المشروع الكهنوتي للخوري شربل الخراط

المشروع الكهنوتي للخوري شربل الخراط

إنّي إذ بلغت إلى هذا اليوم الّذي فيه أكتُبُ بواسطة هذه الأسطر مشروعي الكهنوتيّ، أو الرؤية الّتي أرى من خلالها خدمتي الكهنوتيّة المُستقبليّة، لا بُدّ لي في بادئ الأمر أن أقوم بفعلَين أساسيَّين. الأوّل فعل استذكار، والثاني فعل اعترافٍ وتسليمٍ في آنٍ معًا.

أوّلًا: فعل استذكار

والمقصود بهذا الفعل إعادة قراءة سريعة لكلّ ما عشتُهُ في حياتي والّذي كان له الأثر الأكبر في إنماء بذور الدعوة إلى الكهنوت، وترسيخها في كياني.

أستذكر اختبارًا عشته وأنا في عمر الثامنة من العمر، حين غيَّب الموت والدي، ونمت في داخلي قناعة إيمانيّة راسخة بأنّ الموت ليس سوى انتقال إلى الحياة الأبديّة، وبأنّ والدي الّذي غاب عنّي بالنظر لا يزال يحيا معي في المسيح يسوع. كيف أنسى في هذه المحنة، كلّ الأوقات الّتي خلالها ضاقت بي وبعائلتي الحياة، وكان الله هو المُدبّر دائمًا لأمورنا. كيف أنسى في هذه المرحلة كلّ المرّات الّتي كنت فيها ألتجئ إلى حمى مريم سيّدة النجاة، والدة الإله في كنيستها في بكفيّا؟! لا يُمكنني سوى أن أضع هذه المرحلة من حياتي نصب عينيّ في كلّ حين. فخلالها اختبرت حقًّا أنّ الله أبٌ محبٌّ حيٌّ حاضرٌ أبدًا مع مَن يطلبه. هذه هي المرحلة التّي خلالها بدأ التزامي بالربّ بشكلٍ أساسيّ، وأخذ ينمو مع تقدّمي بالعمر والخبرة الحياتيّة والإيمانيّة.

كذلك أستذكر أيضًا اختبار ٱلتزامي الرعويّ في رعيّة مار ميخائيل بكفيّا، وهي الرعيّة الّتي ولدتني للمسيح من أحشاء المعموديّة. فيها تذوّقت جمال الحياة الكنسيّة ولمست روعتها من خلال انخراطي في الحياة الرعويّة، منذ أن كنت في عمر العشر سنوات. لكن وبالأكثر أستذكر اختبار خدمتي كـ"واهف" للرعيّة ما بين سنتي 2003 و 2015 سنة طُلِبُ منّي مُغادرة الرعيّة لعيش خبرات رعويّة في رعايا أخرى من رعايا الأبرشيّة. هذا الاختبار بالذّات جعلني، بحكم قربي من كهنة الرعيّة ومُعاونتي لهم في خدمتهم، ألمس جمال الكهنوت الأبرشيّ وروعته من خلال وظائفه الثلاث في التقديس والتعليم والتدبير. وبفضل هذا الاختبار اكتشفت حقيقةً على حدّ قول كاتب المزامير أنّ ما من شيءٍ أحبُّ إلى قلبي أكثر من مساكن ربّ الجنود، هو وحدَه الّذي تشتاق وتذوب نفسي إلى دياره، وإليه فقط يُهلِّل قلبي وجسمي. 

كلّ هذا أنمى في داخلي الرغبة في أن تكون حياتي بجملتها مكرّسة للحياة الكنسيّة عبر الكهنوت الأبرشيّ. وأوصلني إلى يوم سيامتي الشماسيّة، وأنا تتملّكني الآية المزموريّة القائلة: "في يديك أستودع روحي، أيُّها الربُّ إلهُ الحقِّ أنتَ افتَدَيتَني" (مز 31/ 6).


ثانيًا: فعل اعترافٍ وتسليم

كيف لي، أنا الّذي اختبرتُ عظمة الربّ ولمست عظائمه في حياتي، ألّا أرى على ضوئها ضعفي ومحدوديّتي، وألّا أعترف بأنّي غير أهلٍ لشرف الكهنوت الخِدَميّ المقدّس. فإنّني أنا أيضًا، على حدّ قول رسول الأمم في رسالته إلى أهل روما (7/ 19)، غالبًا ما أتقاعس عن عمل الخير الّذي أريدُه، وأمّا الشرّ الّذي لا أريده فإيّاه أفعل. في حين أنّ تكرّسي للخدمة في الكهنوت يُحتّم عليّ أن أكون في كلّ وقتٍ انعكاسًا لبهاء وجه المسيح المخلّص أمام العالم كلّه، إلّا أنّني كيف أعكس هذا البهاء وأنا بذاتي مشوّه بفعل الضعف والمحدوديّة!

ولكن لستُ أقوم بفعل الاعتراف هذا بمنطق استسلامٍ انهزاميٍّ أمام الضعف والمحدوديّة، بقدر ما أقوم به كي أرسّخ في ذهني حقيقة أنّني بحاجةٍ دائمة لأن أسلّم ذاتي في كلّ وقتٍ للربّ فاديّ، مستودعًا روحي بين يديه، فإنّني لن أتمكّن من فعل الخير إلّا بوسطته تعالى، هو الّذي يقويّني.


أمّا الآن وقد أشرفتُ على التقدّمِ من دَرَجَةِ الكهنوت الخدمي بفعل وضع يدكم يا صاحب السيادة، أرغب من خلال ما يلي أن أحدّد رؤيتي للخدمة الكهنوتيّة الّتي أرغب أن أعيشها. ذلك كي تبقى هذه السطور مقياسًا أعود إليه كلّما شعرتُ بفتورٍ في الخدمة، علّها تُعيد إليّ حرارة وحماس البدايات، وتدفعني أكثر للغوص في مسيرة الخدمة الكهنوتيّة.

إنّ رؤيتي هذه يحدّدها الإنجيل نفسه من خلال نصّ الراعي الصالح في الفصل العاشر من إنجيل يوحنّا. فمَن هو الراعي الصالح إذا ما كان يسوع المسيحُ نفسُه. فبذلك إذًا، تكمن رؤتي للكهنوت في اقتدائي بيسوع المسيح الرّاعي الصالح هو الّذي يدعو خرافه كلّ واحدٍ باسمه (يو 10/ 3)، ويسير قدّامها وهي تتبعه لأنها تعرف صوته (يو 10/ 4)، كما أنّه يبذل نفسه في سبيل الخراف (يو 10/ 11)

‌أ. الراعي الصالح يدعو خرافه كلّ واحدٍ باسمه

 وأنا إذا أردتُ الاقتداء بالراعي الصالح في حياتي الكهنوتيّة فلا بدّ لي أن أسهر في كلّ وقت على معرفة الرعيّة الموكلة أليّ. وأن أعرف كلّ الرعيّة. هذا يعني أن أحرص على أن تكون رعايتي موجّهة للجميع: الفقير والغنيّ، المريض والصحيح، الملتزم في الكنيسة وبأولى حجّة غير الملتزم... ولا أعني بمعرفتي لأبناء الرعيّةالمعرفة السطحيّة الشكليّة فقط، بل أعني بها السّعي لمعرفة همومهم، وهواجسهم، كي أبذل جهدي في تأمين الدعم لهم، أقلّه من خلال الصلاة. ويبقى الأهمّ أن أسعى كي أتبيّن أفضل، المسيرة الروحيّة لكلّ واحدٍ من أبناء الرعيّة وأرافقهم، إذ إنّ غاية هذه المسيرة هي البلوغ إلى الحياة بيسوع المسيح. ومن واجبي أنا ككاهن المسيح، وكراعٍ على مثال الراعي الصالح، أنّ أصبّ كلّ مجهودٍ أقوم به، لا بل أن أصبّ كلّ تكرّسي في سبيل مواكبة أبناء رعيّتي في مسيرتهم الروحيّة هذه وإلّا لتحوّلت خدمتي إلى خدمة إجتماعيّة بحتة. وهناك مَن هُم أكثر كفاءة من الكاهن لهذا النوع من الخِدَم. فالكاهن السالك على خطى الراعي الصالح هو بحسب رؤيتي، من يسعى بالدرجة لأولى ليُساعد رعيّته للنموّ بالقداسة، فينمو فيها هو أيضًا بدوره. 

‌ب. الراعي الصالح يسير قدّام خرافه وهي تتبعه لأنّها تعرف صوته

وأنا إذا أردت الاقتداء بالرّاعي الصالح في حياتي الكهنوتيّة لا بدّ لي من أن أسير قدّام رعيّتي في الطريق المؤدّي إلى الحياة بيسوع المسيح. ولا يعني السير أمامها إلّا أن أكون أنا أوّلًا مثالًا حيًّا أمام الرعيّة بعيش الفضائل المسيحيّة والٱلتزام بها. وهذا يعني أن ألتزم أنا أوّلًا ككاهن بعيش التعليم الموكل إليّ تعليمه بفعل الكهنوت الخدميّ، هذا من ناحية. أمّا من الناحية الثانية فإذا أردت رعاية الرعيّة فلا بدّ لها أن تعرف صوتي كي تسترشد به في مسيرتها. وكي تعرف الرعيّة صوت راعيها، يتوجّب على هذا الأخير أن يُخاطبها في كلّ وقت. وبما أنّ الكاهن، هو راعٍ باسم يسوع السيح، فما من كلام رعايةٍ يخاطب به الكاهن الرعيّة الموكلة إليه، سوى كلام الإنجيل وتعليم الكنيسة والآباء القديسين. وإنّ بالتالي الأمانة لهذه الناحية من الرسالة الكهنوتيّة، أمانة لوظيفة التعليم الموكلة إلى كلّ كاهنٍ في التكرّس الكهنوتيّ، من خلال وضع اليد، وبفعل النعمة الإلهيّة.

‌ج. الراعي الصالح يبذل نفسه في سبيل الخراف

وأنا إذا أردت الاقتداء بالرّاعي الصالح في حياتي الكهنوتيّة، ليس أمامي سوى السّعي لكي أبذل نفسي من أجل الخراف. وهذا الفعل يفترض المحبّة بالدّرجة الأولى، لأنّه كيف يبذل الإنسان نفسه في سبيل من لا يُحبّ، إذ ما من حبٍّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه في سبيل أحبّائه (يو 15/ 13). وهذا ما ٱختبرته شخصيًّا مع الربّ، حين أدركت أنّه بذل نفسه على الصليب محبّةً بي أنا شخصيًّا، وبكلّ إنسان. لذلك ولكي أبقى أمينًا لمهمّتي هذه كراعٍ مُقتدٍ بالرّاعي الصالح، وَجَبَ عليّ أنا أيضًا أن أبذل نفسي، حتّى الموت عن الذات في سبيل حياة الرعيّة، وبما فيه خيرها وخلاص نفوس أبنائها.

هذا يعني بطريقةٍ عمليّة، أن أسعى جاهدًا في إدارتي لحياة الرعيّة أن أجعل همّ الرعيّة من ضمن أولويّاتي، ولو كان ذلك على حساب راحتي الشخصيّة. بالإضافة إلى الإصرار على إحلال العدل والحقّ في الخدمة الرعويّة، وبعدم المُساومة على الشفافيّة بالخدمة والتمسّك بالحقيقة في كلّ وقتٍ وآن. وفي الربّ يسوع الحقيقة المطلقة، فالتمسك بالحقيقة إذًا، إنّما هو تمسّكٌ بالربّ. هذا كلّه تضمنه الشفافيّة المصقولة بالاحتراف في إدارة تدبير شؤون الرعيّة. وفي هذا أيضًا أمانة لوظيفة الكاهن المُدبّر لرعيّته، إلى جانب تعليمه وتقديسه لها.


بعد هذه النظرة المُختصرة عن مفهومي للخدمة الكهنوتيّة والّتي أرجو أن تكون شاملة إلى حدٍّ ما. يبقى أن أتعهّد من خلال مشروعي هذا أن أبقى دومًا أمينًا لتعليم الكنيسة الجامعة المقدّسة الرسوليّة، مُحافظًا على الإرث الّذي نقله إلينا الآباء القديسون، لا سيّما إرث كنيستنا الأنطاكيّة السريانيّة المارونيّة، حريصًا على إتقان الليتورجيّا المقدّسة في كلّ الإحتفالات. فهي تعكس حضور المسيح وسط شعبه، كما أنّها انعكاسٌ لليتورجيّة السّماء حيث الملائكة لا ينفكّون يسبّحون الله بتهليلات مثلّثة التقديس، فلا بدّ أن يعكس احتفالنا الليتورجيّ جمال هذه الحقيقة الإيمانيّة، وللكاهن الدور الأساسيّ في ذلك.

وأخيرًا وليس آخرًا، أؤمن أنّني ولو قبلت سرّ الكهنوت المقدّس، وصرت بالنّسبة إلى لعالم كلّه كاهن المسيح الإله، العامل في حقل كنيسته، إلّا أنّني أرجو أن أبقى في علاقتي به تعالى، تلميذًا متواضعًا، يسعى في حياته للتعرّف إلى الربّ والشهادة له أكثر يومًا فيوم. نعم، إنّني أرجو بصدقٍ، أن أبقى ذلك التلميذ الّذي يبحث عن الغوص الدائم في عُمق السرّ الإلهي، الكائن منذ الأزل والباقي إلى الأبد، كي أودعه ذاتي في كلّ وقت وأجد فيه راحتي.

إنّني أسأل الله إلهي وسيّد حياتي، أن يعتقني من كلّ شرٍّ، وأن ينعم عليّ بروح العفّة وٱتّضاع الفكر والصبر والمحبّة والوداعة، وأن يعضدني بروحه القدّوس كي أبقى أمينًا لمشروعي هذا، حتّى الموت، مؤمنًا بقوله في سفر الرؤيا: "كُنْ أَمِينًا حَتَّى الْمَوت، وأَنا أُعْطِيكَ إِكْلِيلَ الـحَياة" (رؤ 2/ 10) وهي الآية الّتي أردتها أن تكون لي شعارًا في حياتي الكهنوتيّة. 

لا يسعني ختامًا إلّا أن أشكر الله على كلّ ما أنعم به عليّ في حياتي حتّى اليوم، وما سينعم به عليّ في المستقبل. فمنه كلّ خيرٍ وصلاح. لكني وبالأكثر أشكره على ما زرعه فيّ من رغبةٍ للتكرّس في الخدمة الكهنوتيّة، هذه الرغبة الّتي وجدت فيها فرحة حياتي.

أشكر الله على عائلتي: فأبي وأمّي وأخي وأختيّ وعائلاتهم، هم أوّل من همس في أذني ٱسم الربّ وشجّعني على ٱتّباعه.

أشكر الله على رعيّتي في بكفيّا، وعلى كلّ من وضعه على طريقي وكان له أثر كبير في نموّ دعوتي، من آباء لجنة الدعوات في الأبرشيّة، وآباءٍ منشئين وأساتذة في الإكليريكيّة البطريركيّة المارونيّة في غزير، وفي كليّة اللاهوت الحبريّة في جامعة الروح القدس – الكسليك.

أشكر الله على كلّ الإخوة بالمسيح الّذين لا تربطني بهم قرابة الدم، وإنّما قرابة روحيّة تكاد تكون أحيانًا أقوى من قرابة الدم، وهم يدعمونني بصلاتهم وحضورهم ونصحهم الأخوي.

أشكر الله على رعايتكم يا صاحب السيادة، أنتم أيقونة المسيح في كنيسة أبرشيّة أنطلياس المارونيّة، وبواسطتكم كان لي الجواب على أنّ ما أشعر به من رغبةٍ للتكرّس للخدمة في الكهنوت، إنّما هو دعوة من الربّ.

أسألكم يا صاحب السيادة أن تقبلوا مشروعي هذا، معبّرًا لسيادتكم عن كامل طاعتي للكنسية، ومحبّتي البنويّة. آملًا أن يكون هذا كلّه لتمجيد الله وبنيان الكنيسة.