يا كنيستي، ألم يحن الوقت؟

يا كنيستي، ألم يحن الوقت؟

بعد أزمة الكورونا لن يكون وضع العالم كما قبلها. هذا ما ستثبته الأيّام. 

فما نشهده اليوم من تغيّراتٍ جذريّة في العالم بسبب فيروس لا يمكن أن نراه في العين المجردّة، يدعونا إلى التوقّف وطرح أسئلةً جوهريّة ووجوديّة. ولعلّ أبرز هذه التغيّرات تطال الحياة الإجتماعيّة المباشرة شبه المنعدمة واستبدالها بحياةٍ إجتماعيّةٍ رقميّةٍ ووهميّة عن بُعد عبر كلّ وسائل الإتّصال والتواصل. لقد تحوّل العالم بين ليلةٍ وضحاها إلى عالمٍ رقميّ. كلّ شيء، نعم كلّ شيء انتقل إلى حِمى التكنولوجيا: العمل، الدراسة، الإجتماعات، اللقاءات وحتّى الأمور الروحيّة دخلت من هذا الباب الواسع...

أمام هذا الواقع الجديد تبرز تحدّياتٍ كنسيّةٍ وإيمانيّةٍ جديدة. ولأنّ العالم أجمع متوتّر وبحالة هستيريّة ويريد الخروج من هذا النفق المظلم، ولأنّه أصبح بأسره حاضرًا عبر وسائل التواصل الإجتماعي، تظهر اليوم تعاليم وممارسات تقويّة غريبة عجيبة تلامس التطرّف الديني و"الإيمان الصّنمي"، منها ما يمكن تبريره ومنها ما لا يمكن قبوله بأيّ شكلٍ من الأشكال.

قبل أزمة الكورونا كانت الكنيسة تدعونا إلى التزام الصمت وعدم الإنجرار إلى متاهات الجدالات اللاهوتيّة والدينيّة العقيمة على وسائل التواصل الإجتماعي وذلك تجنبًّا لخلق شرخ عميق بين المؤمنين يُترجَم بحقدٍ وكراهيّة ويعكس صورةً غير مُستحَبّة عن الإيمان المسيحي لغير المؤمنين وغير المسيحيّين. ولكن ماذا عن الوقت الحاضر؟ هل علينا أن نبقى صامتين؟

لكي نفهم ما وصلنا إليه اليوم علينا أن نلقي نظرة إلى الماضي القريب لنستشفّ منه العِبَر والخلاصات لما نراه اليوم، على حدّ قول الطوباوي الكاردينال نيومان: "إنّ تاريخ الماضي يودي بنا إلى الوقت الحاضر. والحاضر هو مسرح محنتنا. ولكي نتصرّف بطريقةٍ عادلة ودينيّة فيما يتعلّق بالأحداث المختلفة، يجب علينا أن نفهمها ؛ ولكي نفهمها، يجب علينا أن نلجأ إلى الأحداث الماضية التي أودت إليها. وبالتالي، الحاضر هو بمثابة نصّ والماضي هو تفسيره". 

لقد تأخّرنا بعض الشيء، ككنيسة في لبنان، في إدراك أهميّة ودور مواقع التواصل الإجتماعي في البشارة والتعليم. وما جرى في السنوات الأخيرة هو أنّ شريحةً من قلب الكنيسة - كهنة وعلمانيّين - أسّست ولا تزال صفحاتٍ نشرت فيها تعاليم لامست التطرّف الديني والتي ارتكزت على حصر باب الإيمان بالخوف من الله والخطيئة وعقاب جهنّم. كما بَنَت أُسُس تعاليمها على تعاليمٍ تعود إلى مجامع كنسيّة تخطّاها الزمن وإلى أقوال للقدّيسين وظهوراتٍ ورؤًى تفسّرها بشكلٍ مبالغ وخارج عن إطارها الصحيح. هذا الأمر أدّى إلى نشوء تيّارٍ في قلب الكنيسة - لا سيّما المارونيّة - يروّج لأفكارٍ بعيدة عن تعليم الكنيسة الحاليّة ولم يتجرّأ أحد - باستثناء قلّة - أن يعارض هذا التيّار لأنّه سوف يتمّ رجمه من قبل المناصرين وتكفيره ونعته بأشنع النعوت! ولا بدّ من الإشارة هنا بأنّ الكنيسة هي مؤسّسة إلهيّة مبنيّة على بشرٍ يقودها الروح القدس وهي منفتحة بشكلٍ مستمرّ على عمل الروح والوحي مع مرور الزمن ومع تطوّر الإنسان. لذلك، فمن غير المقبول أن يُعارض الإنسان المسيحي عمل الروح ويتحدّاه ويعود إلى الوراء معتبرًا أنّ كلّ ما وصلت إليه الكنيسة اليوم من فهمٍ لمشيئة الله هو عملٌ شيطانيّ وغيره! إنّ أزمة الكورونا كشفت عن عورة هؤلاء وأظهرت ممارساتٍ غريبةٍ عجيبة وتشويهٍ لصورة الله الرحوم وإله المحبّة والتسويق لتعاليم مستندة إلى ظهورات متنوّعة للعذراء للكشف عن أنّ ما يحصل اليوم هو عقابٌ من الله وأنّنا بلغنا نهاية الأزمنة وغيرها من التعاليم. كلّ ذلك إذا دلّ على شيء، فهو يكشف عن انحرافٍ في الإيمان وعن مشكلةٍ كبيرة في التنشئة اللاهوتيّة، تدفعنا ككنيسة إلى التحرّك واليقظة والكلام بحريّة وبجرأة عبر منابر التواصل الإجتماعي، لا للردّ واستخدام أسلوب الدفاع عن النفس أو التجريح بالآخرين - كما يفعل هؤلاء - بل لحسم كلّ الجدالات ووضع "المهرطقين" عند حدّهم وقلب الطاولة على "تجّار الهيكل والصيارفة" الذين يتحكّمون بقلوب وعقول المؤمنين التائهين!

نحن الكنيسة - إكليروسًا بشكلٍ خاصّ وعلمانيّون بشكلٍ عامّ - مدعوّون اليوم للتفكير بأساليبٍ جديدة للتبشير والتعليم وذلك لأنّ الوثائق والرسائل التي تُصدِرها بين الحين والآخر لا تكفي - لأنّ هذه في العادة لا يقرأها إلاّ الكهنة وشريحة من العلمانيّين المثقّفين - إن لم تُتَرجَم بطريقةٍ عمليّة بسيطة لتُحاكي كلّ مؤمن لا سيّما مَن ظنّ بأنّه هكذا يكون الإيمان من خلال اللجوء إلى التديّن الطبيعي والخوف. 

تدعونا الكنيسة نحن الكهنة اليوم للإستفادة من التكنولوجيا لنشر القداديس والصلوات المتنوّعة، ولكن أنا اليوم بإسمي وباسم كثيرٍ من الكهنة والعلمانيّين أتوجّه بصرخة ألمٍ وبنداء ٍ عاجلٍ إلى كنيستي "الأمّ والمعلّمة":

يا كنيستي، ألم يحن الأوان لكي نستفيق من سباتنا العميق ونكسر جدار الصمت لنقول كلمة الحقّ ولنخرج بأفكارٍ خلاّقة، جديدة وجريئة لنشر التعليم الصحيح بطريقةٍ واضحة ولافتة تحاكي كلّ المؤمنين؟

ألم يحِن الوقت لنضَع حدًّا لكلّ مَن يتطاول عليكِ في تعليمه ويخرج عن طاعتكِ؟

ألم يحِن الوقت لنتجاوز خجلنا وخوفنا من العالم الرقمي وندخل إليه من الباب العريض للقيام بثورة محبّة للّقاء بأبنائنا أينما وُجِدوا؟ 

ألم يحِن الوقت لكلّ أسقفٍ مؤتمنٍ على التعليم أن يكون حاضرًا بوضوح على منابر التواصل الإجتماعي الكنسيّة ليكون إلى جانب أبناء رعيّته ويعطيهم كلمة رجاءٍ وبصيص أمل؟

ألم يحِن الوقت لنفتح أبواب كنائسنا وأديارنا ومطرنيّاتنا ونذهب لملاقاة المؤمنين الذين يعيشون على الأطراف في قلب العالم الرقميّ؟

وفي انتظار حلول هذا الوقت، أعدكِ بأنّني وإخوتي الكهنة سَنَعمل ما بوِسعنا لحمل راية التّعليم الصحيح وعيش الأمانة والطاعة لكِ ودعوة المؤمنين إلى الإيمان بكنيسةٍ واحدة، جامعة، مقدّسة ورسوليّة.