كَسر الكلمة -14- الأحد الثاني بعد الدنح

كَسر الكلمة -14- الأحد الثاني بعد الدنح

الأحد الثاني بعد الدنح
إعتلانُ سرِّ المسيحِ للرُسُلِ
(يو 1/ 35-42)
35. وَفِي الْغَدِ أَيْضًا كَانَ يُوحَنَّا وَاقِفًا هُوَ وَاثْنَانِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ
36.  ورأى يَسُوعَ مَارًّا فحدّقَ إليهِ وقال:«ها هُوَ حَمَلُ اللهِ!»
37.  وسَمِعَ التِّلْمِيذَانِ كلامَهُ، فَتَبِعَا يَسُوعَ. 
38. والْتَفَت يَسُوعُ، فرآهُما يَتْبَعَانِه، فَقَالَ لَهُمَا: «مَاذَا تَطْلُبَانِ؟» قَالاَ لَهُ: رَابّي، أي يَا مُعَلِّمُ، أَيْنَ تُقيم؟»
39. قَالَ لَهُمَا: «تَعَالَيَا وَانْظُرَا». فَذهبا وَنَظَرَا أَيْنَ يُقيم. وَأقَامَا عِنْدَهُ ذلِكَ الْيَوْمَ، وَكَانَت السَّاعَةُ نَحْوَ الرابعةِ بعدَ الظُهر.
40. كَانَ أَنْدَرَاوُسُ أَخُو سِمْعَانَ بُطْرُسَ أَحَدَ التِلمِيذَيْن اللَّذَيْنِ سَمِعَا كلامَ يُوحَنَّا وَتَبِعَا يَسُوع.
41.  وَلَقيَ أَوَّلاً أَخَاهُ سِمْعَانَ، فَقَالَ لَهُ: " وَجَدْنَا مشيحَا أي المَسِيح". 
42. وجاءَ بِهِ إِلَى يَسُوعَ، فَحدّقَ يَسُوعُ إِلَيْهِ وَقَالَ: "أَنْتَ هوَ سِمْعَانُ بْنُ يُونَا، أَنْتَ ستُدْعَى كيفا أي بُطْرُسَ الصَخرَة".

مقدّمة
بِسُؤالٍ وجيزٍ دَخَلَ الرُّسلُ في عُمقِ التَجلّي الإلَهيّ: يا مُعَلّمُ أينَ تُقيمُ؟ أن تَعرِفَ المسيحَ يَعني أن تَعِي أينَ يُقِيمُ. هُنا هدفُ البحثِ عنِ المسيحِ، أن يُقِيمَ الإنسانُ مَعَهُ حَيثُ يُقِيمُ. منذُ البَدءِ دعَا يسوعُ الرُّسُلَ للإِقَامةِ مَعَهُ ليَبلُغُوا الى الإِقَامَةِ فِيهِ، وإِقامَتِهِ فيهم. ليسَ مِنْ إِعتلانٍ يَسمُو على هذهِ الحَقِيقةِ. فَقَد اعتَدْنَا أَن نُصَوّرَ الحَياةَ مَعَ اللهِ بِصُورَةِ مَكَانٍ فَنُسَمّيهِ تَارةً السّماءَ وَطُورًا الجَنَّة… أمَّا في الحَقِيقَةِ فَالحيَاةُ مَعَهُ لَيسَتْ الَّا الحَياة فِيهِ: إِنَّهُ يُريدُ أّنْ يُقِيمَ فِينَا وأَن نُقِيمَ فِيهِ! في هذا النَصّ، نرى يسوعَ آتيًا ليَعرفَ ما هَي رغبةُ القلبِ الحَقِيقِيّة: ماذا تَطلب؟ عَنْ مَاذا تَبْحَث؟ هذا هُوَ السُؤالُ الجَوهَريّ الذّي مِن خِلالِه سَمَحَ يسوعُ للتّلمِيذَينِ أَنْ يأتِيا ويَخْتَبِرا جَمَالَ اللِّقَاءِ مَعَهُ. ماذَا تَطلُبَانِ؟ تَعَاليَا وانظُرَا. سَعيدٌ هُوَ الإنسَانُ الذّي يَسْتَطِيعُ أَنْ يَلقَى جَوابًا في عُمْقِ أَعْمَاقِه عَن هذَا السُؤالِ الوُجُوديّ: مَاذا تَطُلب؟

شرح الآيات
35. وَفِي الْغَدِ أَيْضًا كَانَ يُوحَنَّا وَاقِفًا هُوَ وَاثْنَانِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ
دَورُ يُوحنَّا يَنْتَهي في الوَقتِ الذّي يَشرَعُ تَلامِيذُه بِاتبّاعِ يَسُوعَ وذلكَ بِنَاءً على شَهَادَتهِ. يُوحَنّا يُشعِلُ إِذًا الشَرَارَةَ الرُوحيّةِ التّي سَتُؤَدّي الى تَكوينِ الجمَاعةِ الأُولى مِنْ المُؤمِنِينَ بِشَخصِ يَسُوعَ؛ هَذِهِ الجماعةً التّي سَتُشَكّلُ نُواةَ شَعْبِ اللهِ المُنْفَتِحِ على الرَّجَاءِ المَسِيحَانيِّ المُنْتَظَر والذّي يُجَسِدُّهُ يَسُوعَ بِشَخْصِهِ.
يَلعَبُ هَذا المَشهَدُ، هُنَا، دورَ حَلَقَةِ الوَصْلِ مَع المَشْهَدِ السَّابِقِ، فَتَأتِي عِبَارَةُ "في الغَدِ" لتُشِيرَ الى مُتَابَعَةِ سَردِ الأَحدَاثِ. في هذا القِسْمُ (يو1/ 35-51)، يُوحَنّا يَشْهَدُ لمَجْمُوعَةِ ثَالِثَةٍ، أيْ لبَعْضٍ مِنْ تَلامِيذِ يُوحَنّا، عَن يَسُوعَ. 

36.  ورأى يَسُوعَ مَارًّا فحدّقَ إليهِ وقال:«ها هُوَ حَمَلُ اللهِ!»
هَذِهِ الآيَةُ تُظْهِرُ مِنْ جَديدِ صُورَةَ المَعمَدَانِ الثَّابِتَةِ ودَورَهُ الأَسَاسيّ في الدَلالَةِ عَلى شَخْصِ يَسُوعَ. كلُّ شيءٍ في يُوحَنّا يَدِّلُ عَلى يَسُوعَ. إنَّها قَضّيَةُ حَيَاتِهِ الرَئيسيّةِ التّي بِدُونِها لا مَعنَى لِوُجُودِهِ وَلِرِسَالَتِهِ. لا نَعرِفُ مِن أينَ يَأتي يَسوعَ ولا الى أينَ يَذهبُ، يُركِّزُ الإِنجِيليُّ حصْرًا في إظهَارِ نَظْرَةِ المَعمَدَانِ الثاقِبَةِ ليسوعَ الذّي يَمُّرً ويَجُولُ العَالَمَ يَصنَعُ الخِيرِ. لَقَد اعتَدنَا في الإنجيلَ على أن نَرى يَسوعَ هُوَ مَنْ يُحَدِّقُ بالإنسَانِ ويَقْرَأُ في أعمَاقِه، أمّا هُنَا فالمُفَارَقةُ أَنَّ المَعمَدَانَ هُوَ الذَّي يُحَدِّقُ بِيَسُوع. غَريبٌ هذا الإِلَه الذّي يَسمَحُ لِخَلِيقَتِهِ بِالنَّظَرِ وَالتَحدِيقِ إِليهِ،عَلَّهَا تَستَطيعُ الدُخولَ في سِرّ حُبّهِ لتسيرَ في عَلاقةٍ حَقِيقيةٍ مَعَهُ. الذّي يَرهَبُ الكَارُوبونَ والسَّرافُونَ مِنَ النَّظَرِ إِليه، نَجِدُ المَعمَدان اليَوم يُحَدّقُ فيهِ ويُعلِنُ: هذا هُو حَمَلُ اللهِ. هذِهِ المرَّةُ الثَّانِيةُ التّي يُسْمِعُنا فِيها يُوحَنّا هذا الإعتِرافُ الذّي فيهِ يَختَصِرُ شَهادَتَهُ عَن يَسُوع. 

37.  وسَمِعَ التِّلْمِيذَانِ كلامَهُ، فَتَبِعَا يَسُوعَ.
مَع أنَّ الفعلَ "يتبع ἀκολουθέω" يَعني عادةً "يَتبعُ كتِلمِيذ" بِحَسَبِ كِتاباتِ يُوحَنّا (يو1/ 43؛ 8/ 12؛ 12/ 26؛ 21/ 19. 20. 22)، إلّا أَنَّهُ قَد يَحوي أيضًا معنًى مُحَايِدًا (11/ 31). فَالكَلِمَةُ "تَبِعَا" هُنا لا تَعني بالضَّرورةِ أنّهُما أصبَحَا تِلمِيذَينِ دائِمَينِ في ذلكِ الوَقتِ بالذّاتِ، فالمَعنى الضُمنيّ قَد يَكونَ أنّهُما تَبِعا يَسوعَ ليَختَبِرا وَاقِعًا جَديدًا عَن كَثَب، بِسبَبِ شَهادَةِ يُوحَنّا. وقَد شَكّلَ هَذا الحدثُ ظُهُورًا تَمهِيديًّا لتَلاميذِ يُوحَنّا أمَامَ يَسُوع (مثلًا أندراوس 1/ 40). ولَكن في نِهايةِ الأَمْرِ، كَرَسُّوا حَيَاتَهم كَتَلاميذِ وَرُسُلِ حَقِيقِيّينَ، حِينَ دَعَاهُم يَسُوعَ للخِدمَةِ الدَّائِمَةِ بَعد هذهِ الأحدَاث. وعِندَ هذهِ النُّقطَةِ في السَّردِ يَختَفِي يُوحَنّا المَعمَدان، وَيَنصبُّ كلُّ الإهتِمَامِ عَلى يَسُوع. 

38. والْتَفَت يَسُوعُ، فرآهُما يَتْبَعَانِه، فَقَالَ لَهُمَا: «مَاذَا تَطْلُبَانِ؟» قَالاَ لَهُ: رَابّي، أي يَا مُعَلِّمُ، أَيْنَ تُقيم؟»
أَوَّلُ جُملَةٍ قَالَها يَسُوعُ في إنجيلِ يوحَنّا هي عِبارةٌ عَن سُؤَال: ماذا تَطلُبَانِ؟. في بِدايَةِ الأحداثِ التّي يُرويها يُوحَنّا في أَوّلِ فَصلٍ مِن إنجِيلِه وبالتِحديدِ في اليومِ الثالثِ (أي اليّوم الثالث على احداثِ القِسمِ الذّي نَحنُ في صَدَدِ شَرحِه)، يَطرحُ يَسُوع سؤالَه الجَوهَريّ: ماذا تَطلُبان؟". وفي يومٍ ثالثٍ آخر في نهايةِ إنجيلِه (إنجيل القيامة)، يَطرَحُ يَسُوعُ السُؤالَ عينَه على مريم المِجدَليّة:  "يَا امْرَأَةُ...مَنْ تَطْلُبِينَ؟" (يو 20/ 15). في هذَا الفعلِ"بحث، طلب ζητέω" (وَرَدَ في إنجيل يوحنّا 34 مرّة) يَسوعُ يُعطِي تَعريفًا عَنْ مَنْ هُوَ الإنسَانُ في جَوهَرِه: نَحنُ كائِناتٍ تَبحثُ، تَسألُ، تَرغَبُ وتَتُوقُ للوُصولِ الى المَعنى، مَعنى كُلِّ شيءٍ.
يَسوعُ المُعَلّمُ نَرَاهُ في الأَنَاجيلِ يَستَعمِلَ طُرُقًا مُختَلِفَةً لإيصَالِ كلامِ المَلَكوتِ الى مُستَمِعِيهِ، وهُوَ غَالِبًا لَمْ يَكُن يَدخُلُ في مُناقَشاتٍ وجِدَالاتٍ عَقِيمَةٍ لإيصَالِ أَفكَارِه، فَنَجِدُه يَلجَأُ الى الأمثَالِ كطَريقَةٍ يُكَلِّمُ بِها قُلُوبَ أحِبَّائِه: هذَا كُلُّهُ كَلَّمَ بِهِ يَسُوعُ الْجُمُوعَ بِأَمْثَال، وَبِدُونِ مَثَل لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُهُمْ (مت 13/ 34). وَلكِن الى جانبِ الأمثالِ،يَنقُلُ إلينَا الأنجِيليّونَ طريقةً أُخرَى استَعمَلها يَسوعُ في التّعليمِ وهيَ طريقَةُ طَرحِ الأسئِلَةِ. في دِراسَةٍ بَسيطةٍ للأَناجيلِ الأربَعةِ، نَجِدُ 37 مَثَلًا (مُكَرَرةً في 49 مَوضِعٍ)، في حينِ يَطرحُ يسوع أكثرَ مِن 220 سُؤالًا مُوَجّهًا للتّلاميذِ، للمَرضى، للأَصدِقَاءِ، للخُصُومِ، لليَهودِ ولِغَيرِ اليَهودِ. فَالسُؤالُ هُوَ طرِيقَةٌ في التَواصُلِ غيرُ عنيفَةٍ، لا تُسكِتُ الآخَرَ، ولَكِن تَفتَحُ مَجَالًا للحِوَارِ الصَّادِقِ، تَحُثُّ الآخَرَ وتَسْتَثِيرُهُ وفي الوقتِ نفسِهِ تَترُكُهُ حُرًّا.
في هذا السؤالِ: "ماذا تُطلبان؟"، يسوعُ يُفهِمُ التَّلاميذَ ويُفهِمُنَا نَحنُ اليومَ أنّهُ يَنقُصُنَا شّيء. البَحثُ يُولَدُ من نَقصٍ، من فَراغٍ يَتَطَلّبُ أن نَملَأَهُ. التّلمِيذانِ اللذانِ تَبِعَا يَسوعَ، لَم يَكتَفِيَا بأن يَكُونَا تِلمِيذَي أَعظَم الأنبياءِ، يُوحَنّا المَعمَدَان. لَو إكتَفَيا بِمَا قَدَمَّهُ لَهُمَا يوُحَنّا لَمَا تَبِعَا يَسُوعَ. ماذا تَطلُب؟ يَعني مَا هِيَ رَغبَتُكَ الدَّفِينَة؟ مَا هُوَ مَنشُودُكَ الأَغلَى في هَذِهِ الحَيَاة. يَسوعُ لَم يَطلُب مِنَ التّلمِيذَينِ في بادِئِ الأَمرِ تَضحِيَاتٍ وأعمالٍ خَارِقَةٍ، أَوّلُ مَا طَلَبَهُ يَسوع هُوَ الوُلُوجِ الى عُمقِ القَلبِ، عَلَّ هَذَينِ التِّلمِيذَينِ يَكتَشِفَانِ مَا هِيَ رَغبَةُ قلبَيهِما الصَّادِقَة، عَن ماذا يُفَتِّشَانِ ومَاذَا يُرِيدَان.
والمُلفِتُ أَيضًا في هذِه الآيةِ أنَّ التّلمِيذَينِ أجَابَا بسُؤَالٍ: أينَ تُقِيم؟. هذِه بدايةُ رِحلَةِ التَفتِيشِ الصَّحِيحِ، رِحلَةِ البَحثِ عَن المكانِ الذّي قَد يِجِدَا فيهِ كلَّ شيءٍ، كلَّ المَعنَى. ومِنَ المُرَجّحِ أنَّ هَذَينِ التّلمِيذَينِ لَم يُدرِكا في بادِئ الأمرِ أنَّ مَكَانَ إقامَتِهِمَا الحَقِيقيّ لَن يَكونَ مَكانًا جُغرَافِيًّا، بَل سيَكُون قلبِ إنسَانٍ-إِلَهٍ وَهُوَ الشّخصِ نفسُه الذّي يُكَلِّمُهُمَا.

39. قَالَ لَهُمَا: «تَعَالَيَا وَانْظُرَا». فَذهبا وَنَظَرَا أَيْنَ يُقيم. وَأقَامَا عِنْدَهُ ذلِكَ الْيَوْمَ، وَكَانَت السَّاعَةُ نَحْوَ الرابعةِ بعدَ الظُهر.
يَسوع دَعا التّلمِيذَينِ بِبِساطة لِيَأتِيَا معَهُ وَيَنظُرا. هَذا اللّقَاءُ مَع يسوعَ أتَى بَعدِ ظُهرِ أحَدِ الأيَّامِ ودَامَ كلَّ اللّيلِ. إنَّ هذَا السَردِ المُقتَضَب وَغَير المُزَخَرَف، يُثبِطُ أيَّ مُحاولُةٍ لإِعَادَةِ بِنَاءِ القِصّةِ أو الإِجتهادِ فيها لمَعرفَةِ تَفاصيلَ أكثَر. لذلِكَ مِن الطَبيعيّ أن يَسألَ القَارِئُ: لماذا ذِكْرُ التَوقِيتِ؟ لماذا يَحرُصُ الإنجِيليُّ على تَرجَمةِ كلمةِ رابّي في الآيةِ السابقةِ ولا يُعطِي أيَّ تَفصيلٍ عن مكانِ إقامةِ يَسوعَ أو عَن فَحوى الحَدِيثِ الذّي دَارَ بينَ يسوعَ والتّلمِيذَينِ الأوَّلَينِ في تلكَ اللّيلَةِ؟
إنَّ مَا يَهُمُّ الكاتبُ هوَ اللّقاءُ بِحَدِّ ذَاتِه بينَ يسوعَ والتّلميذَينِ، وكلُّ الباقي بالنسبةِ لَهُ هُوَ ثَانَويّ وهَامِشيّ. كلُّ مَنطِقِ القِصَّةِ والوَصفِ يَهدِفُ هُنا للوُصُولِ الى النُقطَةِ الجَوهَريّةِ، إلى اللِّقاءِ بين تِلمِيذَي النبيّ ــ الشاهد وبينَ يَسوع المعلّم ــ مشيحا. التِلمِيذانِ سَمِعَا، تَبِعَا، أتيَا، رَأَيَا، أقَامَا عندَهُ، وفي النهايةِ قَبِلَا دَعوَة يَسوعَ وهُنَا يَنتهي بَحثُهُمَا. كلُّ القِصَةِ إذاً تَسيرُ في خَطٍّ واضحٍ (العلاقة مع او اللقاء ب) على إيقَاعٍ مُنتَظِمٍ مُوَزَّعٍ على سَبعَةِ أفَعالٍ تُشَكِّلُ النَسيجَ الأدَبيّ للنَصّ: سَمِعَ، تَبِعَ، إلتَفَتَ، طَلَبَ (أو بَحَثَ)، أتَى، رَأى، أَقامَ. في عالَمِ الكتّابِ المُقدَّسِ، هذا يُقودُنا الى التّفكيرِ بالإنسَانِ البَاحثِ عَن الِحكَمَةِ ومَكنُونَاتِها: " وَالَّذِينَ يُبَكِّرُونَ إِلَيَّ يَجِدُونَنِي" (أم 8/ 17ب)؛" فَطُوبَى لِلَّذِينَ يَحْفَظُونَ طُرُقِي" (أم 8/ 32ب). اللّقاءُ بيسوعَ إذًا والإِصغَاءُ إليهِ يُعطي قيمةً لبَحثِ الإنسانِ وتَوقِه الى إيجادِ المَعنى، لأنَّه هُوَ المَعنى بِحَدِّ ذَاتِه. لذَلكَ مِنَ الضَّرورِيّ أَن يُقِيمَ هذانِ التّلمِيذَانِ عِندَهُ، أَن يُقِيمَا (يَثبُتَا) في كَلِمَتِهِ، يَستَقبِلَانِها وَيَدَعَانِها تُقِيمُ (تَثبُتُ) فِيهِمَا (يو 4/40؛ 8/ 31؛ 15/ 4-7).
وكانَت السّاعةُ نحوَ الرَابعةِ بَعدَ الظُهرِ: في العادةِ، الإنجيليّ يُوحنّا يَذكرُ سَاعةَ اللِّقاءاتِ المَصِيرِيّةِ كاللّقَاءِ بالمرأةِ السّامِريّةِ: "وَكَانَتْ هُنَاكَ بِئْرُ يَعْقُوبَ. فَإِذْ كَانَ يَسُوعُ قَدْ تَعِبَ مِنَ السَّفَرِ، جَلَسَ هكَذَا عَلَى   الْبِئْرِ، وَكَانَ نَحْوَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ" (يو 4/ 6)، وسَاعةَ الأحداثِ الخَلاصِيَّةِ كَشِفَاءِ ابنِ عَامِلِ المَلِكِ: "فَاسْتَخْبَرَهُمْ عَنِ السَّاعَةِ الَّتِي فِيهَا أَخَذَ يَتَعَافَى، فَقَالُوا لَهُ: «أَمْسِ فِي السَّاعَةِ  السَّابِعَةِ تَرَكَتْهُ الْحُمَّى»" (يو 4/ 52)، وسَاعَةَ الحُكمِ على يَسوعَ: "وَكَانَ اسْتِعْدَادُ الْفِصْحِ، وَنَحْوُ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ. فَقَالَ لِلْيَهُودِ: «هُوَذَا مَلِكُكُمْ!»" (يو19/ 14). ويَبدُو أنَّ لِقَاءَ يُوحَنّا بيسوعَ (الكثير من الشرّاح يَتَفِقُّونَ أنَّ يُوحنّا كاتبَ الإنجيلِ هُوَ التّلمِيذُ الثّاني الذي لَم يُذكَر إِسمُهُ) كانَ بهذا التَأثِيرِ المُغَيِّرِ لحَيَاتِه لِدَرَجَةِ أنَّهُ تَذَكّرَ الساعةَ بالتحديدِ حينَ إلتقى الربَّ أوّل مَرّة.

40. كَانَ أَنْدَرَاوُسُ أَخُو سِمْعَانَ بُطْرُسَ أَحَدَ التِلمِيذَيْن اللَّذَيْنِ سَمِعَا كلامَ يُوحَنَّا وَتَبِعَا يَسُوع.
مِن هَذا اللقاءِ بين يسوعَ والتّلمِيذَينِ، تَتَطوَرَت سِلسِلةٌ مِنَ اللّقَاءاتِ سَتُؤَدّي الى تشكيلِ نواةِ الجَمَاعَةِ الأُولى. الآنَ وفي هَذه النُقطةِ فَقط، يَكشِفُ لَنا الكاتبُ عَن هُويّةِ أحَدِ التّلمِيذَينِ اللذَّين أنتقَلوا مِن دَائرةِ يُوحَنّا المَعمدان الى اتِبَّاعِ يسوعَ. إنَّهُ أَندَراوُس، الّذي يُعَّرِفُه الكاتِبُ نِسبَةً لأَخِيهِ، هذَا ما يَجعلُ مِن بُطرُسَ الشخصيّةَ الأبرَز. التّلمِيذُ الآخَرُ الّذي لا يَقُومُ بِدَورٍ مُحَدَّدٍ، يَبقَى مَجهُولًا كَبَاقي التّلامِيذِ في إِنجيلِ يُوحَنّا.  

41.  وَلَقيَ أَوَّلاً أَخَاهُ سِمْعَانَ، فَقَالَ لَهُ: " وَجَدْنَا مشيحَا أي المَسِيح".
يَلعبُ أَندرَاوسَ هُنا الدَّورَ عَينَهُ الّذي لَعِبَهُ المَعمَدانِ بالشّهادةِ لِيَسوعَ. بعدَ إختبارِ اللّقاءِ بالمسيحِ، أصبحَ أندراوسَ شاهِدًا ومُبَشِّرًا وهذه حالُ كُلِّ الشخصِيَاتِ البِيبلِيَّةِ التّي اختَبَرَت اللّقَاءَ الحَيَّ بالإِلَهِ الحَيّ.
تَعبيرُ "مَشيحَا" هُوَ تَرجمةٌ حَرفِيَّةٌ مِن العِبرِيَّةِ أو الآرامِيَّةِ لنَعْتٍ يِعنِي "المِمسوح"، وهُوَ يَشتَقُّ مِن فِعلٍ يَعنِي "أن يُمسَح" أحدُهُم كعَمَلٍ يَتَضَمَّنُ تَكريسَ ذَلك الإنسانُ لوَظِيفةِ أو عَمَلِيَّةٍ خَاصّة. ففي حين كانَ هذا التعبيرُ كبادِئ ذي بَدِءٍ، يُطلَقُ على مَلِكِ إسرَائيلَ "مَسيح الرَبِّ" (1 صم16/ 6)، وعلى رَئيسِ الكَهَنةِ "الكاهن الممسوح" (لا4/ 3)، وفي فقرةٍ وحيدةٍ أُطلِقَ على الآباءِ "مُسَحَائي" (مز105/ 15)، فَقَد باتَ هذا التعبيرُ يُشِيرُ فَوقَ كلِّ شيءٍ الى المُنبَأِ بِهِ"الآتي" أو "المسيّا" في وَظِيفَتِهِ كنَبِيٍّ وكَاهِنٍ وَمَلِكٍ. فالتَعبيرُ "المسيح Μεσσίαν " كلِمَةٌ يُونَانِيّةٌ تُشِيرُ الى نَعْتٍ أصلُهُ فِعْلٌ، مُشتَقَّةٌ مِن فِعلٍ يَعنِي "يَمسَحُ" وَمُستَعمَلٌ كتَرجَمةٍ للتعبيرِ العِبريِّ، بِحَيثُ أنّ " المسيّا" أو "المسيح" هُما لَقَبَانِ وليسَا إِسمَين شَخصّيَينِ ليَسوعَ.

42. وجاءَ بِهِ إِلَى يَسُوعَ، فَحدّقَ يَسُوعُ إِلَيْهِ وَقَالَ: "أَنْتَ هوَ سِمْعَانُ بْنُ يُونَا، أَنْتَ ستُدْعَى كيفا أي بُطْرُسَ الصَخرَة".
نَحنُ أمامَ الإِلَه الذّي يُحدِّقُ بالإنسانِ، الإلهِ الذّي يَعرِفُ مَا في الإنسانَ أكثرَ مِمَّا يَعرِفُهُ الإنسانُ عَن نَفسِهِ. نَظرَةُ يسوعَ لبُطرُسَ هيَ نَظرةُ مَن يَعرفُ بُطرسَ مَعرِفَةً عَميقَةً لدَرَجَةِ أنَّ هذِهِ النَّظرَةَ قَادرةٌ على أن تٌعطي هُويّةً ورِسَالَةً جَديدَةً للمَدعُوِّ.
في إنجيلِ يُوحَنّا فَقَط، نَجِدُ الإِسمَ الآرامِيَّ "كيفا"، كَما وَنَجِدُ تَسمِيَةَ "سِمعَان بُطرُس" 17 مرّة مِن أصلِ 34 مرّة للدلالةِ على شخصِ بُطرُس.  دَوْرُ بُطرُسَ في جَمَاعَةِ الإثني عَشَر وفي الجَماعَةِ الأولى كَكُلّ، مُرتَبِطٌ بِمُبَادَرَةِ يِسوع - المسيّا الذّي يِكشِفُ  لَهُ مَهَمَّتَهُ، المَرمُوز إليها بالصّخرةِ ( يو21/ 15-19). بُطرس في لقائِه الأوّلِ بيسوعَ لا يفعلُ ولا يقولُ شيئًا. يسوعُ هو الذّي حَدَّقَ إليهِ بِنَظَراتِه النَبَوِيَّةِ، فَفَتَحَ لَهُ مُستَقبَلًا جَديدًا في التَدّبيرِ الخَلاصيّ المَسِيحَانيّ، وأخَرجَهُ من دائِرةِ العائِلةِ الصّغيرةِ (بن يونا). الى هذا الوقتِ، كان بُطرُسُ لا يَزالُ يُعرَفُ بإِسمِ "سمعان بن يونا" (الإسمُ "يونا" هو آراميّ ويعني "يُوحنّا" مت16/ 17). والتَّعبيرُ "كيفا Κηφᾶς يَعني "صخرة" بالآرامية، والذّي يُترجَمُ "بُطرُس Πέτρος " باليُونَانيّة. وإنَّ تعيينَ يسوعَ لإسمِ "كيفا" أو "بُطرس" لسِمعان، حَصَلَ في مُستَهَّلِ خِدمَةِ هذا الأخِيرِ. فهذِه العِبارَةُ ليسَت فقط إنبَاءً بِمَا سَيُدعَى به بُطرُس، بل أيضًا إعلانًا عن الكَيفيّةِ التّي فيها سَيُغَيّرُ يَسوعُ شَخصِيَّةَ بُطرُس ويَستَخدِمُهُ فيمَا يَخُصُّ تَأسِيسَ الكَنِيسَةِ (يو 21/ 18. 19؛ مت16/ 16-18؛ أع 2/ 14-4/ 32). 

خلاصة روحيّة
لَم يُدرِك التّلاميذُ الذّين تبِعُوا المُعلِّمَ الإِلَهيَ، بَعدَ شَهادَةِ يَوحَنّا المَعمدَان، أَنَهُم سَيَبلُغُونَ الى الإبنَ. ولَم يَعُوا طوال مُكُوثِهم مَع المُعَلّمِ أَنَّهُ سَيُحَدِّثُهُم عَلانيةً عَن الآبِ. لَقَد ظَلّوا غُرَبَاءَ لا يَفهَمُونَ الى حِين فَاضَ فِيهِم الرُّوحُ القُدُس فَوَهَبَهُم كُلَّ مَا للإبنِ، لِتَسكُنَ مَشيئَةُ الآبِ فِيهِم. والذين سَألوا في البدايةِ المُعلّمَ أينَ يُقيمُ ليُقيمُوا مَعَهُ، أدرَكوا في النهاية، أَنّه هو يُريدُ أن يُقيمَ فيهِم مع الآبَ وَيجَعلَ لَه عِندهُم مُقَامًا، عندما يُحبّونه ويَحفَظون مشيئَتَهُ. هذا هو مَعنى الحياةِ الحَقيقِيّة، أن نَثبُتَ فيهِ وهوَ فينَا.      

تحميل المنشور