ إلى يسوعَ قبلَهم، وهو من يَصْعَدُ إلى السَّفينةِ ليجْلِبَ سمكًا. وفي نصِّ اليومِ يعْتَرِفُ المسيحُ بهذا الدَّورِ الرِّياديِّ لبطرسَ ويلقي عليه مهمةَ رعايةِ الكنيسةِ كخليفةٍ له.

شرح الآيات
15. وبَعْدَ الغَدَاء، قَالَ يَسُوعُ لِسِمْعَانَ بُطْرُس: "يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي أَكْثَرَ مِمَّا يُحِبُّنِي هـؤُلاء؟". قَالَ لَهُ: "نَعَم، يَا رَبّ، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ". قَالَ لَهُ يَسُوع: "إِرْعَ حُمْلانِي".
16. قَالَ لَهُ مَرَّةً ثَانِيَةً: "يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟". قَالَ لَهُ: "نَعَمْ يَا رَبّ، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ". قَالَ لَهُ يَسُوع: "إِرْعَ نِعَاجِي!".
17. قَالَ لَهُ مَرَّةً ثَالِثَة: "يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟". فَحَزِنَ بُطْرُس، لأَنَّ يَسُوعَ قَالَ لَهُ ثَلاثَ مَرَّات: أَتُحِبُّنِي؟ فَقَالَ لَهُ: "يَا رَبّ، أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيء، وَأَنْتَ تَعْرِفُ أَنِّي أُحِبُّكَ". قَالَ لَهُ يَسُوع: "إِرْعَ خِرَافِي!

في خلفيةِ هذا الحوارِ، تلوحُ روايةُ نكرانِ بطرسَ للمسيحِ في (يوحنا 18/15-27). فكما أنْكرَ بطرسُ المسيحَ فإنّه مدعوٌّ في هذا النَّصِّ ليعْتَرِفَ بمحبَّتِه له ثلاثَ مرّاتٍ.
يبدأُ النَّدمُ في بطرسَ لحظاتٍ بعدَ نكرانِ المسيحِ (لوقا 22/62: فخرجَ بطرسُ إلى الخارجِ وبكى بكاءً مرًّا). ولكن إعادةَ العلاقِة مع الرَّبِّ يسوعَ يتطَلَّبُ أكثرَ من النَّدمِ وحَسْبُ.
يدعوه المسيحُ ب"سمعان بن يونا" كما يوم التقاه في (يوحنا 1/42) وطَلَبَ منه أنْ يتْبَعَه. وفي هذا دعوةُ بطرسَ للتَّواضعِ والعودةِ إلى أصولِهِ الخاطئةِ. لا يدعوه المسيحُ صخرًا او بطرسَ.
لا يسألُه عن إيمانِه الّذي لم يبهَتْ كما صلّى يسوعُ (لوقا 22/31-32 قالَ الرَّبّ: " سِمعانَ سِمعانَ، هُوذا الشَّيطانُ قد طَلَبكُم لِيُغَربِلَكُم كَما تُغَربَلُ الحِنطَة. ولكِنَّي دَعَوتُ لَكَ أَلاَّ تَفقِدَ إِيمانَكَ. وأَنتَ ثَبَّتْ إِخوانَكَ متى رَجَعْتَ")، بل يسألُه عن محبَّتِه له، الَّتي تضرَّرَتْ بفعلِ النِّكرانِ. إنَّ سؤالَ المسيحِ لثلاثِ مرّاتٍ ليسَ لإهانتِه بل للتَّذكيرِ، كما أنَّ إضافةً "أكثرَ ممّا يحبُّني هؤلاء" تذكَّرَ بطرسُ بقولِهِ في (يوحنا 13/37: قالَ له بُطرُسُ: لِماذا لا أَستَطيعُ أَن أَتَبَعَكَ الآن؟ لأَبذِلَنَّ نَفْسي في سَبيلِكَ).
إنَّ تواضعَ بطرسَ بعدَ تذكيرِهِ بهاتين الحادِثتين يَظْهَرُ من خلاِل جوابِهِ. ففي حينَ أنَّ التَّرجمةَ العربيةَ تترجِمُ سؤالَ يسوعَ وجوابَ بطرسَ بالفعلِ ذاتِهِ "أُحبُّ"، فإنَّ جوابَ بطرسَ في اليونانيَّةِ يختلفُ: يستعمِلُ المسيحُ كلمةَ(agapas) في سؤالِهِ المرَّتين الأُوْلَتين والّتي تعبِّرُ عنِ الحُبِّ العميقِ والدِّينيِّ للرُّوح، يجيبُ بطرسُ بكلمةِ(philo) والَّتي تَعْني تعاطفَ القلبِ والصَّداقةِ. هو لم يعُدْ يجرؤْ على المفاخَرةِ ويتواضعُ في أجوبَتِه. كما أنَّه لا يجرؤُ على الإجابةِ ب: "أحبُّكَ أكثرَ من هؤلاء". في المرَّةِ الثَّالثةِ يستَعْمِلُ المسيحُ كلمةَ: (philo) ويَحْزَنُ بطرسُ.
لقد تمَّ نزْعُ كلِّ مفخرةٍ وكلَّ وجاهةٍ مِنْهُ (kenosis)، وعَرَفَ قيمةَ التَّواضُعِ المسيحيِّ، ولذلك يعطيهِ الرَّبُّ يسوعُ مقاليدَ الرِّعايةِ. 

18. أَلـحَقَّ الـحَقَّ أَقُولُ لَكَ: حِينَ كُنْتَ شَابًّا، كُنْتَ تَشُدُّ حِزَامَكَ بِيَدَيْكَ وتَسِيرُ إِلى حَيْثُ تُرِيد. ولـكِنْ حِينَ تَشِيخ، سَتَبْسُطُ يَدَيْكَ وآخَرُ يَشُدُّ لَكَ حِزامَكَ، ويَذْهَبُ بِكَ إِلى حَيْثُ لا تُرِيد".
في القسْمِ الثَّاني من النَّصِّ، يؤكِّدُ المسيحُ لبطرسَ شروطَ الرِّعايةِ الّتي ألقاها عليه في القِسْمِ الأوَّلِ. فبَعْدَ أنْ أُفرَغَ بطرسَ مِنْ كلِّ كبرياءٍ، وعَرَفَ التَّواضعَ المسيحيَّ، يعطيه المسيحُ لمحةً عن ما ينتظرُ راعي الخرافِ. إنَّ إعلانَ الحُبِّ الثُّلاثيَّ الَّذي سبَقَ سيدعو بطرسَ للشَّهادةِ له. لقد سَبَقَ وأوحى الرَّبَّ لبطرسَ عمَّا ينتظِرُه في العشاءِ السِّرِّيِّ في (يوحنا 13/36 36) "فقالَ لَه سِمعانُ بُطرُسُ: يا ربُّ، إِلى أَينَ تَذهَبُ؟ أَجابَ يسوعُ: إِلى حَيْثُ أَنا ذاهِبٌ لا تَستَطيعُ الآنَ أنْ تَتبَعَني، ولكِنْ ستَتبَعُني بَعدَ حينٍ." كما وقد كَشَفَ سابِقًا مصيرَ الرَّاعي الصَّالحِ في (يوحنا 10/15 "كَما أَنَّ أَبي يَعرِفُني وأَنا أَعرِفُ أَبي وأَبذِلُ نَفْسي في سَبيلِ الخِراف.") تظهرُ هذه النُّبوءةُ منْ خلالِ صورةٍ حيَّةٍ، صورةِ الحزامِ أو الزِّنّارِ. في اللِّباسِ الشَّرقيِّ يُرْبَطُ الحِزَامُ حولَ الرِّداءِ الطَّويلِ كعلامةٍ على الأُهبَةِ والاستعدادِ للعَمَلِ أو الرَّحيلِ. أمّا حينَ يشيْخُ الرَّجُلُ، فيربُطُ آخرُ له زنّارَه ويفقُدُ حُريّةَ التَّنقلِ حيْثُ يريدُ، بل يذهَبُ حيْثُ يُؤْخَذُ. إنَّ هذا الواقِعَ المستجدَّ هو بحدِّ ذاتِهِ تضحيةٌ كبيرةٌ من شَخْصٍ بطبَعُ بطرسَ الانفعاليَّ والمندفِعَ.

19. قَالَ يَسُوعُ ذـلِكَ مُشيرًا إِلى الـمِيتَةِ الَّتِي سَيُمَجِّدُ بِهَا بُطْرُسُ الله. ثُمَّ قَالَ لَهُ: "إِتْبَعْنِي!".
إنَّ بَسْطَ اليدين هو دلالةٌ على الاستِسِلامِ وبخاصّةٍ على ميتةِ الصَّليبِ التي سيقاسيها بطرسُ إسْوَةً بمعلِّمِهِ المسيحِ. فكما دُعِيَ لمشاركةِ الرِّعايةِ، يُدعى لمشاركَةِ كأسِ التَّضحيةِ والآلامِ وبَذْلِ الذَّاتِ. هذه المرّةُ الثاَّلثةُ الَّتي يستعْمِلُ فيها الإنجيليُّ يوحنّا هذا التَّعبيرَ: (يوحنا 1/ 33 "وقالَ ذلك مُشيراً إِلى المِيتَةِ الَّتي سَيَموتُها"). و(يوحنا 18/32 "بذلك تمَّ الكَلامُ الَّذي قالَه يسوع مُشيراً إِلى المِيتَةِ الَّتي سَيموتُها"). بذلك تبدو دعوةُ يسوعَ النِّهائيةِ لبطرسَ في ختامِ النَّصِّ إلى أنْ يتبعَه كدعوةٍ صريحةٍ وواضحةٍ للموتِ في سبيلِ البشارةِ ومحبَّةً بالقطيعِ الّذي أُوكِلَتْ إليه رعايتُه.

خلاصة روحية
في عالمِ اليومِ يسعى كلُّ إنسانٍ إلى مَلءِ حياتِه بالخِبْرَةِ والشَّهاداتِ والمعارفِ. هي شروطُ الحصولِ على وظيفةِ والتَّرقّي فيها. فهي تُعْتَمَدُ كمفاتيحَ لاستلامِ السُّلطةِ والمسؤوليةِ. وكثيرون يعتقدون أنَّ الحالَ كذلك في الكنيسةِ فيتسابقون على الشَّهاداتِ والألقابِ كمطيَّةِ للدَّرجاتِ العُليا. إنَّ المسيحيَّ الحقيقيَّ يمتازُ عن هؤلاءِ الأشخاصِ بأنَّه يعلَمُ أنَّ مفتاحَ الرِّعايةِ المسيحيَّةِ هو المحبّةُ، المحبّةُ حتَّى الموتِ.
في خِضَمِ الحياةِ الرُّوحيةِ، يبدو للبعضِ أنَّ الرَّبَّ يعارِضُ رغباتِهم بالتَّقدُّمِ في الصَّلاةِ والتَّأمُّلِ. فيلجأون إلى قراءةِ المزيدِ من الكُتُبِ الرُّوحيَّةِ والانضمامِ إلى المزيدِ من الحلقاتِ والدِّراساتِ والرِّياضاتِ الرُّوحيّةِ. يوضِّحُ لنا هذا الإنجيلُ أنَّ الطَّريقَ للمسيحِ ليْسَتْ ارتقاءً في الدَّرجاتِ كَهَرَمٍ أو سُلَّمٍ، بل هي عودةٌ دائمةٌ إلى الذَّاتِ وإفراغُها من كلِّ شموخٍ وتكبُّرٍ كما يدعو بولسُ الرَّسولُ في رسالتِه الثَّانيةِ إلى كنيسةِ قورنتس في (2 قورنتس 10/3-5: "أَجَل، إِنَّنا نَحْيا حَياةً بَشَرِيَّة، ولكِنَّنا لا نُجاهِدُ جِهادًا بَشَرِيًّا. فلَيسَ سِلاحُ جِهادِنا بَشَرِيًّا، ولكِنَّه قادِرٌ في عَينِ اللهِ على هَدْمِ الحُصونِ. ونَهدِمُ الاِستِدْلالاتِ وكُلَّ كِبرِياءٍ تَحْولُ دُونَ مَعرِفَةِ اللّه، ونَأسِرُ كُلَّ ذِهْنٍ لِنَهدِيَه إِلى طاعَةِ المسيحِ."


تحميل المنشور