وعد الله الصّادق، أمانة دائمة رغم الخيانة الظّاهرة

وعد الله الصّادق، أمانة دائمة رغم الخيانة الظّاهرة

وعد الله الصّادق، أمانة دائمة رغم الخيانة الظّاهرة
حديث الخوري جورج أبو متري
تفريغ دائرة الإعلام

عندما نتحدّث عن الأمانة والخيانة عند الإنسان والوعد الصّادق والأمين لله، لا بدّ لنا من أن نعود إلى شخصيّات الكتاب المقدّس، الّذين عاشوا اختبارات عديدة مع الله، وبالرّغم من سقطاتهم الكثيرة بقي الله أمينًا لهم.

1 – في العهد القديم
الخلق مع آدم وحوّاء
الإختبار الأوّل الّذي يظهر مع آدم وحوّاء يبقى دائمًا أنّ الله هو إله الخلق وحده. فالله هو الّذي خلق الكون وأعطى كلّ شيء للإنسان، الجنّة وما فيها ولكن دون شجرة معرفة الخير والشّرّ. ولكنّ آدم وحوّاء، بالرّغم من وعد الله لهم بأن تكون حياتهم مليئة بالجماليّة، خطئوا إلى الله، هذا الإله الّذي يعيش مع خليقته. ففي سفر التكوين، بعد المعصية، يقول الكتاب المقدّس: " فسمعا وقعَ خُطى الرّبّ الإله وهو يتمشّى في الجنّة عند نسيم النّهار " (تك 3: 8)، وفي هذه الآية يظهر قرب الله من الإنسان من خلال تنزّهه بينهم في وقع النّهار. فخطيئة الإنسان لم تقف أمام بحث الله الدّائم عنه في وسط ضياعه: " آدم أين أنت " (تك 3: 9). ولكن بعد الخطيئة، أراد الله أن يحاسبهم دون أن يتخلّى عن أمانته ووعده الصّادق حتّى " صنع لآدم وامرأته أقمصة من جلد وألبسهما " (تك 3: 21). فهو دائمًا في اهتمامٍ دائمٍ بالإنسان ليخلّصه دون أن يتركه بمفرده حتّى وسط الخطيئة.

إبراهيم
مع إبراهيم، يظهر الرّبّ كإلهٍ ما إن يدخُل في حياة الإنسان حتّى يحوّله من حالة إلى أخرى. فقال الله لإبراهيم: " انطلق من أرضك وعشيرتك وبيت أبيك إلى الأرض الّتي أنا أُريك "، (تك 12: 1)، وكأنّه يطلب منه أن يتنقّل من أجل التّغيير في مجرى حياته حتّى تحوّل أبرام إلى إبراهيم، من أب لابن جارية إلى أب لابنٍ من الله، من أب لإسحق إلى أبٍ لجميع المؤمنين. ففي مسيرة إبراهيم، يظهر الله دائمًا طويل البال حيث في كلّ سقطة، يجدّد وعده له بأن يكون نسله على عدد نجوم السّماء وألّا يتركه ويعطيه الغنى المادّي وكثرة البنين: إحدى دلالات البركة. بالإضافة إلى ذلك، في أيّام التصحّر، نزل إبراهيم إلى مصر ليتدبّر أمره دون الاتّكال على الله. وعندما طُرِدَ من عند فرعون بعد اكتشاف الأخير أنّ سارة امرأته وليست أخته، بدأ في المساومة حتّى وصل به الأمر بأن يفكّر أنّه يستطيع الإصغاء إلى غير صوت الله (الإصغاء إلى سارة والإنجاب من خادمته هاجر) ناسيًا وعد الله له. وفي قلب هذا البعد عن مشروع الله، بقي الله أمينًا لوعده حتّى تراءى له عند بلوطة ممرا ليذكّره من خلال الملائكة بما وعده به بأن يكون له ابنًا من صُلبه، حتّى تمّ هذا الوعد بولادة إسحق. وبعد كلّ هذه الاختبارات الّتي من خلالها أصبح الإنسان في تجانسٍ تام مع الله، يظهر الإيمان الثّابت والثّقة التّامّة والتّسليم الكلّيّ لله (استعداد إبراهيم لتقدمة إسحق ذبيحة لله). 

يوسف بن يعقوب
تُقسم حياة يوسف إلى قسمين:
- القسم الأوّل، عندما كان في بيت أبيه. فبدل أن تكون حياته جميلة، بانت كأنّها متعبة. فيعقوب كان يفضّله عن جميع إخوته، وهذا ما جعل اخوته يغارون منه وينزعجون من جميع هذه التّصرّفات حتّى وصل بهم الأمر إلى التخلّي عن يوسف وبيعه كالعبد إلى القافلة الاسماعيليّة.
- القسم الثّاني، " حياة حصاد الأمانة "، أي عندما حصد يوسف نتيجة أمانته في مصر. فقد كان يوسف يعمل عند الوزير فوطيفار ويعيش حياةً كريمة. وفي قلب عمله، كان يعيش الأمانة إلى أقصى حدّ، حتّى بالرّغم من محاولة امرأة فوطيفار إغراءه، بقي يوسف أمينًا لسيّده. فحصد نتيجة أمانته بأن يكون خائنًا لسيّده ويُسجَن بعدما اتّهمته المرأة بأنّه كان يحاول إغراءها. لذلك، نرى أنّ الإنسان الأمين يكون أمينًا على كلّ شيء، مع اللّه وجميع البشر. ومن يكون أمينًا على القليل يعطيه الله الكثير، وهذا ما حدث معه بعدما فسّر حلم فرعون وأنقذ البلاد من الجفاف حتّى في النّهاية آتمنه فرعون على جميع محاصيل مصر ليصبح بعد ذلك سيّد مصر. من هنا، نستطيع أن نتأكّد مع التّعبير اللّاهوتيّ، أنّ الله يكتب خطوطًا مستقيمة من خلال خطوطنا الملتوية انطلاقًا ممّا حدث مع يوسف وإخوته، حتّى أصبح يوسف في النّهاية سببًا أساسيًّا لحياة إخوته الّذين تنعّموا في مصر من خيرات أخيهم الّذي باعوه في الماضي. وانطلاقًا ممّا تقدّم مع يوسف، نرى أنّ الله يبقى أمينًا لوعده مهما تأخّر في الزّمن، فتكون نتائج الأمانة ليس فقط على الصّعيد الشّخصي للأمين بل على جميع من هم حوله.

موسى
بعد موت يوسف والفرعون، بدأ الشّعب المصري ينقلب على الشّعب اليهودي، حتّى وصل هذا الأخير إلى مرحلة الاستعباد. وفي وسط هذه المحنة، يأتي دور موسى في إنقاذ الشّعب من العبوديّة وعيش الاختبار مع الله من خلال ثلاثة لقاءات:
أ - اللّقاء الأوّل، حيث يظهر الله لموسى في العلّيقة المشتعلة الّتي لا تحترق. فهذا الإله يظهر لموسى بمظهر القويّ ولكن في الوقت ذاته كأنّه مليء من الحنّيّة، يستمع إلى أصغر الأمور قائلًا له: " لقد سمعت أنين شعبي صاعدًا إليّ من مصر " (خر 3: 7). فهذا الله الأمين لوعوده يسمع صراخ شعبه دائمًا ويعّرف عن ذاته بأنّه إله أجداده: إبراهيم وإسحق ويعقوب، الإله الّذي لم يتغيّر ولم يتخلّى عن وعوده وأمانته لشعبه لأنّه لم ولن يترك أحدًا في أشدّ المصاعب. والرّسالة إلى موسى هي خير دليل على هذه الأمانة الكبيرة وصدق الله في خلاص شعبه.
ب - اللّقاء الثّاني مع فرعون الّذي يُظهِر قساوة قلب هذا الأخير بالإضافة إلى الضّربات العشر لمصر النّاتجة عن قساوة قلب فرعون. حتّى نصل إلى الضّربة الأخيرة الّتي من خلالها سمح فرعون لشعب إسرائيل بأن يتركوا أرض مصر.
ج - اللّقاء الثّالث الّذي من خلاله ظهر الله لموسى بوجهٍ جديد، هذا الإله الحاضر إلى جانب شعبه. فالخليقة الجديدة الّتي خرجت من مصر في حاجة إلى حضور الله معها، وبان هذا الحضور أوّلًا في الصّحراء أمام يأس الشّعب ومحاولاته العديدة لاكتشاف حضور الله الغائب بالنّسبة إليهم أمام كلّ مشكلة تصيبهم في الطّريق (الجوع والعطش...)، وفي كلّ مرّة يظهر حضور الله الفاعل والمخلّص. لذلك، إنّ مسيرة شعب إسرائيل ليست إلّا مسيرة تطهيرٍ في علاقتهم مع الله ليبدأوا معه حياة جديدة. وهنا، من وصل إلى أرض الميعاد هو شعبٌ جديد وكأنّ الله يريد شعبًا لم يختبر العبوديّة لكيلا يعود إلى الوراء ويترجّى حياته السّابقة بل حياةً جديدة. والوصايا العشر ليست إلّا لتحسين العلاقة بين الشعب والله والبقاء على هذا التّواصل الثّابت معه. فأتى تابوت العهد ليذكّر الشّعب دائمًا بحضور الله الدّائم في وسطهم.

يشوع بن نون
بعد دخول الشّعب الجديد إلى أرض الميعاد مع يشوع بن نون، بدأ يختبر حضور الله الّذي يحارب معهم في معاركهم. ففي سفر خروج، يرى يشوع ملاكًا من جند الرّبّ واقفًا وبيده سيف (را خر 5: 13) للدّلالة على تمسّك الله بحماية شعبه. فمن أريحا حتّى أورشليم، قاتل الله مع شعبه لأنّه أمينٌ لكلمته ووعده الصّادق بالرّغم من عدم أمانة الشّعب وتأثير الوثنيّين عليهم. 

داود وسليمان
بعد كلّ هذه الأحداث، بدأت السّلالة الملوكيّة وخاصّةً مع الملك داود الّذي أوصاه الله أنّه من نسله يأتي المخلّص الّذي سيكون علامة خلاصٍ لشعبه. ولكن حتّى مع خطيئة داود مع بتشابع وعصيانه لشريعة الرّبّ، بقيَ الله أمينًا له. ومع سليمان، لم تعد وصيّة الله مجرّد فكرة، ولكنّها أصبحت حاضرة من خلال سلالة الملك. ومع بناء الهيكل، تكرّست فكرة الله الحاضر فقط في الهيكل والّذي لا يحضر الّا في الهيكل، حتّى تغيّرت هذه الفكرة تمامًا في وقت السّبي. 

السّبي إلى بابل
قبل السّبي، ضعف الشّعب بسبب انقسام المملكتين الجنوبيّة والشّماليّة. فإحدى المملكتين بقيت ثابتة على إيمانها أمّا الأخرى فخرجت عن مسيرة الإيمان وأدخلت إليها مظاهر عديدة من الوثنيّة. وفي وقت السّبي، سقطت مملكة الشّمال قبل مملكة الجنوب وذلك بسبب عدم أمانة مملكة الشّمال للرّبّ وكثرة الأنبياء الكذبة فيها. فالأمانة الحقيقيّة تظهر عندما ينقل الإنسان ما يجِب أن يُقال وليس ما يُحِب أن يسمعه. فمن المهم إذًا، أن نبقى أمناء لأقوالنا وأفعالنا مع الله والآخرين أيضًا. فسقوط مملكة الشّمال كان بسبب قول الأنبياء الكذبة ما يُحِبّ الملوك أن يسمعوه وليس قول الحقيقة كما هي. ولهذا، سُبِيَ الشّعب ولم يعد الهيكل موجودًا بل تهدّم كلّيًّا. وطبعًا، في هذا السّبي، خسر الشّعب الله ولم يعُد هناك من مكانٍ لصلاة الشّعب وسط هذه الأرض الغريبة والوثنيّة. وهنا، ظهر أنبياء السّبي كحزقيال ودانيال وأشعيا ليشدّدوا على فكرة الأمانة من أجل الحصول على الوعد كي يعود الشّعب إلى أورشليم ويجدّدوا بناء الهيكل. فالله، من قلب الموت يُعطي الحياة (أمانة دانيال في جب الأسود الّتي جعلته لا يُمَسّ بشيء، أمانة الله مع نبوءة حزقيال في إحياء العظام الرّميمة). فبالرّغم من كلّ سقطات الشّعب في السّبي، ظلّ الله أيضًا أمينًا له.

2 – في العهد الجديد
في الرّسالة إلى العبرانيّين يقول القدّيس بولس: " إنّ الله، بعدما كلّم الآباء قديمًا بالأنبياء مرّاتٍ كثيرة بوجوه شتّى، كلّمنا في آخر الأيّام بابنه الحبيب " (عب 1: 1-2). فالله، بعد كلّ هذه المسيرة مع الشّعب منذ العهد القديم، بقي أمينًا له حتّى أرسل له ابنه الوحيد ليخلّصه حيث قدّم هذا الابن ذاته كفّارة عن خطايا الشّعب وخطايانا جاعلًا نفسه حملًا ذبيحًا من أجلنا. فالخطيئة الكُبرى الّتي قامت بها البشريّة هي قتل الابن لأنّها لم تتقبّل أنّ " الله " صار إنسانًا. ولكنّ الله، بعد قتل الابن حتّى، أرسل روحه القدّوس، المعزّي والمُقوّي، ليؤكّد على ثبات وعده وأمانته لشعبه. فمن الضّروري إذًا، أن نبقى وسط الصّعاب الّتي نمرّ بها اليوم، أمناء لإلهنا الأمين معنا، واثقين أنّه وحده مصدر خلاصنا، فلا نخف لأنّ إلهنا معنا

خلاصة
إنطلاقًا من هذه المسيرة من العهد القديم حتّى العهد الجديد، يظهر الله دائمًا مع آدم وحوّاء أنّه إله الخلق الّذي لا يترك الإنسان بالرّغم من الخطيئة. ومع إبراهيم هو الإله الثّابت، الّذي يكرّر وعده ليذكّر الإنسان بالأمانة. ومع يوسف، يظهر كإلهٍ يكتب خطوطًا مستقيمة انطلاقًا من خطوطنا الملتوية. كما مع موسى، هو الإله الّذي يسمع ويرافق شعبه بحضوره الدّائم معه. وفي أرض الميعاد يظهر وكأنّه إله يسكن مع شعبه ويدافع عنه. وفي السّبي، هو الإله الحاضر في كلّ زمانٍ ومكان. أمّا مع يسوع المسيح، فهو عمّانوئيل، الله معنا، ومع الرّوح القدس هو إله المستحيل الّذي من يتّكل عليه لا يخزى أبدًا.

لمشاهدة الحلقة الثامنة من الموسم الأوّل من برنامج "أرِنا خلاصك" مع الخوري جورج أبو متري يمكنكم الضغط على الرابط التالي:
أرنا خلاصك - الموسم الأوّل - الحلقة الثامنة