البَرصُ الإلكترونيّ

البَرصُ الإلكترونيّ

خبرٌ عاجل: برصٌ يجتاحٌ مجتمَعَنا ويتغَلغَلُ في أبنائنا لاسيّما الصّغارَ منهم! برصٌ أخطرُ بكثيرٍ من البرصِ الجسديّ: إنّه البرص"الالكترونيّ"!

إنَّهُ مرضٌ يصيبُ إنسانَ اليوم عندما يقرّر بملء ِإرادتِهِ أن يخرج بشكلٍ شبهِ نهائيٍّ من العالم الواقعيّ ويدخل إلى "العالم الافتراضي"بكلّ وسائله: وسائل الاتصال الاجتماعي، الألعاب الالكترونيّة إلخ. طبعًا أنا لا أقصدُ هنا من يستخدمُ هذه الوسائل بطريقةٍ منتظمةٍ بل من يقضي ساعاتٍ تكادُ لا تنتهي أبدًا .


أسبابُه

1- الخوف من الناس ومن ردّة فعلهم. فالآخر هو عالمٌ مليءٌ بالمخاطرِ والمفاجآت، لذلك يفضّل "الأبرص" وسائل التّواصل والألعاب الالكترونيّة التي تؤمّن له الأمان والرّاحة. فمن يزعجني مثلًا بكلماتِه على الواتساب أحذفُه وأنهي حضوره: " بلوك" فأرتاح منه. 

2-الشعور بالرّفض من قبل أهله وأصدقائه. فالانسان بطبيعتِهِ يخافُ من كلمة "لا" ويطمحُ أن يجد شخصًا أو شيئًاا ينفّذ كل أوامرَه ويقول له "نعم" لكلّ ما يطلبُه. ومن هي القادرة أن تفعل هذا؟ إنّها التكنولوجيا بكلّ وسائِلِها. 

3- نقص في الاهتمامِ من قبل الأهل والاخوة بسبب الموت أو الغياب. ومن باستطاعتِهِ أن يفعل هذا ؟ إنّها الألعاب الالكترونيّة ووسائل التّواصل التي تشعر الأبرص بقيمتِه وتقدّم له الفرحَ والحبَّ (المزيّفين) مثلًا: "مبروك لقد انتقلتَ إلى المرحلةِ المقبلة"، "مئتي إعجاب على الانستغرام". 


عوارضُه

1- الفرديّة والعزلة والتّقوقع التّام، فالأبرص يسكن في عالمٍ عدد سكانِهِ شخص واحد: "هو". وكما كان الأبرص في الانجيل يصرخ "نجس نجس" كي يبتعد عنه الناس فلا يتدّنسوا، يصرخ أبرص اليوم : "ما حدا يزعجني أنا مشغول" كي لا يدخلوا غرفَته وعالمه. 

2- الّلامبالاة و"التّخدير" أمام أفراحِ وآلامِ المقرّبين منه. فكلّ ما يهمّ الأبرص هو لعبته و"تواصله المزيّف". لقد أصبحَ فراغ بطاريّة الهاتف أو عطلٌ بسيطٌ في شبكة الاتصالات لبضع ساعات يخضُّ الفرد والمجتمع بأسرِه أكثر من تفشّي الفقرِ والفسادِ والجوعِ في العالم. 

3- الادمانُ على هذه الوسائل بطريقةٍ مخيفةٍ فهي ترافقه في كلّ زمانٍ ومكانٍ ولا يستطيع التوقّف عن استعمالها. من هنا، افتتح مؤخّرًا أوّل مستشفى في العالم لعلاج إدمان الانترنت في ولاية بنسلفانيا في الولايات المتحدة الأميركيّة. ولكن هل يكفي هذا المشفى لحلِّ المشكلة؟


دواء هذا المرض: الحنان والرّحمة

لقد أصبحتْ هذه الوسائل " إلَهًا" للكثيرين حول العالم. فمن هو القادر أن يشفي أبرص اليوم من مرضِهِ الخطيرِ الذي يُهَشِّمُ حياتَهُ على جميع الأصعدة؟ إنّه الربّ يسوع وكلَّ من يريدُ التشبّه به. لنتأمّل كيف شفى سيّدنا يسوع المسيح الأبرص في إنجيل مرقس من دائِهِ. 

1- دخل يسوع إلى عالمِه، إلى قفرِه. لم يرسلْ واحدًا من تلاميذِهِ ليتواصل معه أو لم ينظر إليه من بعيدٍ بل دخل إلى قلبِ حياته وصحرائه. وعندما رأى الأبرص مجازفةَ الحبّ الّتي قام بها الرب، تفتّحت عيناه وعرفَ حاجتَه الحقيقيّة أي إلى الشفاء والخلاص "إن شئتَ فأنتَ قادرٌ أن تطهّرني" (مر 1: 40) . 

2-دخل معه يسوع في حوارٍ وبلغةٍ يفهمها الأبرص جدًّا ويحتاج إليها: لغة الحنان والرحمة. لقد شفاه الرب من خلال لمستِهِ وكلمتِه. يقول البابا فرنسيس: "المحبّةُ مبدعةٌ في إيجادِ اللغةِ المناسبةِ للتواصلِ مع جميعِ الذين يعتبرون أنَّ لا شفاءَ لهم ولا يمكنُ حتّى لمسهُم". لقد حمل يسوع كل أنواعِ برصنا، هو البريء من كلّ وصمةِ خطيئة فشُفينا بجرحِه وتقدمةِ ذاته ذبيحةً عنّا. كم هو ضروريٌّ أن نتعلّم لغةَ الحبِّ والرحمةِ في تعاملنا مع الآخر بدلَ لغةِ الصراخِ والضربِ ! 

3-أخرجَه الربّ من بريّتِه وأعاده إلى العالم الحقيقيّ، إلى الشركة مع الجماعة. لا يا جان بول سارتر، "الجحيم ليس الآخر"! الجحيم هو الانغلاق في عالمنا الخاصّ بعيدًا عن الآخر. أحيانًا نقول في قلب مشاكلنا "ليتنا نسّاكًا" وننسى أنّ النّاسكَ لم يهربْ من النّاس بل لشدّة محبّته لهم ولله قرّر أن يأخذ مسافةً منهم فيحملهم في صلاتِهِ ليلَ نهار.


فيا ربّ أصلّي لك في هذا النهار على نيّة إنسانِ اليوم كي لا يخفْ أن يسمح لك الدخول إلى عالمِه فتلمسَه وتشفيَهُ من مرضِه، فأنتَ وحدكَ الطبيبُ القادرُ على كلِّ شيء وإليك أرفعُ المجد والشكرَ الآن وإلى الأبد. آمين.